الثلاثاء، 17 أغسطس 2021

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا تحارب الدول الغربية تركيا ؟      

من كتاب " صدام الحضارات " – إصدار 1996م

للكاتب العملاق : صامويل هنتنجتون

لمحة عن تاريخ العلاقة بين الدول الغربية وتركيا:

الكاتب - العملاق صامويل هنتنجتون الذي تربع على عرش الكتابة السياسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين دون منافس – تناول مسألة العلاقة بين تركيا والدول الغربية التي يجمعها ما أسماه الكاتب " الحضارة الغربية " في كتابه القيم "صدام الحضارات" موضحا أسباب عداء هذه الدول لتركيا ، ونحن ننقل ما قاله في هذه المسألة ، ولم نتدخل سوى بمحاولة ترتيب ما قاله ترتيبا زمنيا مع وضع عناوين لكل عبارة أو مجموعة من العبارات لها مضمون معين.

وجدير بالذكر أن الدول الغربية لها أياد خفية في كافة الانقلابات التي وقعت في تركيا ، وأنها لم تتوقف عن هذه المحاولات حتى الآن .

وسوف نبدأ بما قاله الكاتب عن تاريخ العلاقة بين تركيا والدول والغربية ، وفي هذا الصدد يقول :

" الفتح العربي السريع لشمال إفريقيا والشرق الأوسط في القرن السابع بلغ أوجه في عهد الخلافة الأموية وعاصمتها دمشق ، بعد ذلك استمر في القرن الثامن مع الخلافة العباسية في بغداد والتي كانت متأثرة بالفرس ، ثم مع خلافات ثانوية ظهرت في القرن العاشر في القاهرة وقرطبة .

بعد ذلك بأربعة قرون اجتاح الأتراك العثمانيون الشرق الأوسط واستولوا على القسطنطينية في 1453م ، وأسسوا خلافة جديدة في 1517م ، وفي نفس الوقت تقريبا غزت شعوب تركية أخرى الهند وأسست إمبراطورية المغول .

صعود الغرب قلل من شأن الإمبراطوريتين العثمانية والمغولية ، كما أن نهاية الإمبراطورية العثمانية تركت الإسلام دون دولة مركز ، وتم تقسيم أراضيها بين قوى غربية ، وعندما انسحبت تلك القوى خلفت وراءها دولا مؤسسة على نموذج غربي ، بعيد كل البعد عن تقاليد وتراث الإسلام .

**********

ويضيف الكاتب في موضع آخر قائلا :

" عبر سلسلة من الإصلاحات المحسوبة بدقة في العشرينيات والثلاثينيات حاول " مصطفى كمال أتاتورك " أن يحرك شعبه بعيدا عن ماضيه العثماني الإسلامي ، وكانت المبادئ الأساسية أو السهام الست الكمالية هي:

( الشعبية ، الجمهورية ، القومية ، العلمانية ، الدولانية ، الإصلاحية ) ، رافضا لفكرة الإمبراطورية متعددة الجنسيات ، كان هدف أتاتورك إنشاء دولة قومية متجانسة ، وطرد وقتل الأرمن واليونانيين في هذه العملية ، فخلع السلطان وأقام نظاما جمهوريا للسلطة السياسية علي النمط الغربي ، وألغى الخلافة – المصدر الرئيسي للسلطة الدينية - ، وأنهى التعليم التقليدي والوزارات الدينية ، وألغى المدارس والمعاهد الدينية المستقلة ، وأقام نظاما علمانيا للتعليم العام ، وألغى المحاكم الدينية التي كانت تطبق الشريعة الإسلامية ، وأتى مكانها بنظام جديد مؤسس علي القانون الدولي السويسري ، كما استبدل التقويم التقليدي بالتقويم الميلادي ، وألغى قاعدة " الإسلام الدين الرسمي للدولة " .

وحاكى "بطرس الأكبر" وحرم لبس الطربوش لأنه كان رمزا للتقليدية الدينية ، وشجع الناس على لبس القبعات ، وأصدر قرارا بأن تُكتب اللغة بالحروف الرومانية بدلا من الحروف العربية ، وكان لهذا الإصلاح الأخير أهمية سياسية ، فقد جعل من المستحيل على الأجيال الجديدة التي تعلمت بالأبجدية الرومانية أن تصل إلى ذلك الكم المهم من الآداب التقليدية ، وشجع على تعلم اللغات الأوروبية.

وبعد أن حدد الهوية الوطنية والسياسية والدينية والثقافية للشعب التركي ، حاول أتاتورك بشدة أن يدفع بالتقدم الاقتصادي لتركيا .

كان التغريب ( أي التحول إلى القيم الثقافية الغربية ) يسير جنبا إلي جنب مع التحديث ، كما كان الوسيلة إليه .

أثناء الحرب الأهلية في الغرب بين 1939م و 1945م ، كانت تركيا محايدة ، وبعدها تحركت بسرعة أكبر نحو ربط نفسها بالغرب ، واقتفاءً لأثر النماذج الأوربية بوضوح انتقلت تركيا من نظام الحزب الواحد إلى نظام حزبي تنافسي.

انضمام تركيا إلى حلف " الناتو ".

حاولت تركيا كثيرا الانضمام إلى " الناتو" ، ثم تمكنت من الحصول على عضويته في سنة 1952م ، وبذلك ثبتت نفسها عضوا في العالم الحر ، كما أصبحت تتلقى بلايين الدولارات من المساعدات الاقتصادية والأمنية الغربية ، قواتها المسلحة يقوم الغرب بتسليحها وتدريبها ، وتم استيعابها في بنية قيادة " الناتو" ، كما استضافت قاعدة عسكرية أمريكية ، وأصبح الغرب ينظر إلي تركيا علي أنها حصنه الشرقي الواقي ، والمانع لتوسع الاتحاد السوفييتي نحو البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط والخليج الفارسي .

تعرض تركيا للنقد خلال فترة ارتباطها بالغرب.

الارتباط بالغرب والتوحد به جعل الدول غير الغربية ودول عدم الانحياز يشجبون الأتراك في مؤتمر باندونج عام 1955م ، كما هاجمتها الدول الإسلامية على اعتبار أنها دولة كافرة ، وبعد الحرب الأوربية ظلت النخبة التركية مؤيدة تماما لكون تركيا غربية وأوربية .

الحفاظ على عضوية " الناتو" شيء لا يمكن الاستغناء عنه لأنها تقدم لهم رابطة تنظيمية وثيقة وحميمة بالغرب ، كما أنها ضرورية لموازنة اليونان .

تورط تركيا مع الغرب المتمثل في عضويتها في " الناتو" كان على أية حال نتاجا للحرب الباردة ، ونهاية الحرب الباردة تزيل السبب الرئيسي لهذا التورط ، وتؤدي إلي إضعاف وإعادة تعريف تلك الصلة .

تعرض تركيا للنقد داخليـــا وخارجيـــــا

بسبب مشاركتها في الحرب علي العراق

لم تعد تركيا مفيدة للغرب كحصن ضد الخطر الرئيسي من الشمال ، ولكنها بالأحرى – كما حدث في حرب الخليج – شريك ممكن في التعامل مع أخطار أقل من ناحية الجنوب.

في تلك الحرب قدمت تركيا مساعدة أساسية للتحالف المضاد ل " صدام حسين " ، وذلك بإغلاق خط الأنابيب المار عبر أراضيها والذي كان يصل بترول العراق عن طريقه إلي البحر الأبيض المتوسط ، وكذلك بالسماح للطائرات الأمريكية أن تعمل ضد العراق من قواعد في تركيا .

هذه القرارات من قبل الرئيس "أوزال" على أية حال أثارت انتقادات واسعة داخل تركيا ، وأدت إلي استقالة وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة ، إلى جانب قيام تظاهرات عامة واسعة اعتراضا على التعاون الوثيق بين أوزال والولايات المتحدة الأمريكية .

وفيما بعد كان الرئيس "ديميريل" ورئيسة الوزراء " تشيللر" يحثان على سرعة رفع عقوبات الأمم المتحدة عن العراق ، الأمر الذي فرض علي تركيا عبئا اقتصاديا كبيرا كذلك .

استعداد تركيا للعمل مع الغرب في تناول الأخطار الإسلامية من الجنوب غير مؤكد ، وبدرجة أكبر مما كان استعدادها للوقوف معه ضد الخطر السوفييتي .

ألمانيا ترفض مساندة تركيـــا

ضد هجمات العراق المحتملة

أثناء حرب الخليج عارضت ألمانيا – الصديق التقليدي لتركيا - اعتبار أي هجوم عراقي بالصواريخ على تركيا اعتداء على " الناتو" ، مما أوضح أن تركيا لا تستطيع أن تعتمد على الدعم الغربي ضد التهديدات الجنوبية .

مواجهات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي لم تؤد إلى إثارة سؤال " الهوية الحضارية التركية " ، بينما علاقات ما بعد الحرب الباردة مع الدول العربية تؤدي إلى ذلك .

محاولات تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوربي:

ومنذ بداية الثمانينات ، كان أحد الأهداف الرئيسية وربما الهدف الرئيسي الأول للسياحة الخارجية للنخبة التركية ذات التوجه الغربي ، هو الحصول على عضوية الاتحاد الأوربي.

 

الاتحاد الأوربي يماطل تركيا

بخصوص طلــب الانضمـــام

تقدمت تركيا للعضوية رسميا في إبريل / 1987م ، وفي ديسمبر 1989م أُبلغت أن طلبها لن ينظر فيه قبل سنة 1993م .

في 1994م قبل الاتحاد طلبات عضوية النمسا وفنلندا والسويد والنرويج ، وكان من المتوقع جدا أن تشهد السنوات المقبلة موقفا لصالح طلبات بولندا والمجر وجمهورية التشيك ، وربما بالنسبة لطلبات سلوفينيا وسلوفاكيا وجمهوريات البلطيق فيما بعد .

ألمانيا لم تدعم طلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الكبير:

ثم خاب أمل الأتراك ثانية خاصة عندما لم تدعم ألمانيا – وهي أكبر أعضاء الاتحاد الأوربي نفوذا – طلب عضويتهم بحماس ، وبدلا من ذلك أعطت أولوية لدفع عضوية دول أوربا الوسطى .

وتحت ضغط من الولايات المتحدة ناقش الاتحاد وحدة جمركية مع تركيا ، أما العضوية الكاملة فتظل أملا بعيدا وغير مضمون .

الأسباب التي تعلنها أوربا كتبرير لعدائها لتركيا:

لماذا تم تخط تركيا ؟ ولماذا تظهر دائما في نهاية الطابور ؟ في العلن ، يشير المسئولون الأوربيون إلي المستوى التركي المتدني في النمو الاقتصادي ، وإلى قلة احترامها لحقوق الأنسان عن دول اسكندنافيا ،............

الأسباب الحقيقية لعداء أوربا لتركيا:

وفي السر ، فإن كلا من الأوربيين والأتراك متفقون على أن الأسباب الحقيقية هي المعارضة الواسعة من قبل اليونانيين ، ثم الأهم من ذلك وهو كون تركيا دولة إسلامية .

الدول الأوربية لا تريد أن تواجه احتمال فتح حدودها للهجرة من دولة ذات ستين مليون مسلم ونسبة بطالة عالية ، أما الأبعد من ذلك فهو أنهم يشعرون أن الأتراك لا ينتمون إلي أوربا ثقافيا .

وكما قال الرئيس أوزال في سنة 1992م سجل تركيا بالنسبة لحقوق الإنسان سبب ملفق لعدم قبول طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوربي ، السبب الرئيسي هو أننا مسلمون وهم مسيحيون ، ويضيف : ولكنهم لا يقولون ذلك ، المسئولون الأوربيون بدورهم يتفقون على أن الاتحاد ناد مسيحي ، وأن تركيا فقيرة جدا ، مكتظة بالسكان جدا ، مسلمة جدا ، فظة جدا ، مختلفة ثقافيا جدا ، وهي جدا في كل شيء ، كما علق أحد المراقبين: الكابوس الخاص للأوربيين هو الذكرى التاريخية لغارات المسلمين في أوربا الغربية ، والأتراك على أبواب فيينا ، هذه التوجهات بدورها ولدت إدراكا عاما بين الأتراك وهو أن الغرب لا يرى مكانا لتركيا مسلمة داخل أوربا .

وبعد أن رفضتها مكة ورفضتها بروكسل انتهزت تركيا الفرصة التي أتاحها ذوبان الاتحاد السوفييتي لتتجه صوب طشقند .

تركيا وتنمية الروابط مع الشعوب التركية:

الرئيس أوزال وقادة أتراك آخرون يتصورون مجتمعا من الشعوب التركية ، وبذلوا جهدا كبيرا لتنمية الروابط مع الأتراك الخارجيين في الخارج القريب لتركيا والممتد من الأدرياتيكي حتى حدود الصين ، فوجهوا اهتماما خاصا نحو أذربيجان وجمهوريات وسط أسيا الأربع الناطقة بلغات تركيا ( أوزبكستان ، تركمانستان ، كازاخستان ، كورجيستان ) ، وفي عامي 1991م و 1992م بدأت تركيا جهودا واسعة ومتنوعة لتمكين علاقاتها ونفوذها في تلك الجمهوريات الجديدة ، وقد تضمن ذلك قروضا طويلة الأجل وصلت إلي 1,5 بليون دولار وبسعر فائدة منخفض ، و79 مليون دولار مساعدة إغاثة مباشرة ، وإرسال تلفزيوني بالقمر الصناعي – يحل محل قناة باللغة الروسية - ، واتصالات تليفونية وخدمة نقل جوي ، وألوف المنح الدراسية والتدريبية في تركيا للطلاب وموظفي البنوك من أبناء أسيا الوسطى والأذريين ورجال الأعمال والدبلوماسيين والمئات من ضباط الجيش .

وتم إرسال المدرسين إلي الجمهوريات الجديدة لتدريس اللغة التركية ، كما بدأت حوالي 2000 شركة مشتركة ، وقد سهلت العوامل الثقافية المشتركة كل هذه العلاقات الاقتصادية .

وكما يقول أحد رجال الأعمال الأتراك : أهم شيء للنجاح في أذربيجان أو تركمانستان هو أن تجد الشريك المناسب ، وبالنسبة للشعب التركي ليس ذلك بالأمر الصعب ، فلدينا نفس الثقافة ونفس اللغة تقريبا ، كما أننا نأكل من نفس المطبخ .

إعادة توجه تركيا صوب القوقاز وأسيا الوسطي لم يكن دافعه فقط الحلم بزعامة تجمع تركي دولي ، ولكنها الرغبة أيضا في مواجهة محاولات إيران والسعودية لنشر نفوذهما وتنمية الأصولية الإسلامية في تلك المنطقة .

الأتراك يرون أنهم يقدمون النموذج التركي أو فكرة تركيا دولة علمانية ديمقراطية إسلامية مع اقتصاد سوق كبديل ، بالإضافة إلي ذلك فإن تركيا تتمنى أن تحتوي صحوة النفوذ الروسي ، وبتقديم بديل لكل من روسيا والإسلام .

فإن تركيا كذلك تقوي من طلبها للدعم الأوربي ، والحصول على عضوية الاتحاد الأوربي ، في النهاية : نشاط تركيا الذي بدأ قويا في علاقاتها بالجمهوريات التركية ( تركمانستان ، أذربيجان ، قرغيزيا.... إلخ ).

أصبحت تركيا أقل جموحا في سنة 1993م لمحدودية مواردها ووصول "سليمان ديميريل" إلى الرئاسة بعد موت أوزال ، وإعادة تأكيد النفوذ الروسي فيما يعتبره خارجه القريب .

في البداية ، عندما استقلت الجمهوريات التركية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ، اندفع زعماؤها نحو أنقرة لمغازلة تركيا ، وعندما مارست روسيا بعد ذلك ضغطا وإغراء عادوا على أعقابهم ، وراحوا يؤكدون الحاجة إلي علاقات متوازنة بين ابن عمهم الثقافي وسيدهم الإمبراطوري السابق ، إلا أن الأتراك استمروا في محاولة استخدام القربى الثقافية لتوسيع روابطهم الاقتصادية والسياسية ، وفي أهم ضربة موفقة له ، حصلوا على اتفاق بين الحكومات المعنية والشركات النفطية لبناء خط أنابيب ينقل خط أسيا الوسطي وأذربيحان عبر تركا إلي البحر الأبيض المتوسط .

اهتزاز تراث مصطفي كمال أتاتورك

وعودة الأتراك للهوية الإسلاميـــــة:

وبينما عملت تركيا على تطوير روابطها بالجمهوريات التركية للاتحاد السوفييتي السابق ، كانت هويتها الكمالية العلمانية تواجه تحديات في الداخل .

أولا: بالنسبة لتركيا كما لدول أخرى كثيرة أثار انتهاء الحرب الباردة بالإضافة إلي الخلل الناتج عن النمو الاقتصادي والاجتماعي قضايا أساسية عن ( الهوية القومية والانتماء العرقي ) ، وكان الدين هناك ليقدم الإجابة ، وأصبح الميراث العلماني الأتاتوركي والنخبة التركية لثلثي قرن تحت النيران وبشكل متزايد .

تجربة الأتراك في الخارج أدت إلى إثارة عواطف الإسلاميين في الداخل ، الأتراك العائدون من ألمانيا الغربية ( كان رد فعلهم عن العداء هنا هو العودة إلي ما هو مألوف ، وأن ذلك هو الإسلام ) ، التوجه العام والسلوك أصبحا إسلاميين وبشكل متزايد .

في سنة 1993م كما يقول أحد التقارير : زادت أعداد الملتحين والمحجبات في تركيا ، وأصبحت المساجد تجتذب أعدادا أكبر ، وازدحمت المحلات بالكتب والصحف الدينية والأسطوانات وأشرطة الكاسيت والفيديو التي تمجد التاريخ الإسلامي والمفاهيم الإسلامية ، كما تمجد الإمبراطورية العثمانية لحفاظها على قيم وتعاليم النبي محمد .

ويقول التقرير : أن ما لا يقل عن 290 دار نشر ومطبعة ، و 300 مطبوعة من بينها أربعة يومية ، وبعض المحطات الإذاعية غير المرخصة ، وحوالي 30 قناة تلفزيونية غير مرخصة ، أيضا كانت كلها تروج للأيدولوجية الإسلامية ، وإزاء مواجهتهم بهذا الشعور الإسلامي العارم حاول الحكام الأتراك أن يتبنوا ممارسات أصولية ، وأن يستميلوا تأييد الأصوليين ، الحكومة التي من المفترض أنها علمانية أنشأت في الثمانينيات والتسعينيات مكتبا للشئون الدينية بميزانية تزيد عن ميزانية بعض الوزارات ، وذلك لتمويل إنشاء المساجد والتعليم الديني في المدارس العامة ، كما دعمت المدارس الدينية القائمة التي زاد عددها خمسة أضعاف ما كان عليه الوضع في الثمانينيات ، حيث أصبحت تضم حوالي 15% من طلاب المدارس الثانوية ، وتخرج منها الآلاف والذين التحقوا بعد ذلك بخدمة الحكومة ، وفي تناقض رمزي ولكنه درامي سمحت الحكومة في تركيا بالفعل للطالبات بارتداء غطاء الرأس الإسلامي التقليدي " الحجاب" بعد سبعين سنة من تحريم أتاتورك للحجاب ، هذا الأداء الحكومي والذي كان دافعه إلى حد كبير تفريغ أشرعة الإسلاميين من الهواء ، يشهد على مدى قوة ذلك الهواء في الثمانينيات وأوائل التسعينيات .

ثانيا: الانبعاث الإسلامي غير شخصية السياسة التركية ، كان القادة السياسيون وبالذات " أوزال " يوحدون أنفسهم بكل وضوح مع الرموز والسياسات الإسلامية ، وفي تركيا كما في كل مكان تؤدي الديمقراطية إلى العودة إلى الأصول وإلى الدين ، وفي تلهفهم على تملق الجماهير وكسب رضاها وأصواتها الانتخابية كان على السياسيين حتى العسكريين الذين هم حصن العلمانية أن يضعوا طموحات الناس الدينية في الاعتبار ، كان لكثير من التنازلات التي قدموها طعم الدهماوية .

تدخـــل الجيش التركي لحمايــــــــة

العلمانية ومحاربة الهوية الإسلامية

أصبحت الحركات الشعبية تنزع إلى الدين ، بينما كانت النخبة والجماعات البيروقراطية خاصة العسكر ذوي توجهات علمانية ، إلا أن التوجهات الإسلامية كانت تعبر عن نفسها بين صفوف القوات المسلحة ، كما تم تطهير الأكاديميات العسكرية من مئات الطلاب في سنة 1987م بسبب الشك في انتماءاتهم الإسلامية .

الأحزاب السياسية الرئيسية أصبحت تستشعر الحاجة وبدرجة متزايدة إلى الدعم الانتخابي من الطرق الإسلامية التي تم إحياؤها أو الجمعيات المختارة التي كان " أتاتورك " قد حظرها .

في الانتخابات المحلية التي أجريت 1994م كان حزب الرفاة الأصولي من بين خمسة أحزاب رئيسة هو الوحيد الذي زاد نصيبه من الأصوات ، وحصل تقريبا على 19% منها مقارنة بنسبة 21% لحزب رئيسة الوزراء " الطريق القويم ، " و20% لحزب "أوزال" "الوطن الأم" ، وكان لحزب الرفاة السيطرة على المدينتين الرئيسيتين في تركيا : اسطنبول وأنقرة ، كما كانت قوته تتزايد في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد.

في انتخابات 1995م حصل حزب الرفاة على أصوات ومقاعد أكثر من أي حزب آخر في البرلمان ، بعد ستة أشهر شكل مع أحد الأحزاب العلمانية حكومة ائتلافية كما حدث في بلاد أخرى .

إن دعم الأصوليين كان يجيئ أساسا من الشباب المهاجرين العائدين " المسحوقين والمعدمين " و " المهاجرين الجدد إلى المدينة" عراة المدن الكبرى .

ثالثا: انبعاث الإسلام أثر على السياسة الخارجية لتركيا ، كانت تركيا تحت قيادة الرئيس أوزال منحازة إلى الغرب تماما ، في حرب الخليج متوقعة أن ذلك سوف يعزز عضويتها في السوق الأوروبية ، ولكن هذه النتيجة لم تتحقق ، كما أن تردد " الناتو" في القرار الذي يمكن أن يتخذه في حال هجوم العراق على تركيا ، أثناء تلك الحرب لم يؤكد للأتراك كيف سيكون رد الحلف في حال تعرضهم لخطر غير روسي .

حاول القادة الأتراك أن يوسعوا من علاقاتهم العسكرية مع إسرائيل ، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة من قبل الإسلاميين الأتراك .

تركيــــا تتبنى المصــالح الإسلاميـة

بحماس منذ الثمانينات والتسعينيات

وعلى نحو أكثر تحديدا وسعت تركيا في الثمانينيات من علاقاتها بالدول العربية والإسلامية الأخرى ، وفي التسعينيات تبنت المصالح الإسلامية بحماس ، وقدمت دعما مهما لمسلمي البوسنة وأذربيجان .

كانت السياسة الخارجية التركية بالنسبة للبلقان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط تأخذ شكلا إسلاميا بشكل متزايد ولعدة سنوات كانت تركيا تفي بإثنين من المتطلبات الثلاثة الضرورية التي تحتاجها دولة ممزقة لكي تحول هويتها الحضارية .

كانت النخب التركية بالإجماع تؤيد هذا التحرك وبشكل متزايد ، وأزعنت الجماهير لذلك ، أما نخب المتلقين للحضارة الغربية ، فلم يكونوا متقبلين لها ، بينما كانت القضية معلقة في الميزان .

نشط انبعاث الإسلام داخل تركيا مشاعر العداء للغرب بين الجماهير ، وبدأ التقليل من شأن التوجه العلماني الموالي للغرب بين النخب .

أصبحت تركيا دولة ممزقة بين

العلمانيــــة والهويــة الإسلامية:

العقبات التي تحول دون أن تصبح تركيا دولة أوربية بالكامل وقدراتها المحدودة في أن تلعب دورا مهما بالنسبة للجمهوريات التركية في الاتحاد السوفييتي السابق وصعود التوجهات الإسلامية الذي أضعف التراث الأتاتوركي ، كل ذلك كان يؤكد أن تركيا ستظل دولة ممزقة ، وأثناء تعبيرهم عن عوامل الجذب المتسارعة هذه ، كان القادة الأتراك يصفون بلادهم بانتظام بأنها جسر بين الثقافات .

في سنة 1993م كانت رئيسة الوزراء " تانسو تشيللر "تقول : إن تركيا " ديمقراطية غربية " و " جزء من الشرق الأوسط " في نفس الوقت ، وأنها جغرافيا وفلسفيا جسر بين الحضارتين ، ولكي تعبر عن هذه الازدواجية كانت " تشيللر " تظهر في بلادها كمسلمة ، لكنها كانت عندما تخاطب " الناتو" تقول : الواقع الجغرافي والسياسي يقولان أن تركيا دولة أوربية ، وعلى نفس المنوال كان الرئيس سليمان ديميريل يصف تركيا بأنها جسر مهم في منطقة تمتد من الغرب إلى الشرق ، أي من أوربا إلى الصين ، الجسر على أية حال عمل صناعي يصل بين كيانين مستقلين ، لكنه ليس جزء من أيهما ، وعندما يصف علماء تركيا بلادهم بأنها جسر فإنهم يؤكدون بطريقة مخففة أنها ممزقة ، وجدير بالذكر أنها أصبحت دولة ممزقة منذ العشرينيات .

كمال أتاتورك يرى أنه لا تحديث دون تغريب .

الكمالية : استجابة ثانية أخرى بالنسبة للغرب وهي " هيروديانية تونبي " لتبني كل من التحديث والتغريب ، هذه الاستجابة تقوم على افتراض أن التحديث أمر مرغوب فيه وضروري ، وأن الثقافة المحلية تتعارض مع التحديث وغير قابلة للامتزاج ويجب تجنبها أو إلغاؤها ، وأن المجتمع لابد أن يتغرب بكامله لكي ينجح تحديثه .

التحديث والتغريب يقوي كل منهما الآخر ويعززه ، ولابد أن يمضيا معا ، هذا الفهم تم تلخيصه في محاجات بعض مفكري القرن التاسع عشر اليابانيين والصينيين ، فلكي يقوموا بالتحديث فإن على مجتمعاتهم أن تتخلى عن لغاتها التاريخية وتتبنى الإنجليزية كلغة قومية ، هذه النظرة ودون غرابة أصبحت أكثر انتشارا بين النخب الغربية أكثر مما هي بين غير الغربية ، رسالتها هي " لكي تنجح يجب أن تكون مثلنا " ، طريقنا هي الطريق الوحيدة ، المحاجة هي أن : القيم الدينية والافتراضات الأخلاقية والبنى الاجتماعية لتلك المجتمعات غير الغربية – هي في أحسن الأحوال غريبة – وأحيانا معادية لقيم وممارسات التصنيع ، وهكذا فإن التقدم الاقتصادي إعادة صنع جذرية وتدميرية للمجتمع ، وغالبا إعادة تفسير لمعنى الوجود ذاته كما يفهمه الناس الذين يعيشون في هذه الحضارات .

ويقول " بيبس " نفس الشيء وهو يشير إلى الإسلام لكي ينجو من اللامعيارية ، أمام المسلمين خيار واحد ، حيث أن التحديث يتطلب التغريب ، والإسلام لا يقدم طريقا بديلة للتحديث ، العلمانية لا يمكن تجنبها .

العلم الحديث والتكنولوجيا يتطلبان استيعابا للعمليات الفكرية والتي تصاحبهما ، ونفس الشيء بالنسبة للمؤسسات السياسية . ولأن المضمون يجب ألا يحاكى بأقل مما يحاكى الشكل ، فلابد من الاعتراف بهيمنة الحضارة الغربية حتى يمكن التعلم منها .

اللغات الأوربية والمؤسسات التعليمية الفرعية لا يمكن تجنبها ، حتى وإن كانت الأخيرة تشجع على التفكير الحر والعيش السهل فقط ، عندما يقبل المسلمون بالنموذج الغربي صراحة ، سيكونون في وضع يمكنهم من استخدام التقنية ، ومن ثم أن يتقدموا .

مصطفى كمال أتاتورك حول تركيا إلى دولة ممزقة:

 قبل ستين عاما من كتابة تلك الكلمات كان مصطفى كمال أتاتورك قد وصل إلى استنتاجات مشابهة ، خلق تركيا جديدة من بين أطلال الإمبراطورية العثمانية ، وبدأ جهدا ضخما لتغريبها وتحديثها في آن واحد ، وبحدبه على هذا المنحى ورفضه للماضي الإسلامي جعل أتاتورك من تركيا دولة ممزقة ، جعل منها مجتمعا مسلما دينا وتراثا وعادات ومؤسسات ، ولكن بنخبة حاكمة كلها إصرار علي أن تجعله حديثا غربيا ، ومنسجما مع الغرب .

في أواخر القرن العشرين تنتهج دول كثيرة خيار أتاتورك ، وتحاول إحلال الهوية الغربية محل الهوية غير الغربية ، وسوف نقوم بتحليل تلك الدول في الفصل الخامس .

الإصلاحية : ينطوي الرفض على مهمة يائسة لعزل مجتمع ما عن العالم الذي يضيق ، وتنطوي الكمالية على مهمة تدمير ثقافة عاشت عدة قرون وترسخ ثقافة جديدة تماما في مكانها ، ثقافة مستوردة من حضارة أخرى .

هناك خيار ثالث وهو محاولة الجمع بين التحديث والمحافظة على القيم الأساسية والممارسات والمؤسسات الموجودة في ثقافة المجتمع المحلية ، هذا الخيار وبكل ذكاء كان الأكثر شيوعا بين النخب غير الغربية .

في الصين وفي المراحل الأخيرة من حكم أسرة " شنج " كان الشعار المرفوع هو " تي يونج " أي " المعرفة الصينية من أجل المبادئ الأساسية " ، المعرفة الغربية من أجل الاستخدام العلمي " ، في اليابان كان الشعار المرفوع هو " واكون يوشي " أي " الروح اليابانية ، التكنيك الغربي " .

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر في مصر ، حاول محمد علي التحديث التقني دون تغريب ثقافي زائد ، ولم يفشل هذا الجهد إلا عندما أجبر البريطانيون محمد علي على التخلي عن معظم إصلاحاته التحديثية .

يلاحظ "المزروعي" أن قدر مصر لم يكن مثل مصيرها ، تحديث تقني دون تغريب ثقافي ، كما لم يكن مثل المصير الأتاتوركي " تحديث تقني من خلال تغريب ثقافي ".

في النصف الثاني من القرن العشرين حاول " جمال الدين الأفغاني " ومحمد عبده ومصلحون آخرون القيام بتوفيق جديد بين الإسلام والتحديث ، وكانت المحاجة هي تساوق الإسلام مع العلم الحديث ومع أفضل ما في الفكر الغربي ، وتقديم عقلانية إسلامية لقبول الأفكار والمؤسسات الحديثة سواء كانت علمية أو تكنولوجية أو دستورية سياسية وحكومة نيابية ، كان ذلك إصلاحا واسع المدى يميل نحو الكمالية ، فهو لا يقبل التحديث فقط ، وإنما بعض المؤسسات الغربية كذلك .

كانت الإصلاحية بهذا الشكل هي الاستجابة السائدة للغرب من جانب النخبة المسلمة على مدى خمسين سنة من سبعينات القرن التاسع عشر إلى عشرينات القرن العشرين ، عندما واجهتها تحديدات بصعود الكمالية أولا ، ثم بصعود إصلاحية قح أكثر تجريدا ، علي شكل أصولية .

" الرفضية " و " الكمالية " و " الإصلاحية " كلها مؤسسات على افتراضات مختلف بالنسبة لما هو ممكن وما هو مرغوب فيه .

بالنسبة للرفضية :

التحديث والتغريب كلاهما غير مرغوب فيه ، ويمكن رفضهما معا .

بالنسبة للكمالية :

التحديث والتغريب كلاهما مرغوب فيه ، الثاني لا مفر منه لتحقيق الأول ، وكلاهما ممكن .

بالنسبة للإصلاحية :

التحديث مرغوب فيه وممكن دون تغريب أساسي غير مرغوب فيه .

وهكذا فإن الصراعات قائمة بين الرفضية والكمالية حول الرغبة في التحديث والتغريب ، وبين الكمالية والإصلاحية حول ما إذا كان التحديث ممكنا دون تغريب .

ولكن على أية مسارات تحركت المجتمعات بالفعل ؟

من الواضح أن كل مجتمع غير غربي قد مضي في مساره الخاص ، والذي قد يختلف تماما عن تلك المسارات النمطية الثلاث . يقول " المزروعي " : إن مصر وإفريقيا قد تحركتا نحو النقطة "د" عبر عملية تغريب ثقافي مؤلمة دون تحديث تقني .

بداية ، التغريب والتحديث مرتبطان تماما بالمجتمع غير الغربي الذي يستوعب عناصر أساسية من الثقافة الغربية ، ويحقق تقدما بطيئا في توجهه نحو التحديث ، إلا أنه بارتفاع معدل التحديث ينخفض معدل التغريب وتمر الثقافة المحلية بمرحلة إحياء .

التحديث الزائد إذن يغير توازن القوى الحضاري بين الغرب والمجتمع غير الغربي ، ويقوي الالتزام بالثقافة المحلية . وهكذا يؤدي التغريب في المراحل الباكرة من التغيير إلي التحديث ، وفي المراحل التالية يؤدي إلي الابتعاد عن التغريب وانبعاث الثقافة المحلية علي نحوين : على المستوى الاجتماعي : يعزز التحديث القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للمجتمع ككل ، ويشجع شعب ذلك المجتمع على الثقة بثقافته وأن يصبح ميالا لتوكيدها ، وعلى المستوى الفردي يولد التحديث مشاعر الاغتراب واللامعيارية ، حيث تنفصم عرى التقاليد والعلاقات الاجتماعية ، وتنشا أزمة الهوية التي يقدم لها الدين حلا .

يستنتج " راينريوم" أن " التحقق المستمر من بحث الإنسان عن سلطة مفهومة ، وعن استقلال شخصي ذي معنى يتم بأساليب متمايزة ثقافيا ، في تلك الأمور لا يوجد أي ميل نحو عالم متجانس ثقافيا ، وبدلا من ذلك يبدو هناك ثبات في الأنماط التي تطورت إلي أشكال مختلفة أثناء مراحل التطور التاريخية الحديثة والباكرة ".

نظرية الاقتباس كما شرحها " فروبينيوس" و " شبنجلر" و " "بوزيمان" وغيرهم ، تؤكد المدى الذي تصل إليه الحضارات المتلقية في اقتباسها الاختياري لعناصر من حضارات أخرى وتعديلها وتحويلها واستيعابها لكي تؤكد وتدعم بقاء القيم الجوهرية أو لب ثقافتها .

جميع الثقافات غير الغربية في العالم تقريبا استمرت علي الأقل ألف عام ، وفي بعض الحالات عدة ألوف ، وتؤكد سجلاتها أنها قد اقتبست من حضارات أخرى بصور مختلفة لكي تؤمن وجودها .

استيعاب الصين للبوذية الهندية ، كما يرى الباحثون ، لم ينجح في تهنيد الصين ، الصينيون طوعوها لأهداف واحتياجات صينية وظلت الثقافة الصينية صينية كما هي ، وإلي يومنا هذا هزم الصينيون كافة المحاولات الغربية المضنية لتحويلهم إلى المسيحية ، ولو حدث أن استوردوا المسيحية بدرجة ما فلابد أن نتوقع أنه سيتم تمثلها وتطويعها على نحو تصبح به مندمجة مع العوامل الأساسية في الثقافة الصينية .

وبالمثل استقبل العرب التراث الإغريقي وثمنوه واستخدموه لأسباب منفعية أساسا ، ومع حرصهم على اقتباس أشكال خارجية أو جوانب فنية معينة ، إلا أنهم عرفوا أيضا كيف يتغاضوا عن كافة عناصر الفكر اليوناني التي قد تؤدي إلى صراع مع الحق المبين في مبادئهم وتعاليمهم القرآنية .

واتبع اليابانيون نفس النهج ، في القرن السابع كانت اليابان تستورد الثقافة الصينية ، وتقوم بالتحول بمبادرة ذاتية بعيدا عن الضغط الاقتصادي والعسكري على حضارة راقية ، وخلال القرون التالية وفترات العزلة النسبية عن المؤثرات القارية والتي تم أثناءها فرز الاقتباسات السابقة وتمثل المفيد منها ، وتلتها فترات احتكاك متجدد واقتباس ثقافي آخر .

الصيغة المعتدلة للمحاجة الكمالية بأن المجتمعات غير الغربية قد تتحدث عن طريق التغريب ، تظل في حاجة إلي إثبات ، والمحاجة الكمالية المتطرفة بأن المجتمعات غير الغربية لابد لها أن تتغرب لكي تتحدث لا تصمد كافتراض عام ، بل لعلها تثير سؤالا : هل هناك مجتمعات غير غربية تواجه عقبات في طريق التحديث ناجمة عن الثقافة المحلية لدرجة أن يصبح من الضروري إحلال الثقافة الغربية محلها حتى يتم التحديث ؟ ، من الناحية النظرية قد يكون ذلك ممكنا بالنسبة للثقافات الذرائعية ، فالثقافات الذرائعية تتميز بوجود قطاع كبير من الأهداف المتوسطة ، منفصلة ومستقلة عن الأهداف النهائية ، هذه الأنظمة تبدع بسهولة من خلال فرد غطاء التراث على التغيير نفسه ، وتستطيع أن تبتكر دون أن تبدو أنها تغير مؤسساتها الاجتماعية تغييرا أساسيا ، الإبداع هنا يتم لخدمة الإمعان في القدم .

وتتميز الأنظمة المتكاملة باستمرار بعلاقة وثيقة بين الأهداف المتوسطة والأهداف النهائية ، فالمجتمع والدولة والسلطة وما شابهها كلها جزء من نظام قوي متضامن يسوده الدين كدليل معرفي ، هذا النوع من الأنظمة معاد للإبداع .

يستخدم "آبتر" هذه التقسيمات لتحليل التغير في القبائل الإفريقية ، كما يطبق " إيزنشتاد" تحليلا مماثلا على حضارات آسيا الكبرى ، ويصل إلى استنتاج مماثل .

التحول الداخلي يصبح سهلا بفضل استقلالية المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية ، ولهذا السبب فإن المجتمعات اليابانية والهندية الأكثر ذرائعية انتقلت مبكرا وبسهولة أكثر نحو التحديث عن المجتمعات الكونفوشية والإسلامية ، وكانت أكثر قدرة على استيراد التكنولوجيا الحديثة واستخدامها لتدعيم ثقافتها الموجودة .

فهل يعني هذا أن المجتمعات الصينية والإسلامية إما أن تمسك عن كل من التحديث والتغريب أو أن تتبناهما معا ؟ ، إن الخيار لا يبدو محدودا بهذا الشكل ، بالإضافة إلى أن اليابان وسنغافورة وتايوان والسعودية وبدرجة أقل إيران أصبحت مجتمعات حديثة دون أن تصبح غربية .

والحقيقة أن الجهد الذي قام به الشاه لينهج النهج الكمالي وأن يقوم بالعمليتين ولد رد فعل مضاد للغرب وكنه ليس مضادا للتحديث .

 

الإسلام والتحديث لا يتصادمان :

ومن الواضح أن الصين عاكفة علي طريق إصلاحي ، والمجتمعات الإسلامية لديها مشكلة مع التحديث ، ويدعم " بيبس" دعواه بأن التغريب شرط أساسي بالإشارة إلى الصراعات القائمة بين الإسلام والتحديث في المسائل الاقتصادية مثل فوائد البنوك والصيام والمواريث وعمل المرأة لدرجة أنه يقتبس عن " مكسيم رودنسون" قوله :

" لا يوجد هناك ما يدل على طريقة مقنعة على أن الدين الإسلامي منع العالم الإسلامي من التقدم على الطريق نحو الرأسمالية الحديثة ، ويقول : إن ذلك حدث في معظم النواحي الأخرى غير الاقتصاد .

الإسلام والتحديث لا يتصادمان ، المسلمون المتدينون يحضون على العلم ، ويعملون في المصانع بكفاءة ، ويستخدمون الأسلحة المتطورة ، التحديث لا يتطلب أيديولوجية سياسية ولا مجموعة من المؤسسات بعينها مثل : الانتخابات ، الحدود الوطنية ، المؤسسات المدنية ، وكل مظاهر الحياة الغربية الأخرى ليست ضرورية من أجل التقدم الاقتصادي ، وكعقيدة فإن الإسلام يرضي كافة المستويات من المستشارين في العمل الإداري والمزارعين سواء بسواء ، والشريعة لا تقول شيئا عن التغيرات التي تصاحب التحديث مثل التحول من الزراعة إلى الصناعة ، من الريف إلى المدينة أو من الاستقرار الاجتماعي إلي التغير الاجتماعي المتواصل ، ولا هي تصطدم بأمور مثل تعليم العامة أو وسائل الاتصال السريعة أو وسائل الانتقال الحديثة أو الرعاية الصحية .

التحديث لا يستلزم التغريب :

وباختصار فإن التحديث لا يعني التغريب بالضرورة ، المجتمعات غير الغربية يمكن أن تتحدث ، وقد حدث ذلك بالفعل دون أن تتخلى عن ثقافتها المحلية الخاصة ، كما تبنت القيم والمؤسسات والممارسات الغربية بالجملة ، والأخيرة في الواقع قد تكون مستحيلة تقريبا مهما كانت العراقيل التي تضعها الثقافات غير الغربية أمام التحديث فهي أقل بكثير من تلك التي تضعها أمام التغريب ، وربما يكون من الحماقة كما يقول " برودل" : أن نعتقد أن التحديث أو انتصار الحضارة بالمفهوم المفرد قد يؤدي إلي نهاية تعددية الثقافات التاريخية التي تجسدت في حضارات العالم الكبرى على مدى قرون ، التحديث بدلا من ذلك يقوي من تلك الحضارات ويقلل من القوة النسبية للغرب ، والعالم يصبح أكثر حداثة وأقل غربية في أمور أساسية .

وفي موضع آخر يتحدث صامويل هنتنجتون عن خطة تكفل تقدم العالم الإسلامي مقترحا أن تركيا يمكن أن تكون فرس الرهان لتحقيق هذه النهضة من خلال لعب دور دولة المركز وتجميع الدول الإسلامية معا للاستفادة من مقدرات الأمة واستغلالها الاستغلال الأمثل الذي من شأنه أن يحقق النهضة للعالم الإسلامي أجمع ، وفي هذا الشأن يقول :

" وهكذا فإنه علي مدى معظم القرن العشرين ، لم يكن لدى أية دولة إسلامية قوة كافية ولا ثقافة كافية ولا شرعية دينية للاضطلاع بهذا الدور لكي تصبح مقبولة من الدول الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية كزعيم للحضارة الإسلامية .

إن غياب دولة مركز إسلامية عامل مساعد وأساسي على الصراعات الخارجية والداخلية المستمرة التي تميز الإسلام ، وعلى الوعي دون تماسك ، كما أنه مصدر ضعف بالنسبة للإسلام ، ومصدر تهديد للحضارات الأخرى ، فهل هناك احتمال أن تستمر الحال هكذا ؟

إن دولة مركز إسلامية يجب أن يكون لديها موارد اقتصادية وقوة عسكرية وكفاءة تنظيمية وهوية إسلامية والتزام بأن تكون قيادة سياسية ودينية للأمة .

ثم استعرض الكاتب معظم الدول الإسلامية التي يمكنها القيام بدور تجميع العالم الإسلامي ، فاستبعدها جميعا لأسباب مختلفة ، لتستمر المنافسة بين مصر وتركيا ، إلا أنه استبعد مصر ، حيث قال :

مصر بلد عربي تعدادها السكاني كبير ، موقعها المركزي والاستراتيجي والجغرافي مهم في الشرق الأوسط  ، و لديها الأزهر المؤسسة القائدة في التعليم الديني ، إلا أنها مع كل ذلك دولة فقيرة تعتمد اقتصاديا على الولايات المتحدة وعلى المؤسسات الدولية التي يتحكم فيها الغرب والدول العربية النفطية.

ورأى تأهل تركيا للقيام بدور دولة المركز للحضارة الإسلامية حيث قال :

إن تركيا لديها تاريخ وعدد السكان والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي والتماسك الوطني والتقاليد العسكرية والكفاءة لكي تكون دولة مركز ، ولكن أتاتورك حرم الجمهورية التركية من أن تخلف الإمبراطورية في هذا الدور وذلك بسبب تحديدها بكل وضوح كمجتمع علماني ، إنها لم تتمكن حتى من أن تكون عضو ميثاق في منظمة المؤتمر الإسلامي بسبب التزامها بالعلمانية في دستورها ، وطالما أن تركيا سوف تستمر في تعريف نفسها كدولة علمانية فلن تكون لها زعامة الإسلام ، ولكن ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها ، عند نقطة ما يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن  دورها المحبط والمهين كمتسول يستجدي عضوية نادي الغرب ، واستئناف دورها التاريخي الأكثر تأثيرا ورُقيّا كمحور رئيسي باسم الإسلام وخصم للغرب .

صعود الهوية الإسلامية في تركيا :

ويتابع الكاتب : الأصولية في صعود في تركيا ، في عهد أوزال بذلت الدولة جهودا ضخمة لتوحيد نفسها بالعالم العربي ، وأفادت من العلاقات العرقية واللغوية لتلعب دورا متواضعا في أسيا الوسطى ، وقدمت الدعم والتأييد لمسلمي البوسنة ، وتنفرد تركيا بين الدول الإسلامية بصلاتها التاريخية الواسعة بمسلمي البلقان والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى ، ومن المتصور فعلا أن تقلد تركيا جنوب إفريقيا ، كأن تتخلى عن العلمانية كشيء غريب عن وجودها كما تخلت جنوب افريقيا عن الاضطهاد ، وبالتالي تحول نفسها من دولة منبوذة في حضارتها إلى دولة زعيمة  ، في جنوب إفريقيا بعد أن خبُرت الجيد والسيئ في الغرب سواء بالنسبة للمسيحية أو الاضطهاد أصبحت مؤهلة لزعامة إفريقيا .

وتركيا بنفس الدرجة يمكن أن تكون مؤهلة لزعامة الإسلام بعد أن خبُرت الجيد والسيئ في الغرب بالنسبة للعلمانية والديمقراطية ، ولكنها لكي تفعل ذلك لابد لها من أن تتخلى عن تراث أتاتورك وعلى نحو أشمل مما تخلت به روسيا عن " لينين" ، كما عليها أيضا أن تجد زعيما بحجم " أتاتورك" يجمع بين الدين والشرعية السياسية ليعيد بناء تركيا وتحويلها من دولة ممزقة إلى دولة مركز .

هذا جملة ما قاله صامويل هنتنجتون ، وأعتقد أنه كاشف للأسباب الحقيقة لعداء أمريكا وإسرائيل وسائر الدول الغربية لدولة تركيا ، فهم يرونها الأقدر على تجميع العالم الإسلامي ووضع الحضارة الإسلامية في المكانة التي تستحقها .

إن دول الحضارة الغربية لا تقبل بنظام حكم لدولة إسلامية واحدة لا يكون تابعا لها تبعية مطلقة لا يصح وصفها بغير الخيانة ، إن تركيا الآن تكاد تكون هي الدولة الوحيدة التي ترفع رأسها في مواجهة الدول الغربية بندية دون خشية من العواقب ، لأنها تعتمد على نفسها ، فلا هي تعيش على الإعانات والمساعدات من أحد ، ولا لديها نظام يتعاقد مع أمريكا لحمايته وتثبيت أقدامه علي مقعد لا يستحقه .