الثلاثاء، 24 مايو 2016

محمد علي باشا وجيشه وتدمير مصر .



 
محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة أم مصر الفاشلة ؟
تعلمنا من دولة العسكر أن محمد علي باشا هو مؤسس دولة " مصر الحديث " حسبما روج محمد علي عن نفسه ، فهو كما درسنا الذي استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا ، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة ، واستعان بالخبراء الأجانب لبناء دولة عصرية ، وأسس جيش مصري نظامي قوي علي نسق الجيوش الأوربية ، وأنشأ أسطولا بحريا ، وأنشأ الصناعات العسكرية ، وأنشأ المدارس الابتدائية والعليا ، وأرسل البعثات التعليمية لأوريا ، وأدخل الطباعة الحديثة إلي آخر ما تم نشره عن انجازات محمد علي في وسائل إعلام دولة العسكر والذي قد ينطوي علي كثير من المبالغات ، ذلك أن دولة العسكر يعنيها أن تنسب نهضة مصر لمن أسس الجيش المصري لتصنع رابطا بين نشأة الجيش المصري ونهضة مصر .
لكن بلا شك ليس هذا تاريخ محمد علي باشا كاملا حسب نفس المراجع التاريخية التي نقل عنها من فخموا انجازاته ، وحين نقرأ هذا التاريخ بدقة سوف نكتشف أيضا أن محمد علي باشا هو من وضع أسس دولة فاسدة لا يمكن أن تنتهي بحال من الأحوال إلي نهضة حقيقية ، بل هي أسس تضمن نشأة دولة آيلة للسقوط في المدي القريب أو المتوسط .
وأعتقد أن التدهور الذي وصلت إليه مصر بعد انقلاب 3/7/2013م هو لصيق الصلة بالأسس التي أقام عليها محمد علي دولته ، وسوف أنقل لك أخي القارئ بعض المقتطفات من تاريخ الجبرتي وهو أصدق المراجع التاريخية التي كتبت عن النصف الأول من حقبة محمد علي باشا ما يؤكد لك أن كل عناصر فساد دولة مصر العسكرية الآن هي استمرار لذات عناصر الفشل في دولة محمد علي والتي يسكت عنها ويخفيها إعلام العسكر حتي يظل محمد علي باشا وجيشه رمزا لنهضة لمصر الحديثة .
سوف تكتشف مما سأعرضه عليك أن دولة محمد علي باشا قامت علي عناصر من الفساد نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر :
- أن دولة محمد علي باشا قامت علي سلب ونهب المصريين حتي أنهم كانوا - في كثير من الأحيان يلوذون بالهرب من البلاد - لعجزهم عن تلبية طلبات الجباية وتفاديا للحبس نتيجة ذلك .
- أن محمد علي باشا كان معه جيش من البلطجية يترك لهم الحبل علي الغارب وقد عبثوا أشد العبث بالمصريين وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم وديارهم ، وكان مصرحا للجيش بأن يقرض الأهالي قروضا بالفوائد الباهظة التي كانت تؤدي إلي هرب المدينين في كثير من الأحيان .
- أن دولة محمد علي باشا قامت علي احتكار الاقتصاد بالكامل ، حيث احتكرت شراء المنتجات من الفلاحين أو الصناع بثمن بخس لتبيعه بأثمان ضخمة ، كما احتكرت أراضي مصر وثرواتها .
- أن دولة محمد علي باشا لم تنقل شيئا عن أوربا فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان ، فقد قامت دولته علي سفك الدماء ، وحسبنا أنه بدأ ولايته بمذبحة القلعة ، وما أدراك ما مذبحة القلعة والتي لا ينافسها في التاريخ الحديث - وربما تأسيا بها سوي مذبحة رابعة والنهضة وما تبعهما من مذابح في مصر العسكرية - وكان سفك الدماء سمة أساسية لدولة محمد علي باشا دون أحكام أو أي ضمانة تعصم دماء المصريين من سيوف محمد علي باشا ورجاله .
- أن دولة محمد علي باشا كانت تعتمد علي التلاعب في قيمة العملة المصرية لتحقيق مكاسب تضاف إلي مغارة محمد علي ومغارات من يحيط به من اللصوص من رجال الدولة .
- أن دولة محمد علي باشا كانت قائمة علي تسخير العمال وأصحاب الحرف دون مقابل يذكر مما أدي إلي هرب أصحاب الحرف وغلق محالهم .
- أن دولة محمد علي باشا لم تكن تعير أهل الصعيد أي اهتمام ، فهم بالنسبة لهم مجرد مصدر لتحصيل الخراج والأتاوات علي جميع المنتجات .
- أن دولة محمد علي باشا كانت تميز الأجانب عن المصريين ، وتقوم من أجلهم بمصادرة البيوت والمحلات التجارية لتقوم ببناء البيوت الفاخرة وأماكن الترفيه لهم .
سوف تكتشف أخي القارئ الكثير والكثير عن دولة محمد علي باشا وعلاقتها بما تعيشه مصر الآن من كوارث عندما تقرأ تلك الفقرات التي جمعتها لك من " تاريخ الجبرتي " والتي أعرضها عليك فيما يلي :
يقول الجبرتي في مواضع مختلفة من تاريخه :
1- ولا يخفى أن أسباب الخراب التي نص عليها المتقدمون اجتمعت وتضاعفت في هذه السنين وهي زيادة الخراج واختلال المعاملة أيضًا والمكوس وزاد على ذلك احتكار جميع الأصناف والاستيلاء على أرزاق الناس فلا تجد مرزوقًا إلا من كان في خدمة الدولة متوليًا على نوع من أنواع المكوس أو مباشرًا أو كاتبًا أو صانعًا في الصنائع المحدثة ولا يخلو من هفوة ينم بها عليه فيحاسب مدة استيلائه فيجتمع عليه جملة من الأكياس فيلزم بدفعها وربما باع داره ومتاعه فلا يفي بما تأخر عليه فأما يهرب إن أمكنه الهرب وإما يبقى في الحبس هذا إن كان من أبناء العرب وأهالي البلدة وأما إن كان بخلاف ذلك فربما سومح أو تصدى له من يخفف عنه أو يدخله في منصب أو شركة فيترفع حاله ويرجع أحسن حالًا ما كان‏.‏
2- وفي يوم الخميس أرسل " الباشا " إلى الخانات والوكائل أعوانًا فختموا على حواصل التجار بما في داخلها من البن والبهار وذلك بعد أن أمنهم وقبض منهم عشورها ومكوسها بالسويس فلما وصلت القافلة واستقرت البضائع بالحواصل فعل بهم ذلك ثم صالحوا وأفرج عنهم‏.‏
3- وفي يوم الثلاثاء عاشره سافر "صالح آغا السلحدار" إلى جهة بحري على طريق المنوفية وصحبته عساكر وقرروا له مقادير من الأكياس على كل بلد من البلاد الرائجة عشرون كيسًا فما فوقها وما دونها ومن كل صنف مقادير أيضًا‏.‏
4- وفيه فرضوا على البلاد غلال قمح وفول وشعير كل بلد عشرون أردبًا فما فوقها وما دونها وهذه ثالث فرضة ابتدعت من الغلال على البلاد في هذه الدولة‏.
5- وفي ليلة الأحد ثامنه عدى ساري عسكر إلى بر أنبابة بوطاقه وهو دبوس أوغلي الكتخدا المذكور وذلك في أواخر النهار وضربوا مدافع كثيرة لتعديته وأخذ العسكر في تشهيل أمورهم ولوازمهم وأنفق عليهم الباشا نفقة هذا والطلب والتوزيع بالأكياس مستمر لا ينقطع عن أعيان الناس والتجار والأفندية الكتبة وجماعة الضربخانة والملتزمين بالجمارك وكل من كان له أدنى علاقة أو خدمة أو تجارة أو صنعة ظاهرة أو فائظ أو له شهرة قديمة أو من مساتير الناس وغالب الأحيان المحصل لذلك والقاضي فيه السيد / عمر أفندي النقيب وقد حكمت عليه الصورة التي ظهر فيها وانعكس الحال والوضع وساءت الظنون والأمر لله وحده‏.‏
6- وفيه قرر فرضة على البلاد وهي دراهم وغلال وعينوا لذلك كاشفًا فسافروا معه عدة من العسكر وصحبتهم نقاقير وسافر أيضًا خازندار الباشا بلبيس وأخذ صحبته أكثر رفقائه وأصحابه من أولاد البلد فسافروا على حين غفلة إلى ناحية الدقهلية‏.‏ ‏
7- وفي عاشره وصلت الأخبار بأن الألفي ارتحل من البحيرة ورجع إلى ناحية وردان وعدى إلى جزيرة السبكية وهرب من كان مرابطًا من الأجناد المصرية وغيرهم وطلبوا من أهالي السبكية دراهم وغلالًا وفر غالب أهلها منها وجلوا عنها وتفرقوا في بلاد المنوفية‏.‏
8- وفيه علقوا تسعة رؤوس على السبيل المواجه لباب زويلة ذكروا أنها من قتلى دمنهور وهي رؤوس مجهولة ووضعوا بجانبهم بيرقين ملطخين بالدماء وفيه طلب "الباشا" دراهم سلفة من الملتزمين والتجار وغيرهم بموجب دفتر أحمد باشا خورشيد الذي كان قبضها في عام أول قبل القومة فعينوا مقاديرها وعينوا بطلبها المعينين بالطلب الحثيث من غير مهلة ومن لم يجده بأن كان غائبًا أو متغيبًا دخلوا داره وطالبوا أهله أو جاره أو شريكه فضاق ذرع الناس وذهبوا أفواجًا إلى السيد عمر أفندي النقيب فيتضجر ويتأسف ويتقلق ويهون عليهم الأمر وربما سعى في التخفيف عن البعض بقدر الإمكان وقد تورط في الدعوة‏.‏
9- وفيه فتح الباشا الطلب بفائظ البلاد والحصص من الملتزمين والفلاحين وأمر الروزنامجي وطائفته بتحرير ذلك عن السنة القابلة فضج الملتزمون وترددوا إلى السيد عمر النقيب والمشايخ فخاطبوا الباشا فاعتذر إليهم باحتياج الحال والمصاريف ثم استقر الحال على قبض ثلاثة أرباعه النصف على الملتزمين ولربع على الفلاحين وأن يحسب الريال في القبض منهم بثلاثة وثمانين نصفًا ويقبضه باثنين وتسعين وعلى كل مائة ريال خمسة أنصاف حق طريق سواء كان القبض من الملتزم بحصته في المصر أو بيد المعينين من طرف الكاشف في الناحية وإذا كان التوجيه بالطلب من كاشف الناحية كانت أشنع في التغريم والكلف لترادف الإرسال وتكرار حق الطريق‏.‏
10- وفيه أرسل الباشا فجمع الأخشاب التي وجدها ببولاق في الشوادر والحواصل والوكائل وطلعوا جميع ذلك إلى القلعة لعمل العربات والعجل برسم المدافع والقنابر‏.‏
11- وفيه شرع الباشا في تقرير فرضة على البلاد البحرية وهي القليوبية والمنوفية والغربية والدقهلية والمزاحمتين إلى آخر مجرى النيل ورتبوها أعلى وأدنى وأوسط وهي غلال الأعلى ثلاثون أردبًا وثلاثون رأسًا من الغنم وأردب أرز وثلاثون رطلًا من الجبن ومن السمن كذلك وغير هذه الأصناف كالتبن والجلة وغير ذلك والأوسط عشرون أردبًا وما يتبعها مما ذكر والأدنى اثنا عشر ومع ذلك القبض والطلب مستمر في فائظ الملتزمين بعضه من ذواتهم وبعضه من فلاحيهم مع ما يتبع ذلك من حق الطرق والخدم وتوالي الاستعجالات‏.‏
12- وفيه شرع الباشا في تجهيز عساكر وتسفيرهم إلى جهة بحري وقبلي وحجزوا المراكب للعسكر وفيه شرع أيضًا في تقرير فرضة عظيمة على البلاد والقرى والتجار ونصارى الأروام والأقباط والشوام ومساتير الناس ونساء الأعيان والملتزمين وغيرهم وقدرها ستة آلاف كيس وذلك برسم مصلحة القبودان وذكروا أنها سلفة ستة أيام ثم ترد إلى أربابها ولا صحة لذلك‏.‏
13- وفي يوم الأحد ثانيه وصلت قوافل الصعيد من ناحية الجبل وبها أحمال كثيرة وبضائع مع عرب المعازة وغيرهم فركب الباشا ليلًا وكبسهم على حين غفلة ونهبهم وأخذ جمالهم وأحمالهم متاعهم حتى أولاد العربان والنساء والبنات ودخلوا بهم إلى المدينة يقودونهم أسرى في أيديهم وفي ذلك اليوم ضربوا مدافع كثيرة من القلعة بورود أشخاص من الططر ببشارة إلى الباشا وتقريره على السنة الجديدة‏.‏
14- وفيه سافر أيضًا حسن باشا طاهر وفيه نزل الدالاتية إلى بولاق وكذلك الكثير من العسكر وحصل منهم الإزعاج في أخذ الحمير والجمال قهرًا من أصحابها ونزلوا بخيولهم على ريب البرسيم والغلال الطائبة التي بناحية بولاق وجزيرة بدران وخلافها فرعتها وأكلتها بهائمهم في يوم واحد ثم انتقلوا إلى ناحية منية السيرج وشبرا والزاوية الحمراء والمطرية والأميرية فأكلوا زروعات الجميع وخطفوا مواشيهم وفجروا بالنساء وافتضوا الأبكار ولاطوا بالغلمان وأخذوهم وباعوهم فيما بينهم حتى باعوا البعض بسوق مسكة وغيره وهكذا تفعل المجاهدون ولشدة قهر الخلائق منهم وقبح أفعالهم تمنوا مجيء الإفرنج من أي جنس كان وزال هؤلاء الطوائف الخاسره الذين ليس لهم ملة ولا شريعة ولا طريقة يمشون عليها فكانوا يصرخون بذلك بمسمع منهم فيزداد حقدهم وعداوتهم ويقولون أهل هذه البلاد ليسوا مسلمين لأنهم يكرهوننا ويحبون النصارى ويتوعدونهم إذا خلصت لهم البلاد ولا ينظرون لقبح أفعالهم‏.‏
15- ولما انقضى أمر الحرب من ناحية رشيد وانجلت الإنكليز عنها ورجعوا إلى الإسكندرية نزل الأتراك على الحماد وما جاورها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها زاعمين أنها صارت دار حرب بنزول الإنكليز عليها وتملكها حتى أن بعض الظاهرين كلمهم في ذلك فرد عليه بذلك الجواب فأرسلوا إلى مصر بذلك وكتبوا في خصوص ذلك سؤلًا وكتب عليه المفتون بالمنع وعدم الجواز وحتى يأتي الترياق من العراق يموت الملسوع ومن يقرأ ومن يسمع وعلى أنه لم يرجع طالب الفتوى بل أهملت عند المفتي وتركها المستفتي ثم أحاطت العساكر ورؤساؤهم برشيد وضربوا على أهلها الضرائب وطلبوا منها الأموال والكلف الشاقة وأخذوا ما وجدوه بها من الأرز للعليق فخرج كبيرها اليد حسن كريت إلى حسن باشا وكتخدا بك وتكلم معهما وشنع عليهما وقال أما كفانا ما وقع لنا من الحروب وهدم الدور وكلف العسكر ومساعدتهم ومحربتنا معهم معكم وما قاسيناه من التعب والسهر وإنفاق المال ونجازي منكم بعدها بهذا الأفاعيل فدعونا نخرج بأولادنا وعيالنا ولا نأخذ معنا شيئًا ونترك لكم البلدة افعلوا بها ما شئتم فلاطفوه في الجواب وأظهروا له إليه تمام بالمناداة والمنع وكت المذكور أيضًا مكاتبات بمعنى ذلك وأرسلها إلى البلدة والسيد عمر بمصر فكتبوا فرمانًا وأرسلوه بالكف والمنع وهيهات ولما وصل من وصل بالقبلي والأسرى أنعم الباشا على الواصلين منهم بالخلع والبقاشيش وألبسهم شلنجات فضة على رؤوسهم فازداد جبروتهم وتعديهم ولما رجع الإنكليز إلى ناحية الإسكندرية قطعوا السد فسالت المياه وغرقت الأراضي حول الإسكندرية‏.‏
16- وفيه كمل تحرير دفاتر الفرضة والمظالم التي ابتدعوها في العام الماضي على القراريط وإقطاعات الأراضي وكذلك أخذ نصف فائظ الملتزمين وعينوا المعينين لتحصيله من المزارعين ذلك خلاف ما فرضوه على البنادر من الأكياس الكثيرة المقادير‏.‏
17- وفي ذلك اليوم أرسل الآغا والي الشرطة أتباعهما لأرباب الصنائع والحرف والبوابين بالوكائل والخانات يأمرونهم بالحضور من الغد إلى بيت القاضي فانزعجوا من ذلك ولم يعلموا لأي شيء هذا الطلب وهذه الجمعية وباتوا متفكرين ومتوهمين فلما أصبح يوم الاثنين واجتمع الناس أبرزوا لهم مرسومًا قرئ عليهم بسبب زيادة صرف المعاملة وذلك أن الريال الفرانسة وصلت مصارفته إلى مائتين وعشرة من الأنصاف العددية والمحبوب إلى مائتين وعشرين وأكثر والمشخص البندقي وصل إلى أربعمائة وأربعين فضة ونحو ذلك فلما قرؤوا عليهم المرسوم وأمروهم بعدم الزيادة وأن يكون صرف الفراسة بمائتين فقط والمحبوب بمائتين وعشرين فضة والبندقي بأربعمائة وعشرين فلما سمعوا ذلك قالوا نحن ليس لنا علاقة بذلك هذا أمر منوط بالصيارف وانفض المجلس‏.
18- وفيه طلب الباشا من التجار نحو الألفي كيس على سبيل السلفة فوزعت على الأعيان وتجار البن وأهل وكالة الصابون ووكالة التفاح ووكالة القرب وخلافها وحجزوا البضائع وأجلسوا العساكر على الحواصل والوكائل يمنعون من يخرج من حاصله أو نخزنه شيئًا إلا بقصد الدفع من أصل المطلوب منهم ثم أردفوا ذلك بمطلوبات من أفراد الناس المساتير فيكون الإنسان جالسًا في بيته فما يشعر إلا والمعينون واصلون إليه وبيدهم بصلة الطلب إما خمسة أكياس أو عشرة أو أقل أو أكثر فإما أن يدفعها وإلا قبضوا عليه وسحبوه إلى السجن فيحبس ويعاقب حتى يتمم المطلوب فنه فنزل بالناس أمر عظيم وكرب جسيم‏.‏
وفي الناس من كان تاجرًا ووقف حاله بتوالي الفتن والمغارم وانقطاع الأسباب والأسفار وأفلس وصار يتعيش بالكد والقرض وبيع متاعه وأساس داره وعقاره واسمه باق في دفاتر التجار فما يشعر إلا والطلب لاحقه بنحو ما تقدم لكونه كان معروفًا في التجار فيؤخذ ويحبس ويستغيث فلا يغاث ولا يجد شافعًا ولا راحمًا وهذا الشيء خلاف الفرض المتوالية على البلاد والقرى في خصوص هذه الحادثة وكذلك على البنادر مقادير لها صورة وما يتبعها من حق طرق المعينين والمباشرين وتوالي مرور العساكر آناء الليل وأطراف النهار بطلب الكلف واللوازم وأشياء يكل القلم عن تسطيرها ويستحي الإنسان من ذكرها ولا يمكن الوقوف على بعض جزئياتها حتى خربت القرى وافتقر أهلها وجلوا عنها فكان يجتمع أهل عدة من القرى في قرية واحدة بعيدة عنهم ثم يلحقها وبالهم فتخرب كذلك وأما غالب بلاد السواحل فإنها خربت وهرب أهلها وهدموا دورها ومساجدها وأخذوا أخشابها ومن جملة أفاعيلهم الشنيعة التي لم يطرق الأسماع نظيرها أنهم قرروا فرضة من فرض المغارم على البلاد فكتبوا أوراقًا وسموها بشارة الفرضة يتولاها بعض من يكون متطلعًا لمنصب أو منفعة ثم يرتب له خدمًا وأعوانًا ثم يسافر إلى الإقليم المعين له وذلك قبل منصب الأصل وفي مقدمته يبعث أعوانه إلى البلاد يبشرونهم بذلك ثم يقبضون ما رسم لهم في الورقة من حق الطريق بحسب ما أدى إليه اجتهاده قليلًا أو كثيرًا وهذه لم يسمع بما يقاربها في ملة ولا ظلم ولا جور وسمعت من بعض من له خبرة بذلك أن المغارم التي وفي أواخره قوي عزم الباشا على السفر لناحية الإسكندرية وأمر بإحضار اللوازم والخيام وما يحتاج إليه الحال من روايا الماء والقرب وباقي الأدوات‏.‏
19- واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس سنة 1222 في ثانية وهو يوم الجمعة ركب الباشا إلى بولاق وعدى إلى ناحية بر أنبابة ونصبوا وطاقه هناك وخرجت طوائف العسكر إلى ناحية بولاق وساحل البحر وطفقوا يأخذون ما يجدونه من البغال والحمير والجمال واستمروا على الدخول والخروج والذهاب والمجيء والرجوع والتعدية أيامًا وهم على ذلك النسق من خطف البهائم وامتنعت المقاؤن عن نقل الماء من البحر حتى شح الماء وغلا سعره وعطشت الناس وامتنع حمل البضائع‏.‏
20- وفي ثالثه طلبوا أيضًا خيول الطواحين لجر المدافع والعربات حتى تعطلت الطواحين عن طحن الدقيق ولما ذهبوا بها إلى العرضي اختاروا منها جيادها وأعطوا أربابها عن كل فرس خمسين قرشًا وردوا البواقي لأصحابها‏.‏
21- وفيه طلبوا أيضًا دراهم من طائفة القبانية والحطابة وباعة السمك القديد المعروف بالفسيخ فكان القدر المطلوب من طائفة القبانية مائة وخمسين كيسًا فأغلقوا حوانيتهم وهربوا والتجؤا إلى الجامع الأزهر وكذلك الحطابة وغيرهم منهم من هرب ومنهم من التجأ إلى السيد عمر واستمر كذلك ثلاثة أيام وركب السيد عمر وعدى إلى الباشا وتشفع في الطوائف المذكورة فرفعوا عنهم غرامتهم وكتبوا لهم أمانًا بذلك‏.
‏ 22- وفي يوم الخميس والجمعة والسبت وصلت عساكر كثيرة ودخلوا المدينة وطلبوا سكنى البيوت وأزعجوا الناس وأخرجوهم من أوطانهم وضجت الخلائق وحضر الكثير إلى السيد عمر طائفة من كبار العسكر وكلمهم في ذلك وقال لهم كل من كان ساكنًا قبل الخروج إلى العرضي في دار ليرجع إليها ويسكنها ولا تعارضوا الناس في مساكنهم فلم يفد كلامه في ذلك شيئًا لأن البيوت التي كانوا بها أخربوها وحرقوا أخشابها وتركوها كيمانًا وذلك دأبهم‏.‏
23- وفيه كتبوا أواق البشارة بذهاب الإنكليز وسفرهم من الإسكندرية وأرسلوها إلى البلاد والقرى وعليها حق الطريق أربعة آلاف وألفين فضة .
24- هذا ما كان من أمر الإنكليز وأما العساكر فإنهم أفحشوا في التعدي على الناس وغصب البيوت من أصحابها فتأتي الطائفة منهم إلى الدار المسكونة ويدخلونها من غير احتشام ولا إذن ويهجمون على سكن الحرم بحجة أنهم يتفرجون على أعالي الدار فتصرخ النساء ويجتمع أهل الخطة ويكلمونهم فلا يلتفتون إليهم فيعالجونهم مرة بالملاطفة وأخرى بكثر الجمع إن كان بهم قوة أو بمعونة ذي مقدرة وإذا انفصلوا فلا يخرجون من الدار إلا بمصلحة أو هدية لها قدر ويشترطون في ذلك الشيلان الكشميري فإذا أحضروا لهم مطلوبهم فلا يعجب كبيرهم ويطلب خلافه أحمر أو أصفر واتفق أن بعضهم دخل عليه بينباشا بجماعته فلم يزل به حتى صالحه على شال يأخذه ويترك له داره فأتاه بشال أصفر فأظهر أنه لا يريد إلا الأحمر الدودة فلم يسعه إلا الرضا وأراد أن يرد الأصفر ويأتيه بالأحمر فحجزه وقال دعه حتى تأتي بالأحمر ضمه إلى الأصفر وأخذ الاثنين ثم انصرف عنه وذلك خلاف ما يأخذونه من الدراهم فإذا انصرفوا وظن صاحب الدار أنهم انجلوا عنه فيأتيه بعد يومين أو ثلاثة خلافهم ويقع في ورطة أخرى مثل الأولى أو أخف أو أعظم منها وبعضهم يدخل الدار ويسكنها بالتحيل والملاطفة مع صاحب الدار فيقول له يا أخي يا حبيبي أنا معي ثلاثة أنفار وأربعة لا غير ونحن مسافرون بعد عشرة أيام والقصد أن تفسح لنا نقيم في محل الرجال وأنت بحريمك في مكانهم أعلى الدار فيظن صدقهم ويرضى بذلك على تخوف وكره فيعبرون ويجلسون كما قالوا في محل الرجال ويربطون خيولهم في الحوش ويعلقون أسلحتهم ويقولون نحن صرنا ضيوفك فإذا أراد أن يرفع فرش المكان يقولون نحن نجلس على المحصير والبلتط وأي شيء يصيب الفرش فيتركه حياء وقهرًا ثم يطلبون الطعام والشراب فما يسعه إلا أن يتكلف لهم ذلك في أوقاته ويستعملون الأواني ويطلبون ما يحتاجون إليه مثل الطشت والإبريق وغير ذلك ثم تأتيهم رفقاؤهم شيئًا فشيئًا ويدخلون ويخرجون وبأيديهم الأسلحة ويضيق عليهم المكان فيقولون لصاحب المكان أخل لنا محلًا آخر في الدار فوق لرفقاتنا فإن قال ليس عندنا محل آخر أو قصر في مطلوب ابتداؤه بالقسوة فعند ذلك يعلم صاحب الدار أنهم لا انفكاك لهم عن المكان وربما مضت العشرة أيام أو أقل أو أكثر وظهرت قبائحهم وقذروا المكان وأحرقوا البسط والحصر بما يتساقط عليها من الجمر من شربهم النارجيلات والتنباك والدخان وشربوا الشراب وعربدوا وصرخوا وصفقوا وغنوا بلغاتهم المختلفة وفقعت رائحة العرقي في المنزل فيضيق صدر الرجل وصدر أهل بيته ويطيب خاطرهم على الخروج والنقلة فيطلبون لأنفسهم مسكنًا ولو مشتركًا عند أقاربهم ومعارفهم وتخرج النساء في غفلة بثيابهن وما يمكنهن حمله ثم يشرعون في إخراج المتاع والأواني والنحاس والفرش فيحجزونه منهم ويقولون إذا أخذتم ذلك فعلى أي شيء نجلس وفي أي شيء نطبخ وليس معنا فرش ولا نحاس والذي كانمعنا استهلك منا في السفر والجهاد ودفع الكفار عنكم وأنتم مستريحون في بيوتكم وعند حريمكم فيقع النزاع وينفصل الأمر بينهم وبين صاحب الدار إما بترك الدار بما فيها أو بالمقاسمة والمصالحة بالترجي والوسايط ونحو ذلك وهذا الأمر يقع لأعيان الناس والمقيمين بالبلدة من الأمراء والأجناد المصريين وأتباعهم ونحوهم ثم أنهم تعدوا إلى الحارات والنواحي التي لم يتقدم لهم السكنى بها من قبل ذلك مثل نواحي المشهد الحسيني وخلف الجامع المؤيدي والخرنفش والجمالية حتى ضاقت المساكن بالناس لقلتها وصار بعض المحتشمين إذا سكن بجواره عسكر يرتحل من داره ولو كانت ملكه بعد أمن جوارهم وخوفًا من شرهم وتسلقهم على الدار لأنهم يصعدون على الأسطح والحيطان ويتطلعون على من بجوارهم ويرمون بالبندقيا والطبنجات ومما اتفق أن كبيرًا منهم دخل بطائفته إلى منزل بعض الفقهاء المعتبرين وأمره بالخروج منها ليسكن هو بها فأخبره أنه من مشايخ العلم فلم يلتفت لقوله فتركه ولبس عمامته وركب بغلته وحضر إلى إخوانه المشايخ واستغاث بهم فركب معه جماعنه منهم وذهبوا إلى الدار ودخلوا إليها راكبين بغالهم فعندما شاهدهم العسكر وهم واصلون في كبكبة أخذوا أسلحتهم وسحبوا عليهم السيوف فرجع البعض هاربًا وثبت الباقون ونزلوا عن بغالهم وخاطبوا كبيرهم وعرفوه أنها دار العالم الكبير وهذا لا يناسب وأن النصارى واليهود يكرمون قسسهم ورهبانهم وأنتم أولى لأنكم مسلمون فقالوا لهم في الجواب أنتم لستم بمسلمين لأنكم كنتم تتمنون تملك النصارى لبلادكم وتقولون أنهم خير منا ونحن مسلمون ومجاهدون طردنا النصارى وأخرجناهم من البلتد فنحن أحق بالدور منكم ونحو ذلك من القول الشنيع ثم لم يزالوا في معالجتهم إلى ثاني يوم ولم ينصرفوا عن الدار حتى دفعوا لهم مأتي قرش وشال كشمير لكبيرهم وفعل مثل ذلك بعدة بيوت دخلها على هذه الصورة وأخذ منها أكثر من ذلك ومنها دار إسماعيل أفندي صاحب العيار بالضربخانة وهو رجل معتبر أخذ منه خمسمائة قرش وشال كشمير وفعل مثل ذلك بغيرهم هو و أمثاله ولما أكثر الناس من التشكي للباشا وللكتخدا قال الكتخدا أناس قاتلوا وجاهدوا أشهرًا وأيامًا وقاسوا ما قاسوه في الحر والبرد والطل حتى طردوا عنكم وأجلوهم عن بلاد أفلا تسعونهم في السكنى ونحو ذلك من القول‏.‏
25- ولما انقضى هذا الأمر واستقر الباشا واطمأن خاطره وخلص له الإقليم المصري وثغر الإسكندرية الذي كان خارجًا عن حكمه حتى قبل مجيء الإنكليز فإن الإسكندرية كانت خارجة عن حكمه فلما حصل مجيء الإنكليز وخروجهم صار الثغر في حكمه أيضًا فأول ما بدأ به أن أبطل مسموح المشايخ والفقهاء معًا في البلاد التي التزموا بها لأنه لما ابتدع المغارم والشهريات والفرض التي فرضها على القرى ومظالم الكشوفية جعل ذلك عامًا على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع لناس حتى أكابر العسكر وأصاغرهم ما عدا البلاد والحصص التي للمشايخ خارجة عن ذلك ولا يؤخذ منها نصف الفائظ ولا ثلثه ولا ربعه وكذلك من ينتسب لهم أو يحتمي فيهم ويأخذون الجعالات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتها ونظير صيانتها واغتروا بذلك واعتقدوا دوامه وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المنجلحين بدون القيمة وافتتنوا بالدنيا وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين واتخذوا الخدم والمقدمين وأعوان وأجروا الحبس والتعزيز والضرب بالفلقة والكرابيج المعروفة بزب الفيل واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد وقدروا حق طرق لأتباعهم وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة وانقلب الوضع فيهم بضده وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائظ والمضاف والرماية والمرافعات والمراسلات والتشكي والتنجي مع الأقباط واستدعاء عظمائهم في جمعياتهم وولائنهم والاعتناء بشأنهم والتفاخر بتردادهم والتردد عليهم والمهاداة فيما بينهم إلى غير ذلك مما يطول شرحه وأوقع مع ذلك زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة والتفاقم والتكالب على سفاسف الأمور وحظوظ الأنفس على الأشياء الواهية مع ما جلبوا عليه من الشح والشكوى والاستجداء وفراغ الأعين والتطلع للأكل في ولائم الأغنياء والقراء والمعاتبة عليها إن لم يدعوا إليها والتعريض بالطلب وإظهار الاحتياج لكثرة العيال والأتباع واتساع الدائرة وارتكابهم الأمور المخلة بالمروءة المسقطة للعدالة كالاجتماع في سماع الملاهي والأغاني والقيان والآلات المطربة وإعطاء الجوائز والنقوط بمناداة الخلبوص وقوله واعلاماه في السامر وهو يقول في سامر الجمع بمسمع من النساء والرجال من عوام الناس وخواصهم برفع الصوت الذي يسمعه القاضي والداني وهو يخاطب رئيسة المغاني يا ستي حضرة شيخ الإسلام والمسلمين مفيد الطالبين الشيخ العلامة فلان منه كذا وكذا من التصفيات الذهب قدر مسماه كثير وجرمه قليل نتيجته التفاخر الكذب والازدراء بمقام العلم بين العوام وأوباش الناس الذين اقتدوا بهم في فعل المحرمات الواجب عليهم النهي عنها كل ذلك من غير احتشام ولا مبالاة مع التضاحك والقهقهة المسموعة من البعد في كل مجمع ومواظبتهم على الهزليات والمضحكات وألفاظ الكتابة المعبر عنها عند أولاد البلد بالأنقاط والتنافس في الأحداث إلى غير ذلك‏.‏
26- وفيه فتحوا الطلب من الملتزمين ببواقي الميري على أربع سنوات ماضية‏.‏
27- وفي عاشره فتحوا أيضًا دفاتر الطلب بميري السنة القابلة ووجهوا الطلب بها إلى العسكر فدهى الناس بدواه متوالية منها خراب القرى بتوالي المظالم والمغارم والكلف وحق الطرق والاستعجالات والتساويف والبشارات فكان أهل القرية النازل بها ذلك ينتقلون إلى القرية المحمية لشيخ من الأشياخ وقد بطلت الحماية أيضًا حينئذ ثم أنزلوا بالبنادر مغارم عظيمة لها قدر من الأكياس الكثيرة وذلك عقب فرصة البشارة مثل دمياط ورشيد والمحلة والمنصورة مائة كيس وفي أثناء ذلك قرروا أيضًا فرضة غلال وسمن وشعير وفول على البلاد والقرى وإن لم يجد المعينون للطلب شيئًا من الدراهم عند الفلاحين أخذوا مواشيهم وأبقارهم لتأتي أربابها ويدفعوا ما تقرر عليهم ويأخذوها ويتركونها بالجوع والعطش فعند ذلك يبيعونها على الجزارين ويرمونها عليهم قهرًا بأقصى القيمة ويلزمونهم بإحضار الثمن فإن تراخوا وعجزوا شددوا عليهم بالحبس والضرب‏.
28- وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه اجتمع عسكر الأرنؤد والترك على بيت محمد علي باشا وطلبوا علائفهم فوعدهم بالدفع فقالوا لا نصبر وضربوا بنادق كثيرة ولم يزالوا واقفين ثم انصرفوا وتفرقوا وارتجت البلد وأرسل السيد عمر إلى أهل الغورية والعقادين والأسواق يأمرهم برفع بضائعهم من الحوانيت ففعلوا وأغلقوها فلما كان قبيل الغروب وصل إلى بيت الباشا طائفة من الدلاتية وضربوا أيضًا بنادق فضرب عليهم عسكر الباشا كذلك فقتل من الدلاة أربعة أنفار وانجرح بعضهم فانكفوا ورجعوا وبات الناس متخوفين وخصوصًا نواحي الأزهر وأغلقوا البوابات من بعد الغروب وسهروا خلفها بالأسلحة ولم تفتح إلا بعد طلوع الشمس وأصبح يوم الثلاثاء والحال على ما هو عليه من الاضطراب ونقل الباشا أمتعته الثمينة تلك الليلة إلى القلعة وكذلك في ثاني يوم ثم أنه طلع إلى القلعة في ليلة الأربعاء وشيعه حسن باشا إلى القلعة ورجع إلى داره ويقال أن طائفة من العسكر الذين معه بالدار أرادوا غدره تلك الليلة وعلم ذلك منهم بإشارة بعضهم لبعض رمزًا فغالطهم وخرج مستخفيًا من البيت ولم يعلم بخروجه إلا بعض خواصه الملازمين له وأكثرهم أقاربه وبلدياته ولما تحققوا من خروجه من الدار وطلوعه إلى القلعة صرف بونابارته الخازندار الحاضرين في الحال ونقل الأمتعة والخزينة في الحال وكذلك الخيول والسروج وخرجت عساكره يحملون ما بقي من المتاع والفرش والأواني إلى القلعة وأشيع في البلدة أن العساكر نهبوا بيت الباشا وزاد اللغط والاضطراب ولم يعلم أحد من الناس حقيقة الحال حتى ولا كبار العسكر وزاد تخوف الناس من العسكر وحصل منهم عربدات وخطف عمائم وثياب وقتل أشخاص وأصبح يوم الخميس وباب القلعة مفتوح والعساكر مرابطون وواقفون بأسلحتهم وطلع أفراد من كبار العسكر بدون طوائفهم ونزلوا واستمر الحال على ذلك يوم الجمعة والعسكر والناس في اضطراب وكل طائفة متخوفة من الأخرى والأرنؤد فرقتان فرقة تميل إلى الأتراك وفرقة تميل إلى جنسها والدلاة تميل إلى الأتراك وتكره الأرنؤد وهم كذلك والناس متخوفة من الجميع ومنهم ومن يخشى من قيام الرعية ويظهر التودد لهم وقد صاروا مختلطين بهم في المساكن والحارات وتأهلوا وتزوجوا منهم‏.‏
وفي يوم السبت طلع طائفة من المشايخ إلى القلعة وتكلموا وتشاوروا في تسكين هذا الحال بأي وجه كان ثم نزلوا‏.‏
وفي ليلة الأحد كانت رؤية هلال رمضان فلم يعمل الموسم المعتاد وهو الاجتماع ببيت القاضي وما يعمل به من الحراقة والنفوط والشنك وركوب المحتسب ومشايخ الحرف والزمور والطبول واجتماع الناس للفرجة بالأسواق والشوارع وبيت القاضي فبطل ذلك كله ولم تثبت الرؤية تلك الليلة وأصبح يوم الأحد والناس مفطرون فلما كان وقت الضحوة نودي بالإمساك ولم تعلم‏.‏
واستهل شهر رمضان بيوم الاثنين سنة 1222 وفي ليلته بين العصر والمغرب ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وأردفوا ذلك بالبنادق الكثيرة المتتابعة وكذلك العسكر الكائنون بالبلدة فعلوا كفعلهم من كل ناحية ومن أسطحة الدور والمساكن وكان شيئًا هائلًا واستمر ذلك إلى بعد الغروب وذلك شنك لقدوم رمضان في دخوله وانقضائه‏.‏
وفي رابعه انكشفت القضية عن طلب مبلغ ألفي كيس بعد جمعيات ومشاورات تارة ببيت السيد عمر النقيب وتارة في أمكنة أخرى كبيت السيد المحروقي وخلافه حتى رتبوا ذلك ونظموه فوزع منه جانب على رجال دائرة الباشا وجانب على المشايخ الملتزمين نظير مسموحهم في فرض حصصهم التي أكلوها وهي مبلغ مائتي كيس وزعت على القراريط على كل قيراط ثلاثة آلاف نصف فضة على سبيل القرض لأجل أن ترد أو تحسب لهم في الكشوفات من رفع المظالم ومال الجهات يأخذونها من فلاحيهم وفرض من ذلك مبالغ على أرباب الحرف وأهل الغورية ووكالة الصابون ووكالة القرب والتجار الآفاقية واستقر ديوان الطلب ببيت ابن الصاوي بما يتعلق بالفقهاء وإسماعيل الطوبجي بالمطلوب من طائفة الأتراك وأهل خان الخليلي والمرجع في الطلب والدفع والرفع إلى السيد عمر النقيب واجتمع كثير من أهل الحرف كالصرماتية وأمثالهم والتجؤا إلى الجامع الأزهر وأقاموا به ليالي وأيامًا فلم ينفعهم ذلك وانبث المعينون بالطلب وبأيديهم الأوراق بمقدار المبلغ المطلوب من الشخص وعليها حق الطريق وهم قواسة أتراك وعسكر ودلاة وقواسة بلدي ودهى الناس بهذه الداهية في الشهر المبارك فيكون الإنسان نائمًا في بيته ومتفكرًا في قوت عياله فيدهمه الطلب ويأتيه المعين قبل الشروق فيزعجه ويصرخ عليه بل ويطلع إلى جهة حريمه فينتبه كالمفلوج من غير اصطباح ويلاطف المعين ويعده ويأخذ بخاطره ويدفع له كراء طريقة المرسوم له في الورقة المعين بها المبلغ المطلوب قبل كل شيء فما يفارقه إلا ومعين آخر واصل إليه على النسق المتقدم وهكذا‏.‏
29- وعبثوا في الدور وأزعجوا أهلها بقبح أفعالهم فإنهم عندما يدخلون في أول بيت يصعدون إلى الحريم بصورة منكرة من غير دستور ولا استئذان وينقبون في مساكن الحريم العليا فيهدمون الحائط ويدخلون منها إلى محل حريم الدار الأخرى وتصعد طائفة منهم إلى السطح وهم يرمون بالبنادق في الهواء في حال مشيهم وسيرهم وهكذا ولا يخفى ما يحصل للنساء من الانزعاج ويصرن يصرخن ويصحن بأطفالهن ويهربن إلى الحارات الأخرى مثل حارة قواديس وناحية حارة عابدين بظاهر الدور المذكورة بغاية الخوف والرعب والمشقة وطفقت العساكر تنهب الأمتعة والثياب والفرش ويكسرون الصناديق ويأخذون ما فيها ويأكلون ما في القدور من الأطعمة في نهار رمضان من غير احتشام ولقد شاهدت أثر قبح فعلهم ببيت أبي دفية المذكور من الصناديق المكسرة وانتشار حشو الوسائد والمراتب التي فتقوها وأخذوا ظروفها ولم يسلم لأصحاب المساكن سوى ما كان لهم خارج دورهم وبعيدًا عنها أو وزعوه قبل الحادثة وأصيب محمد أفندي أبو دفية برصاصة أطلقها بعضهم من النقيب الذي نقب عليهم نفذت من كتفه وكذلك فعل العساكر التي أتت من ناحية المدابغ بالبيوت الأخرى واستمروا على هذه الأفعال ثلاثة أيام بلياليها فلما كان ليلة الاثنين ثاني عشرينه حضر عمر بك كبير الأرنؤد الساكن ببولاق وصالح قوج إلى رجب آغا المذكور وأركباه وأخذاه إلى بولاق وبطل الحرب بينهم ورفعوا المتاريس في صبحها وانكشفت الواقعة عن نهب البيوت ونقبها وإزعاج أهلها وما فيما بينهم أنفار قليلة وكذلك مات أناس وانجرح أناس من أهل البلد‏.
30- وفيه سافر إبراهيم بك ابن الباشا على طريق القليوبية وصحبته طائفة من مباشري الأقباط وفيهم جرجس الطويل وهو كبيرهم وأفندية من أفندية الروزنامة وكتبة مسلمين للكشف على الأطيان التي رويت من ماء النيل والشرقي فأنزلوا بالقرى النوازل من الكلف وحق الطرقات وقرروا على كل فدان رواه النيل أربعمائة وخمسين نصف فضة تقبض للديوان وذلك خلاف ما للملتزم والمضاف والبراني وما يضاف إلى ذلك من حق الطرق والكل المتكررة‏.‏
31- واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأربعاء سنة 1222 وفيه فرضوا على مساتير الناس سلف أكياس ويحسب لهم ما يؤخذ منهم من أصل ما يتقرر على حصصهم من المغارم في المستقبل وعينوا العساكر بطلبها فتغيب غالبهم وتوارى لعدم ما بأيديهم وخلو أكياسهم من المال والتجأ الكثير منهم إلى ذوي الجاه ولازموا أعتابهم حتى شفعوا فيهم كشفوا غمتهم‏.‏
32- وعمل الباشا ديوانًا جمع فيه الدفتردار والمعلم غالي والسيد عمر والمشايخ وقال لهم لا يخفاكم أن الحرمين استولى عليها الوهابيون ومشوا أحكامهم بها وقد وردت علينا الأوامر السلطانية المرة بعد المرة للخروج إليهم ومحاربتهم وجلائهم وطردهم عن الحرمين الشريفين ولا تخفي عنكم الحوادث والوقائع التي كانت سببًا في التأخير عن المبادرة في امتثال الأوامر والآن حصل الهد وحضر قابجي باشا بالتأكيد والحث على خروج العساكر وسفرهم وقد حسبنا المصاريف اللازمة في هذه الوقت فبلغت أربعة وعشرين ألف كيس فاعملوا رأيكم في تحصيلها فحصل ارتباك واضطراب وشاع ذلك في الناس وزاد بهم الوسواس ثم اتفقوا على كتابة عرضحال ليصحبه ذلك القابجي معه بصورة نمقوها‏.‏
33- وفي ليلة الأحد خامسة سافر محمد علي باشا إلى بحري ونزل في المراكب وأرسل قبل نزوله بأيام بتشهيل الإقامات والكلف على البلاد من كل صنف خمسة عشر وأخلوا لمن معه بيوت البنادر مثل المنصورة ودمياط ورشيد والمحلة والإسكندرية وفرض الفرض والمغارم على البلاد على حكم القراريط التي كانوا ابتدعوها في العام الماضي على كل قيراط سبعة آلاف نصف فضة وسماها كلفة الذخيرة وأمر بكتابة دفتر لذلك فكتب إليه الروزنامجي أن الخراب استولى على كثير من البلاد فلا يمكن تحصيل هذا الترتيب فأرسل من المنصورة يأمر بتحرير العمار بدفتر مستقل والخراب بدفتر آخر فلما فعل الروزنامجي ذلك أدخل فيها بلاد بها بعض الرمق لتخلصن الفرضة وفيها ما هو لنفسه فلما وصلت إليه أمر بتوزيع ذلك الخراب على أولاده وأتباعه وأغراضه وعدتها مائة وستون بلدة وأمر الروزنامجي بكتابة تقاسيطها بالأسماء التي عينها له فلم يمكن الروزنامجي أن يتلاقى ذلك فتظهر خيانته ووزعت وارتفعت عن أصحابها وكذلك حصل بإقليم البحيرة لما عمها الخراب وتطل خرابها وطلبوا الميري من الملتزمين فتظلموا واعتذروا بعموم الخراب فرفعوها عنهم وفرقها الباشا على أتباعه واستولوا عليها وطلبوا الفلاحين الشاردة والمتسحبة من البلاد الآخر وأمروهم بسكناها وزادوا في الطنبور نقمات وهوانهم صاروا يتتبعون أولاد البلد أرباب الصنائع الذين لهم نسبة قديمة بالقرى وذلك بإغراء أتباعهم وأعوانهم فيكون الشخص منهم جالسًا في حانوته وصناعته فما يشعر إلا والأعوان محيطون به يطلبونه إلى مخدومهم فإن امتنع أو تلكأ سحبوه بالقهر وأدخلوه إلى الحبس وهو لا يعرف له ذنبًا فيقول وما ذنبي فيقال له عليك مال الطين فيقول وأي شيء يكون الطين فيقولون له طين فلاحتك من مدة سنين لم تجفعه وقدره كذا وكذا فيقول لا أعرف ذلك ولا أعرف البلد ولا رأيتها في همري لا أنا ولا أبي ولا جدي فيقال له ألست فلانًا الشيراوي أو الميناوي مثلًا فيقول لهم هذه النسبة قديمة سرت إلي من عمي أو خالي أو جدي فلا يقبل منه ويحبس ويضرب حتى يدفع ما ألزموه به أو يجد شافعًا يصالح عليه وقد وقع ذلك لكثير من المتسببين والتجار وصناع الحريري وغيرهم ولم يزل الباشا في سيره حتى وصل إلى دمياط وفرض على أهلها أكياسًا وأخذ من حكامها هدايا وتقادم ثم رجع إلى سمنود وركب في البر إلى المحلة وقبض ما فرضه عليها وهو خمسون كيسًا نقصت سبعة أكياس عجزوا عنها بعد الحبس والعقاب وقدم له حاكمها ستين جملًا وأربعين حصانًا خلاف الأقمشة المحلاوية مثل الززدخانات والمقاطع الحرير وما يصنع بالمحلة من أنواع الثياب والأمتعة صناعة من بقي بها من الصناع ثم ارتحل عنها ورجع إلى بحر منوف وذهب إلى رشيد والإسكندرية ولما استقر بها أعبى هدية إلى الدولة وأرسل إلى مصر فطلب عدة قناطر من البن والأقمشة الهندية وسبعمائة أردب أرز أبيض أخذت من بلاد الأرز وأرسل الهدية صحبة إبراهيم أفندي المهردار.
34- وفيه نودي على المعاملة بأن يكون صرف الريال الفرنسا بمائتين وعشرين وكان بلغ في مصارفته إلى مائتين وأربعين والمحبوب بمائتين وخمسين فنودي على صرفه بمائتين وأربعين وذلك كله من عدم الفضة العددية بأيدي الناس والصيارف لتحكيرهم عليها ليأخذها تجار الشام بفرط في مصارفتها تضم للميري فيدور الشخص على صرف القرش الواحد فلا يجد صرفه إلا بعد وفيه سافر أيضًا حسن الشماشرجي ولحق بالمجردين‏ .
35- وفي ثالث عشره نزل والي الشرطة وأمامه المناداة على ما يستقرضه الناس من العسكر بالربا والزيادة على أن يكون على كل كيس ستة عشر قرشًا في كل شهر لا غير والكيس عشرون ألف نصف فضة وهو الكيس الرومي وذلك بسبب ما انكسر على المحتجين والمضطرين من الناس من كثرة الربا الضيق المعاش وانقطاع المكاسب وغلو الأسعار وزيادة المكوس فيضطر الشخص إلى الاستدانة فلا يجد من يداينه من أهل البلد فيستدين من أحد العسكر ويحسب عليه على كل كيس خمسين قرشًا في كل شهر وإذا قصرت يد المديون عن الوفاء أضافوا الزيادة على الأصل وبطول الزمن تفحش الزيادة ويؤول الأمر لكشف حال المديون وجرى ذلك على كثير من مساتير الناس وباعوا أملاكهم ومتاعهم والبعض لما ضاق به الحال ولم يجد شيئًا خرج هاربًا وترك أهله وعياله خوفًا من العسكري وما يلاقي منه وربما قتله فعرض بعض المديونين إلى الباشا فأمر بكتابة هذا البيورلدي ونزل به والي الشرطة ونادى به في الأسواق فعد ذلك من غرائب الحكام حيث ينادي على الربا جهارًا في الأسواق من غير احتشام ولا مبالاة لأنهم لا يرون ذلك عيبًا في عقيدتهم‏.‏
36- وانقضت السنة بحوادثها العامة توالي الفرض والمظالم المتوالية وإحداث أنواع المظالم على كل شيء والتزايد فيها واستمرار الغلاء في جميع أسعار المبيعات والمآكل والمشارب بسبب ذلك وفقر أهل القرى وبيعهم لمواشيهم في الغارم فقل اللحم والسمن والجبن وأخذ مواشيهم وأغنامهم من غير ثمن في الكلف ثم رميها على الجزارين بأغلى ثمن ولا يذبحونها إلا في المذبح ويؤخذ منهم إسقاطها وجلودها ورؤوسها ورواتب الباشا وأهل دولته ثم يذهبون بما يبقى لهم لحوانيتهم فتباع على أهل البلد بأغلى ثمن حتى يخلص للجزار رأس ماله وإذا عثر المحتسب على جزار ذبح شاة اشتراها في غير المذبح قبض عليه وأشهره وأخذ ما في حانوته من اللحم من غير ثمن ثم يحبس ويضرب ويغرم مالًا ولا يغفر ذنبه ويسمى خائنًا وفلاتيًا.
37- وفي أواخره أمر الباشا بتحرير دفاتر فرضة الأطيان وزادوا فيها عن عام الشرقي الماضي الثلث وربطوها ورتبوها أربع مراتب تزيد كل ضريبة عن الأخرى مائة نصف فضة أعلاها يبلغ ثمانمائة نصف فضة على أن الفرضة الماضية بقي الكثير منها بالذمم لخراب القرى وعجزهم واختلى لتنظيم ذلك من الأفندية والأقباط بجهات متباعدة الأفندية بربع أيوب ببولاق والأقباط بدير مصر العتيقة حتى حرروا ذلك وتمموه ورتبوه في عد أيام ووقع الطلب في جانب معجلًا سموه الترويجة‏.‏
38- وفيه نودي على صرف الفراسة والمحبوب والمجر كما نودي في العام الماضي لأنه لما نودي بنقص صرفها ومضى نحو الشهر أو الشهرين رجع الصرف إلى ما كان عليه وزيادة فأعيد النداء كذلك وسيعود الخلاف ما دام الكرب والضيق بالناس على أن هذه المناداة والأوامر بالنقص والزيادة ليست من باب الشفقة على الناس ولا الرحمة وإنما هي بحسب أغراضهم وزيادة طمعهم فإنه إذا توجهت المطالبات بالفرض والمغارم نودي بالنقص ليزيد الفرط وتتوفر لهم الزيادة ويحصل التشديد والمعاقبة على من يقبض بالزيادة من أهل الأسواق وإذا كان الدفع من خزانتهم في علائف العسكر أو لوازمهم الكبيرة قبضوها بأزيد من الزيادة التي نادوا عليها من غير مبالاة ولا احتشام تناقض ما لنا إلا السكوت عنه‏.
39- ولما حضر وجد الباشا استولى على ذلك وأخذ المتاع والمصاغ والجواهر والعقار وأخذ الحصص وأخذ حلوانها وذلك بيد محمود بك الدويدار فلما حضر سليم آغا لم يجد شيئًا لا دار ولا عقار ولا نافخ نار فنزل عند علي بك أيوب بمنزله بشمس الدولة فحضر إليه محمود بك الدويدار والترجمان وأخذ بخاطره وطمناه وأخبراه أن الباشا سيعوض عليه ما ذهب منه وزيادة وزرعا له فوق السطوح فلم يسعه إلا التسليم‏.‏
40- وفيه طلب الباشا ألف كيس من المعلم غالي وألزمه بها فوزعها على المباشرين والكتبة وجمعها في أقرب زمن‏.‏
41- فيه شرعوا في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين ودفتر آخر بفرض مال على الرزق الإحباسية المرصدة على المساجد والأسبلة والخيرات وجهات البر والصدقات وكذلك أطيان الأوسية المختصة أيضًا بالملتزمين وكتبوا مراسيم إلى القرى والبلاد وعينوا بها معينين وحق طرق من طرف كشاف الأقاليم بالكشف على الرزق المرصدة على المساجد والخيرات وتقدموا إلى كل متصرف في شيء من هذه الأطيان وواضع عليها يده بأن يأتي بسنده إلى الديوان ويجدد سنده ويقوى بمرسوم جديد وإن تأخر عن الحضور في ظرف أربعين يومًا يرفع عنه ذلك ويمكن منه غيره وذكروا في مرسوم الأمر علة وحجة لم يطرق الأسماع نظيرها بأنه إذا مات السلطان أو عزل بطلت تواقيعه ومراسيمه وكذلك نوابه ويحتاج إلى تجديد تواقيع من نواب المتولي الجديد ونحو ذلك .
42- بعد دخول يوسف باشا الوزير ووجه الطلب على الملتزمين بأن يدفعوا للدولة حلوانًا جديدًا على النظام والنسق الذي ابتدعوه للتحيل على تحصيل المال بأي وجه زاعمين أن أرض مصر صارت دار حرب بتملك الفرنساوية وأنهم استنقذوها منهم واستولوا عليها باستيلاء جديد وصارت جميع أراضيها ملكًا لهم فمن يريد الاستيلاء على شيء من أرض وغيرها فليشتره من نائب السلطان بمبلغ الحلوان الذي قدروه واطلعوا عليه على التقاسيط وفي بعضها ما رفع عنه الميري الذي يقبض للخزينة بإذن الولاة بعد المصالحات والتعويض من المصاريف والمصارف الميرية كالعلائف والغلال والبعض تمم ذلك بمراسيم سلطانية كما يقولون شريفة بحيث يصير الالتزام مثل الرزق الأحباسية ويسمونه خزينة بند ومنهم من أبقى على التزامه شيئًا قليلًا سموه مال الحماية فلم يسهل بهم إبطال ذلك بل جعل عليها الدفتردار الميري الذي كان مقيدًا عليها أو أقل أو زيد بحسب واضع اليد وإكرامه إن كان ممن يكرم وضمه إلى مال الحماية الأصلي أو المستجد فقط وضيع على الناس سعيهم وما بذلوه من مرتباتهم وعلائفهم التي وضعوها وقيدوها .
وتوجه نحوه الناس لأجل كتابة الإعلامات لثبوت رزقهم الأحباسية وتجديد سنداتها فتعنت عليهم بضروب من التعنت كأن يطلب من صاحب العرضحال إثبات استحقاقه فإذا ثبت له لا يخلو إما أن يكون ذلك بالفراغ أو المحلول فيكلفه إحضار السنجات وأوراق الفرآغات القديمة فربما عدمت أو بليت لتقادم السنين أو تركها واضع اليد لاستغنائه عنها بالسند الجديد أو كان القديم مشتملًا على غير المفروغ عنه فيخصم بهامشه بالمنزول عنه ويبقى القديم عند صاحب الأصل فإن أحضره إليه تعلل بشيء آخر واحتج بشبهة أخرى فإذا لم يبق له شبهة طالبه بحلوانها عن مقدار إيرادها ثلاث سنوات وإلا فخمس سنوات وذلك خلاف المصاريف فضج الناس واستغاثوا بشريف أفندي.
43- وفي خامسه طلب الباشا كشاف الأقاليم وشرع في تقريري فرضة على البلاد بما يقتضيه نظره ونظر كشاف الأقاليم والمعلمين‏:‏ البط فقرروا على أعلاها ثمانين كيسًا والأدنى خمسة عشر كيسًا ولم يتقيد بتحرير ذلك أحد من الكتبة الذين يحررون ذلك بدفاتر ويوزعونها على مقتضى الحال ولم يعطوا بالمقادير أوراقًا لملتزمي الحصص كما كانوا يفعلون قبل ذلك فإن الملتزم كان إذا بلغه تقرير فرضة تدارك أمره وذهب إلى ديوان الكتبة وأخذ علم القدر المقرر على حصته وتكفل بها وأخذ منهم مهلة بأجل معلوم وكتب على نفسه وثيقة وأبقاها عندهم ثم يجتهد في تحصيل المبلغ من فلاحيه وإن لم يسعفوه في الدفع وحولوا عليه الكلب دفعه من عنده إن كان ذا مقدرة أو استدانة ولو بالربا ثم يستوفيه بعد ذلك من الفلاحين شيئًا فشيئًا كل ذلك حرصًا على راحة فلاحي حصته وتأمينهم واستقرارهم في وطنهم ليحصل منهم المطلوب من المال الميري وبعض ما يقتاتون به هم وعيالهم وإن لم يفعل ذلك تحول باستخلاص ذلك من كاشف الناحية وعين على الناحية الأعوان بالطلب الحثيث وما ينضاف إلى ذلك من حق طرق المعينين وكلفهم وإن تأخر الدفع تكرر الإرسال والطلب على النسق المشروح فيتضاعف الهم وربما ضاع في ذلك قدر الأصل المطلوب وزيادة عنه مرة أو مرتين والذي يقبضونه يحبسونه بالفرط وهو في كل ريال عشرة أنصاف فضة يسمونها ديواني فيقبض المباشر عن الريال تسعين نصفًا فضة ويجعل التسعين ثمانين وذلك خلاف ما يقرره في أوراق الرسم من خدم المباشرين من كتبة القبط فينكشف حال الفلاح ويبيع ما عنده من الغلة والبهيمة ثم يفر من بلدته إلى غيرها فيطلبه الملتزم ويبعث إليه المعيني من كاشف الناحية بحق طريق أيضًا فربما أداه الحال إن كان خفيف العيال والحركة إلى الفرار والخروج من الإقليم بالكلية وقد وقع ذلك حتى امتلأت البلاد الشامية والرومية من فلاحي قرى مصر الذين جلوا عنها وخرجوا منها وتغربوا عن أوطانهم من عظيم هول الجور وإذا ضاق الحال بالملتزم وكتب له عرضحال يشكو حاله وحال بلده أو حصته وضعف حالها ويرجو التخفيف وتجاسر وقدم عرضحال إلى الباشا يقال له هات التقسيط وخذ ثمن حصتك أو بدلها أو يعين له ترتيبًا بقدر فائظها على بعض الجهات الميرية من المكوس و الجمارك التي أحدثوها فإن سلم سنده وكان ممن يراعي جانبه حول إلى بعض الجهات المذكورة صورة وإلا أهمل أمره وبعضهم باعها لهم بما انكسر عليه من مال القرض وقد وقع ذلك الكثير من أصحاب الذمم المتعددة انكسر عليه مقادير عظيمة فنزل عن بعضها وخصموا له ثمنها من المنكسر عليه من الفرضة وبقي عليه الباقي يطالب به فإن حدثت فرضة أخرى قبل غلاق الباقي وقعد بها وضمت إلى الباقي وقصرت يده لعجز فلاحيه واستدان بالربا من العسكر تضاعف الحال وتوجه عليه الطلب من الجهتين فيضطر إلى خلاص نفسه وينزل عما بقي تحت يده كالأول وقد يبقى عليه الكسر ويصبح فارغ اليد من الالتزام ومديونًا وقد وقع ذلك لكثير كانوا أغنياء ذوي ثروة وأصبحوا فقراء محتاجين من حيث لا يشعرون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏
44- وفي كل يوم يخرج عساكر ثم يرجعون إلى المدينة وهم مستديمون على خطف الدواب وحمير البطيخ وجمال السقائين والباشا يعدي إلى بر مصر في كل يومين أو ثلاثة ويطلع إلى القلعة .
45- وفي يوم الجمعة عمل الباشا ديوانًا بالأزبكية في بيت ابنه إبراهيم بك الدفتردار واجتمع عنده المشايخ والوجاقلية وغيرهم فتكلم الباشا وقال يا أحبابنا احتياجي إلى الأموال الكثيرة لنفقات العساكر والمصاريف والمهمات والإيراد لا يكفي ذلك فلزم الحال لتقرير الفرض على البلاد والأطيان وقد أجحف ذلك بأهاليها حتى جلت وخربت القرى وتعطلت المزارع وبارت الأطيان .
46- ومن حوادثها أحداث عدة مكوس زيادة على ما أحدث على الأرز والكتان والحرير والحطب والملح وغير ذلك مما لم يصل إلينا خبره حتى غلت أسعارها إلى الغاية وكان سعر الدرهم الحرير نصفين فصار بخمسة عشر نصفًا وكنا نشتري القنطار من الحطب الرومي في أوانه بثلاثين نصفًا وفي غير أوانه بأربعين نصفًا فصار بثلاثمائة نصف وكان الملح يأتي من أرضه بثمن القفاف التي يوضع فيها لا غير ويبيعه الذين ينقلونه إلى ساحل بولاق الأردب بعشرين نصفًا وأردبه ثلاثة أرداب ويشتريه المسبب بمصر بذلك السعر لآن أردبه أردبان ويبيعه أيضًا بذلك السعر ولكن أردبه واحد فالتفاوت في الكيل لا في السعر فلما احتكر صار الكيل لا يتفاوت وسعره الآن أربعمائة وخمسون نصفًا والتزم وأوقف رجاله في موارده البحرية لمنع من يأخذ منه شيئًا من المراكب المارة بالسعر الرخيص من أربابه ويذهب به إلى قبلي أو نحو ذلك‏.‏
47- وبعد قتل أمراء المماليك في مذبحة القلعة يقول الجبرتي :
وأغلق الناس حوانيتهم وليس لأحد علم بما حصل وظنوا ظنونًا وعندما تحقق العسكر حصول الواقعة وقتل الأمراء انبثوا كالجراد المنتشر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم طالبين النهب والغنيمة فولجوها بغتة ونهبوها نهبة ذريعًا وهتكوا الحرائر والحريم وسحبوا النساء والجواري والخوندات والستات وسلبوا ما عليهن من الحلي والجواهر والثياب وأظهروا الكامن في نفوسهم ولم يجدوا مانعًا ولا رادعًا وبعضهم قبض على يد امرأة ليأخذ منها السوار فلم يتمكن من نزعها بسرعة فقطع يد المرأة وحل بالناس في بقية ذلك اليوم من الفزع والخوف وتوقع المكروه ما لا يوصف لأن المماليك والأجناد تداخلوا وسكنوا في جميع الحارات والنواحي وكل أمير له دار كبيرة فيها عياله وأتباعه ومماليكه وخيوله وجماله وله دار وداران صغار في داخل العطف ونواحي الأزهر والمشهد الحسيني يوزعون فيها ما يخافون عليه لظنهم بعدها وحمايتها بحرمة الخطة وصونها عند وقوع الحوادث وكثير من كبار العسكر مجاورون لهم في جميع النواحي ويرمقون أحوالهم ويطلعون على أكثر حركاتهم وسكناتهم ويتدخلون فيهم ويعاشرونهم ويسامرونهم بالليل ويظهرون لهم الصداقة والمحبة وقلوبهم محشوة من الحقد عليهم والكراهة لهم بل ولجميع أبناء العرب فلما حصلت هذه الحادثة بادروا لتحصيل ما هو لهم وأظهروا ما كان مخفيًا في صدورهم وخصوصًا من التشفي في النساء فإن العظيم منهم كان إذا خطب أدنى امرأة ليتزوج بها فلا ترضى به وتعافه وتأنف قربه وإن ألح عليها استجارت بمن يحميها منه وإلا هربت من بيتها واختفت شهورها وذلك بخلاف ما إذا خطبها أسفل شخص من جنس المماليك أجابته في الحال واتفق أنه لما اصطلح الباشا مع الألفية وطلبوا البيوت ظهر كثير من النساء المستترات المخفيات وتنافسن في زواجهم وعملن لهم الكساوي وقدمن لهم التقادم وصرفن عليهم لوازم البيوت التي تلزم الأزواج لزوجاتهم كل ذلك بمرأى من الأتراك يحقدونه في قلوبهم وفيهم من حمى جاره وصان دياره ومانع أعلاهم أدناهم وقليل ما هم وذلك لغرض يبتغيه وأمر يرتجيه فإنه بعد ارتفاع النهب كانوا يقبضون عليهم من البيوت فيستولي الذي حماه ودافع عنه على داره وما فيها وأنهبت دور كثيرة من المجاورين لهم أو لدور أتباعهم بأدنى شبهة أو يدخلون بحجة التفتيش ويقولون عنكم مملوك أو سمعنا أن عندكم وديعة لمملوك وبات الناس وأصبحوا على ذلك ونهب في هذه الحادثة من الأموال والأمتعة ما لا يقدر قدره ويحصيه إلا الله سبحانه وتعالى ونهبت دور كثيرة من دور الأعيان الذين ليسوا من الأمراء المقصودين ومن المتقيدين بخدمة الباشا مثل ذي الفقار كتخدا المتولي خوليًا على بساتين الباشا التي أنشأها بشبرا وبيت الأمير عثمان آغا الورداني ومصطفى كاشف المورلي والأفندية الكتبة وغيرهم وأصبح يوم السبت والنهب والقتل والقبض على المتوارين والمتخفين مستمر ويدل البعض على البعض أو يغمز عليه وركب الباشا في الضحوة ونزل من القلعة وحوله أمراؤه الكبار مشاة وأمامه الصفاشية والجاويشية بزينتهم وملابسهم الفاخرة والجميع مشاة ليس فيهم راكب سواه وهم محدقون به وأمامه وخلفه عدة وافرة والفرح والسرور بقتل المصريين ونهبهم والظفر بهم طافح من وجوههم فكان كلما مر على أرباب الدرك والقلقات والضابطين وقف عليهم ووبخهم على النهب وعدم منعهم لذلك والحال أنهم هم الذين كانوا ينهبون أولًا ويتبعهم غيرهم فمروا على العقادين الرومي والشوائين فخرج إليه شخص من تجار المغاربة يسمى العربي الحلو وصرخ في وجهه وهو يقول إيش هذا الحال وإيش لنا علاقة حتى ينهبنا العسكر ونحن ناس فقراء مغاربة متسببون ولسنا مماليك ولا أجناد فوقف إليه وأرسل معه نفرًا إلى داره فوجدوا بها شخصين أحدهما تركي والآخر بلدي وهما يلتقطان آخر النهب وما سقط من النهابين فأمر بقتلهما فأخذوهما إلى باب الخرق وقطعوا رؤوسهما ثم أنه عطف على جهة الكعكيين فلاقاه من أخبره بأن المشايخ مجتمعون ونيتهم الركوب لملاقاته والسلام عليه والتهنئة بالظفر فقال أنا أذهب إليهم ولم يزل في سيره حتى دخل إلى بيت الشيخ الشرقاوي وجلس عنده ساعة لطيفة وكان قد التجأ إلى الشيخ شخصان من الكشاف المصرية فكلمه في شأنهما وترجى عنده في إعتاقهما من القتل وأن يؤمنهما على أنفسهما وقال له لا تفضح شيبتي يا ولدي واقبل شفاعتي وأعطهما محرمة الأمان فأجابه إلى ذلك وقال له شفاعتك مقبولة ولكن نحن لا نعطي محارم وأنا أماني بالقول أو نكتب ورقة ونرسلها إليك بالأمان فاطمأن الشيخ لذلك ثم قام الباشا وركب وطلع إلى القلعة وأرسل ورقة إلى الشيخ بطلبهما فقال لهما الشيخ أن الباشا أرسل هذه الورقة يؤمنكما ويطلبكما إليه فقالا وما يفعل بذهابنا إليه فلا شك في أنه يقتلنا فقال الشيخ لا يصلح ذلك ولا يكون كيف أنه يأخذكم من بيتي ويقتلكم بعد أن قبل شفاعتي فذهبا مع الرسول فعندما وصلا إلى الحوش وهو مملوء بالقتلى وضرب الرقاب واقع في المحبوسين والمحضرين قبضوا عليهما وأدرجا في ضمنهم وفي ذلك اليوم نزل طوسون بن الباشا وقت نزول أبيه وشق المدينة وقتل شخصًا من النهابين أيضًا فارتفع النهب وانكف العسكر عن ذلك ولولا نزول الباشا وابنه في صبح ذلك اليوم لنهب العسكر بقية المدينة وحصل منهم غاية الضرر وأما القبض على الأجناد والمماليك فمستمر وكذلك كل من كان يشبههم في الملبس والزي وأكثر من كان يقبض عليهم عساكر حسن باشا الأرنؤدي فيكبسون عليهم في الدور أو في الأماكن التي تواروا فيها واستدلوا عليهم فيقبضون على من يقبضون عليه وينهبون من الأماكن ما يمكنهم حمله وثياب النساء وحليهن ويسحبون الواحد والاثنين أو أكثر بينهم ويأخذون عمائمهم وثيابهم وما في جيوبهم في أثناء الطريق وإذا كان كبيرًا أو أميرًا يستحي منه طلبوه بالرفق فإذا ظهر لهم قالوا له سيدنا حسن باشا يستدعيك إليه فلا تخش من شيء ويطمئن قليلًا ويظن أنهم يجبرونه وعلى أنه حال لا يسعه إلا الإجابة لأنه إن امتنع أخذوه قهرًا فإذا خرج من الدار استصحبه جماعة منهم وطلع البواقي إلى الدار فأخذوا ما قدروه عليه ولحقوا بهم وجرى على المأخوذ ما يجري على أمثاله من المأخوذين والبعض توارى والتجأ إلى طائفته الدلاة الفلاحات اللاتي يبعن الجلة والجبنة وذهبوا في ضمنهم وفر من نجا منهم وتزيا بشكلهم ولبس له طرطورًا وأجاروه وهرب كثير في ذلك اليوم وخرجوا إلى قبلي وبعضهم تزيا بزي النساء الفلاحين وخرج في ضمن إلى الشام وغيرها وأما كتخدا بك فإنه لشدة بغضه فيهم صار لا يرحم منهم أحدًا فكان كل من أحضروه ولو فقيرًا هرمًا من مماليك الأمراء الأقدمين يأمر بضرب عنقه وأرسل أوراقًا إلى كشاف النواحي والأقاليم بقتل كل مكن وجدوه بالقرى والبلدان فوردت الرؤوس في ثاني يوم من النواحي فيضعونها بالرميلة وعلى مصطبة السبيل المواجه لباب زويلة وكان كثير من الأجناد بالأرياف لتحصيل الفرض التي تعهدوا بدفعها على فلاحيهم وانقضت أجلتهم وطولبوا بالدفع والفلاحون قصرت أيديهم ولم يقبلوا للملتزمين عذرًا في التأخير فلم يسعهم إلا الذهاب بأنفسهم لأجل خلاص المطلوب منهم للديوان فعندما وصلت الأوامر إلى كشاف الأقاليم بقتل الكائنين بالبلاد بادروا بقتل من يمكنهم قتله ومن بعد عنهم أرسلوا لهم العساكر في محلاتهم فيدهمونهم على حين غفلة ويقتلونهم وينهبون متاعهم وما جمعوه من المال ويرسلون برؤوسهم أو يتحيلون على القبض عليهم وقتلهم فصار يصل في كل يوم العدد من الرؤوس من قبلي وبحري ويضعونها على باب زويلة وباب القلعة ولم يقبلوا شفاعة في أحد أبدًا ويعطون الأمان للبعض فإذا حضروا قبضوا عليهم وشلحوهم ثيابهم وقتلوهم والباشا يعلم من كتخداه شدة الكراهة لجنس المماليك ففوض له الأمر فيهم .
48- واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1226 والكتخدا يتنوع في استجلاب الأموال ويتحيل في استخراجها بأنواع من الحيل فمنها أنه يرسل إلى أهل حرفة من الحرف يأمرهم ببيع بضاعتهم بنصف ثمنها ويظهر أنه يريد الشفقة والرأفة بالناس ويرخص لهم في أسعار المبيعات وأن أرباب الحرف تعدوا الحدود في غلاء الأسعار فيجتمع أهل الحرفة ويضجون ويأتون بدفاترهم وبيان رأس مالهم وما ينضاف إليه من غلو جزئيات تلك البضاعة وما استحدث عليها من الجمارك والمكوس وغلو الأجر في البحر والبر فلا يستمع لقولهم ولا يقبل لهم عذرًا ويأمر بهم إلى الحبس فعند ذلك يطلبون الخلاص ويصالحون على أنفسهم بقدر من المال يدفعونه ويوزعون ذلك على أفرادهم فيما بينهم ثم يزيدون في سعر تلك البضاعة ليعوضوا غرامتهم من الناس معتذرين بتلك الغرامة وما حل بهم من الخسارة ثم تستمر الزيادة على الدوام وأظن استمرار الغرامة أيضًا فجمع بهذه الكيفية أموالًا عظيمة وهي في الحقيقة سلب أموال الناس من الأغنياء والفقراء‏.‏
49- وفيه فرضوا فرضة بغال على مياسير الناس وأهل الحرف بغلة وبغلتين وثلاثة والذي لم يكن عنده بغلة تلزم بالشراء أو أنه يدفع ثمنها كيسًا عشرون ألف فضة‏.
50- واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1226 في عشرينه خرج الباشا إلى البركة وطلب الجمال وقوافل العرب وشهل طائفة من العسكر للسفر إلى السويس فاهتموا بالدخول والخروج من المدينة وطفقوا يخطفون الحمير والبغال والجمال وكل ما صادفوه من الدواب ومن وجدوه راكبًا ولو من وجهاء الناس أنزلوه عن دابته وركبوها فانقبض الناس وانكمش غالبهم عن الركوب لمصالحهم وأخفوا حميرهم وبغالهم وأقام الباشا ثلاثة أيام جهة البركة ثم ركب إلى السويس‏.‏
51- ومنها الزيادة الفاحشة في صرف المعاملة والنقص في وزنها وعيارها وذلك أن حضرة الباشا أبقى دار الضرب على ذمته وجعل خاله ناظرًا عليها وقرر لنفسه عليها في كل شهر خمسمائة كيس بعد أن كان شهريتها أيام نظارة المحروقي خمسين كيسًا في كل شهر ونقصوا وزن القروش نحو النصف عن القرش المعتاد وزادوا في خلطه حتى لا يكون فيه مقدار ربعه من الفضة الخالصة ويصرف بأربعين نصفًا وكذلك المحبوب نقصوا من عياره ووزنه ولما كان الناس يتساهلون في صرف المحبوب والريال الفرانسة ويقبضونها في خلاص الحقوق من المماطلين والمفلسين وفي المبيعات الكاسدة بالزيادة لضيق المعايش حتى وصل صرف الريال إلى مائتين وخمسين نصفًا والمحبوب إلى مائتين وثمانين ، ( وأوضح الجبرتي في أكثر من موضع أن التلاعب بأسعار العملة كان لتحقيق منافع للباشا ودولته علي حساب المصريين ).
52- وفي يوم الخميس ثالث عشرينه سافر مصطفى بك دالي باشا بجميع الدلاة وغيرهم من العسكر إلى الحجاز وحصل للناس في هذا الشهر عدة كربات منها وهو أعظمها عدم وجود الماء العذب وذلك في وفت النيل وجريان الخليج من وسط المدينة حتى كاد الناس يموتون عطشًا وذلك بسبب أخذهم الحمير للسخرة والرجال لخدمة العسكر المسافرين وغلو ثمن القرب التي تشترى لنقل الماء فإن الباشا أخذ جميع القرب الموجودة بالوكالة عند الخليلية وما كان بغيرها أيضًا حتى أرسل إلى القدس والخليل فأحضر جميع ما كان بهما وبلغت الغاية في غلو الأثمان حتى بيعت القربة والواحدة التي كان ثمنها مائة وخمسين نصفًا بألف وخمسمائة نصف ويأخذون أيضًا الجمال التي تنقل الماء بالروايا إلى الأسبلة والصهاريج وغيرهما من الخليج فامتنع الجميع عن السراح والخروج واحتاج العسكر أيضًا إلى الماء فوقفوا بالطرق يرصدون مرور السقائين أو غيرهم من الفقراء والذين ينقلون الماء بالبلاليص والجرار على رؤوسهم فيوجد على كل موردة من الموارد عدة من العسكر وهم واقفون بالأسلحة ينتظرون من يستقي من السقائين أو غيرهم فكان الخدم والنساء والفقراء والبنات والصبيان ينقلون بطول النهار والليل بالأوعية الكبيرة والصغيرة على رؤوسهم بمقدار ما يكفيهم للشرب وبيعت القربة الواحدة بخمسة عشر نصف فضة وأكثر وشح وجود اللحم وغلا في الثمن زيادة على سعره المستمر حتى بيع بثمانية عشر نصف فضة كل رطل هذا إن وجد والجاموسي الجفيط بأربعة عشر وطلبوا للسفر طائفة من القبانية والخبازين ومن أرباب الصنائع والحرف وشددوا عليهم الطلب في أواخر الشهر فتغيبوا وهربوا فسمرت بيوتهم وحوانيتهم وكذلك الخبازون والفرانون بالطوابين والأفران حتى عدم الخبز من الأسواق ولم يجد أصحاب البيوت فرنًا يخبزون فيه عجينهم فمن الناس القادرين على الوقود من يخبز عجينه في داره أو عند جاره الذي يكون عنده فرن أو عند بعض الفرانين الذي تكون فرنه بداخل عطفة مستورة خفية أو ليلًا من الخوف من العسس والمرصدين لهم وكذلك عدم وجود التبن بسبب رصد العسكر في الطرق لأخذ ما يأتي به الفلاحون من الأرياف فيخطفونه قبل وصوله إلى المدينة وحصل بسبب هذه الأحوال المذكورة شبكات ومشاجرات وضرب وقتل وتجريح أبدان.
53- وفيه أيضًا أرسل الباشا لجميع كشاف الوجه القبلي بحجز جميع الغلال والحجر عليها لطرفه فلا يدعون أحدًا يبيع ولا يشتري شيئًا منها ولا يسافر بشيء منها في مركب مطلقًا ثم طلبوا ما عند أهل البلاد من الغلال حتى ما هو مدخر في دورهم للقوت فأخذوه أيضًا ثم زادوا في الأمر حتى صاروا يكسلون الدور ويأخذون من الغلال أقل أو أكثر ولا يدفعون له ثمنًا بل يقولون نحسب لكم ثمنه من مال السنة القابلة ويشحنون بذلك جميع مراكب الباشا التي استجدها وأعدها لنقل الغلال ثم يسيرون بها إلى بحري فتنقل إلى مراكب الإفرنج بحساب مائة قرش عن كل أردب وانقضت السنة ولم تنقض حوادثها بل استمر ما حدث بها كالتي قبلها وزيادة‏.‏
54- ومنها وهي من الحوادث الغريبة التي لم يتفق في هذه الأعصار مثلها إن في أواخر ربيع الآخر احترق بحر النيل وجف بحر بولاق وكثرت فيه الرمال وعلت فوق بعضها حتى صارت مثل التلول وانحسر الماء حتى كان الناس يمشون إلى قريب أنبابة بمداساتها وكذلك بحر مصر القديمة بقي مخاضًا وفقدت أهل القاهرة الماء الحلو واشتد بالناس العطش.
55- ومنها الاستيلاء على جميع مزارع الأرز بالبحر الغربي والشرقي ورقب لهم مباشرين وكتابًا يصرفون عليهم من الكلف والتقاوي والبهائم ويؤخذ ذلك جميعه من حساب الفرض التي قررها على النواحي وعند استغلال الأرز يرفعونها بأيديهم ويسعرونها بما يريدونه ويستوفون المصاريف ومعاليم القومة والمباشرين المعين لهم وإن فضل بعد ذلك شيء أعطوه للمزارع أو أخوه منه وأعطوه ورقة يحاسب بها في المستقبل وفرض على كل دائرة من دوائر الأرز خمسة أكياس في كل سنة خلاف المقرر القديم وعلى كل عود ثلاثة أكياس فإذا كان وقت الحصاد وزنوه شعيرًا على أصحاب الدوائر والمناشر حتى إذا صلح وابيض حسبوا كلفه من أصل المقرر عليهم فإن زاد لهم شيء أعطوهم به ورقة وحاسبوا بها من قابل وأبطل تعامل المزارعين مع التجار الذين كانوا معتادين بالصرف عليهم واستقر الحال إلى أن صار جميعه أصلًا وفرعًا لديوان الباشا ويباع الموجود على ذمته لأهل الأقاليم المتسببين وغيرهم وهو عن كل أردب مائة قرش بل وزيادة وللإفرنج وبلاد الروم والشام بما لا أدري‏.‏
56- ومنها استمرار غلاء الأسعار في كل شيء وخصوصًا في الأقوات التي لا يستغني عنها الغني والفقير في كل وقت بسبب الأحداثات والمكوس التي ترتبت على كل شيء ومنها المأكولات كاللحم والسمن والعسل والسكر وغير ذلك مثل الخضارات وإبطال جميع المذبح خلاف مذبح الحسينية والتزم به المحتسب بمبلغ عظيم مع كفاية لحم الباشا وأكابر دولته بالثمن القليل ويوزع الباقي على الجزارين بالسعر الأعلى الذي يخرج منه ثمن لحوم الدولة من غير ثمن فينزل الجزار بما يكون معه من الغنمة أو الاثنين الجفيط إلى بيت أو عطفة مستورة فتزدحم عليه المتتبعون له والمنتظرون إليه ويقع بينهم من المضاربة والمشاجرة ما لا يوصف وثمن الرطل اثنا عشر نصفًا وقد يزيد على ذلك ولا ينقص عن باثني عشر وكذلك الخضراوات التي كانت تباع جزافًا تباع بأقصى القيمة حتى أن الخس مثلًا الذي كان يباع كل عشرة أعداد بنصف واحد صارت الواحدة تباع بنصف وقس على ذلك باقي الخضراوات
57- ومنها إن ديوانا المكس ببولاق الذي يعبرون عنه الكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيسًا مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق و المحزوم قدر يسير معلوم فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعفون عن شيء مطلقًا ولا يسامحون أحدًا ولو كان عظيمًا من العلماء أو غيرهم وكان من عادة التجار إذا بعثوا إلى شركائهم محزومًا من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن المقصبات الحلبي والكشميري والهندي ونحو ذلك فتتدرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره ويحصون عدده ويأخذون عشرة أي من كل عشرة واحدًا أو ثمنه كما يبيعه التاجر غاليًا أو رخيصًا حتى البوابيج والأخفاف والمسوت التي تجلب من الروم يفتحون صناديقها ويعدونها بالواحد ويأخذون عشورها عينًا أو ثمنًا ويفعل ذلك أيضًا متولي كمرك الإسكندرية ودمياط وإسلامبول والشام فبذلك غلت أسعار البضائع من كل شيء لفحش هذه الأمور وخصوصًا في الأقمشة الشامية والحلبية والرومية المنسوجة من القطن والحرير والصوف فإن عليها بمفردها مكوسًا فاحشة قبل نسجها وكان الدرهم الحرير في السابق بنصف فضة فصار الآن بخمسة عشر نصفًا وما يضاف إليه من الأصباغ وكلف الصناع والمكوس المذكورة فبذلك بلغ الغاية من غلو الثمن فيباع الثوب الواحد من القماش الشامي المسمى بالألاجة الذي كانت قيمته في السابق مائتي نصف فضة بألفين فضة مع ما يضاف إليه من ربح البائع وطمع التاجر والنعل الرومي الذي كان يباع بستين نصفًا يباع بأربعمائة نصف والذراع الواحد من الجوخ الذي كان يباع بمائة نصف فضة بلغ في الثمن إلى ألف نصف فضة وهكذا مما يستقصى تتبعه ولا تستقصى مفرداته ويتولى هذه الكمارك كل من تزايد فيها من أي ملة كان من نصارى القبط أو الشوام والأروام ومن يدعي الإسلام وهم الأقل في الأشياء المدون والمتولي الآن في ديوان كورك بولاق شخص نصراني رومي يسمى كرابيت من طرف طاهر باشا لأنه مختص بإيراده وأعوان كرابيت من جنسه وعنده قواسة أتراك يحجزون متاع الناس ويقبضون على المسلمين ويسجنونهم ويضربونهم حتى يدفعوا ما عليهم وإذا عثروا بشخص أخفى عنهم شيئاُ حبسوه وضربوه وسبوه ونكلوا به وألزموه بغرامة مجازاة لفعله والعجب أن بضائع المسلمين يؤخذ عشرها يعني من العشرة واحد وبضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم يؤخذ عليها من المائة اثنان ونصف وكذلك أحدث عدة أشياء واحتكارات في كثير من البضائع مثل السكر الذي يأتي من ناحية الصعيد وزيادات في المكوس القديمة خلاف المحدثات وذلك أن من كان بطالًا أو كاسد الصنعة أو قليل الكسب أو خامل الذكر فيعمل فكرته في شيء مهمل عنه ويسعى إلى الحضرة بواسطة المتقربين أو بعرضحال يقول فيه أن الداعي للحضرة يطلب الالتزام بالصنف الفلاني ويقول للخزينة العامرة بكذا من الأكياس في كل سنة فإذا فعل تنبه المشار إليه فيعد بالإنجاز ويؤخر أيامًا فتتسامع المتكالبون على أمثال ذلك فيزيدون على الطالب حتى تستقر الزيادة على شخص أما هو وخلافه ويقيد اسمه بدفتر الروزنامة ويفعل بعد ذلك الملتزم ما يريده وما يقرره على ذلك الصنف ويتخذ له أعوانًا وخدمة وأتباعًا يتولون استخلاص المقررات ويجعلون لأنفسهم أقدار خارجة عن الذي يأخذه كبيرهم والذي تولى كبر ذلك وفتح بابه نصارى الأروام والأرمن فترأسوا بذلك وعلت أسافلهم ولبسوا الملابس الفاخرة وركبوا البغال والرهوانات وأخذوا بيوت الأعيان التي بمصر القديمة وعمروها وزخرفوها وعملوا فيها بساتين وجنائن وذلك خلاف البيوت التي لهم بداخل المدينة ويركب الواحد منهم وحوله وأمامه عدة من الخدم والقواسة يطردون الناس من أماه وخلفه ولم يدعو شيئًا خارجًا عن المكس حتى الفحم الذي يجلب من الصعيد والحطب السنط والرتم وحطب الذرة الذي كان يباع منه كل مائة حزمة بمائة نصف فلما احتكروه صار يباع كل مائة حزمة بألف ومائتي نصف وبسبب ذلك تشحطت أشياء كثيرة وغلت أثمانها مثل الجبس والجبر وكل ما كان يحتاج للوقود حتى الخبازين في الأفران فإننا أدركنا الأردب من الجبس بثمانية عشر نصف فضة والآن بمائتين وأربعين نصفًا وكذلك أدركنا القنطار من الجير بعشرة أنصاف والآن بمائة وعشرين والحال في الزيادة‏.‏
58- ومنها التحجير على الأجراء والمعمرين المستعملين في الأبنية والعمائر مثل البنائين والنجارين والنشارين والخراطين وإلزامهم في عمائر الدولة بمصر وغيرها بالإجارة والتسخير واختفى الكثير منهم وأبطل صناعته وأغلق من له حانوت حانوته فيطلبه كبير حرفته الملزم بإحضاره عند معمار باشا فإما أنه يلازم الشغل أو يفتدي نفسه أو يقين بدلًا عنه ويدفع له الأجرة من عنده فترك الكثير صناعته وأغلق حانوته وتكسب بحرفة أخرى فتعطل بذلك احتياجات الناس في التعمير والبناء بحيث أن من أراد أن يبني له كانونا أو مزودًا لدابته تحير في أمره وأقام أيامًا في تحصيل البناء وما يحتاجه من الطين والجبر والقصرمل.
59- ولما حضر إبراهيم باشا إلى مصر وكان أبوه على أهبة السفر إلى الحجاز حضر الكثير من أهالي الصعيد يشكون ما نزل بهم ويستغيثون ويتشفعون بوجهاء المشايخ وغيرهم فإذا خوطب الباشا في شيء من ذلك يعتذر بأنه مشغول البال واهتمامه بالسفر وأنه أناط أمر الجهة القبلية وأحكامها وتعلقاتها بابنه إبراهيم باشا وأن الدولة قلدته ولاية الصعيد فأنا لا علاقة لي بذلك وإذا خوطب ابنه أجابهم بعد المحاججة بما تقدم ذكره ونحو ذلك
60- فيه حضر المعلم غالي من الجهة القبلية ومعه مكاتبات من محمد بك الدفتردار الذي تولى إمارة الصعيد عوضًا عن إبراهيم باشا ابن الباشا الذي توجه إلى البلاد الحجازية لمحاربة الوهابية يذكر فيها نصح المعلم غالي وسعيه في فتح أبواب تحصيل الأموال للخزينة وأنه ابتكر شيء وحسابات يتحصل منها مقادير كثيرة من المال فقوبل بالرضا والإكرام وخلع عليه الباشا واختص به وجعله كاتب سره ولازم خدمته وأخذ فيما ندب إليه وحضر لأجله التي منها حسابات جميع الدفاتر وأقلام المبتدعات ومباشريها وحكام الأقاليم‏.‏
61- وفيه أيضًا امتنع وجود الغلال بالعرصات والسواحل بسبب احتكارها واستمرار انجرارها ونقلها في المراكب قبلي وبحري إلى جهة الإسكندرية للبيع على الإفرنج بالثمن الكثير كما تقدم ووجهت المراسيم إلى كشاف النواحي بمنع بيع الفلاحين غلالهم لمن يشتري منهم من المتسببين والتراسين وغيرهم وبأن كل ما احتاجوا لبيعه مما خرج لهم من زراعتهم يؤخذ لطرف الميري بالثمن المفروض بالكيل الوافي واشتد الحال في هذا الشهر وما قبله حتى قل وجود الخبز من الأسواق بل امتنع وجوده في بعض الأيام
62- وكذلك انعدم وجود بيض الدجاج لعدم المجلوب ووقوف العسكر ورصدهم من يكون معه شيء منه من الفلاحين الداخلين إلى المدينة من القرى فيأخذونه منهم بدون القيمة حتى بيعت البيضة الواحدة بنصفين
63- وفي أثر ذلك فرضوا على الجواميس كل رأس عشرون قرشًا وعلى الجمل ستون قرشًا وعلى الشاة قرش والرأس من المعز سبعة وعشرون نصفًا وثلث البقرة خمسة عشر والفرس كذلك‏.‏
64- ومنها احتكار الصابون ويحجز جميع الوارد على ذمة الباشا ثم سومح تجاره بشرط أن يكون جميع صابون الباشا ومرتباته ودائرته من غير ثمن وهو شيء كثير ويستقر ثمنه على ستين نصفًا بعد أن كان بخمسين جردًا من غير نقو‏.‏
65- ومنها ما أحدث على البلح بأنواعه وما يجلب من الصعيد والإبريمي وأنواع العجوة حتى جريد النخل والليف والخوص يؤخذ جميع ذلك بالثمن القليل ويباع ذلك للمتسببين بالثمن الزائد وعلى الناس بأزيد من ذلك وفي هذه السنة لم تثمر النخيل إلا القليل جدًا ولم يظهر البلح الأحمر في أيام وفرته ولم يوجد بالأسواق إلا أيامًا قليلة وهو شيء رديء وبسر ليس بجيد ورطله بخمسة أنصاف وهي ثمن العشرة أرطال في السابق وكذلك العنب لم يظهر منه إلا القليل وهو الفيومي والشرقاوي وقد التزم به من يعصره شرابًا بأكياس كثيرة مثل غيره من الأصناف وغير ذلك جزئيات لم يصل إلينا علمها ومنها ما وصل إلينا علمها وأهملنا ذكرها‏.‏
 66- ومنها أمر المعاملة وما يقع فيها من التخطيط والزيادة حتى بلغ صرف الريال الفرانسة اثني عشر قرشًا عنها أربعمائة وثمانون نصفًا والبندقجي ألف فضة وكذلك المجر والفندقلي الإسلامي سبعة عشر قرشًا والقرش الإسلامبولي بمعنى المضروب هناك المنقول إلى مصر يصرف بقرشين وربع يزيد عن المصري ستين نصفًا وكذلك الفندقلي الإسلامبولي يصرف في بلدته بأحد عشر قرشًا وبمصر بسبعة عشر كما تقدم فتكون زيادته ستة قروش وكذلك الفرانسة في بلادها تصرف بأربعة قروش وبإسلامبول بسبعة وبمصر بإثنى عشر وأما الأنصاف العددية التي تذكر في المصارفات فلا وجود لها أصلًا إلا في النادر جدًا واستغنى الناس عنها لغول الأثمان في جميع المبيعات والمشتروات .
67- ومما حدث أيضًا في هذه السنة الاستيلاء على صناعة المخيش والقصب التلي الذي يصنع من الفضة للطرازات والمقصبات والمناديل والمحارم وخلافها من الملابس وذلك بإغراء بعض صناعهم وتحاسدهم وإن مكسبها يزيد على ألف كيس في السنة لأن غالب الحوادث بإغراء الناس على بعضهم البعض وكذلك الاستيلاء على وكالة الجلابة التي يباع فيها الرقيق من العبيد والجواري السود وغيرهم من البضائع التي تجلب من بلاد السودان كسن الفيل والتمر هندي والشتم وروايا الماء وريش النعام وغير ذلك‏.
68- ومنها الحجر على عسلي النحل وشمعه فيضبط جميعه للدولة ويباع رطل الشمع بستة قروش ولا يوجد إلا ما كان مختلسًا ويباع خفية وكان رطله قبل الحجر بثلاثة قروش فإذا وردت مراكب إلى السحل نزل إليها المفتشون على الأشياء ومن جملتها الشمع فيأخذون ما يجدونه ويحسب لهم بأبخس ثمن فإن أخفي شيء وعثر عليه أخذوه بلا ثمن ونكلوا بالشخص الذي يجدون معه ذلك وسموه حراميًا ليرتدع غيره والمتولي على ذلك نصارى وأعوانهم لا دين لهم وقد هاف النحل في هذه السنة وامتنع وجود العسل وكذلك ثمر النخيل بل والغلال فلم تزك في هذه السنين مع كثرة الأسيال التي غرقت منها الأراضي بل وتعطل بسببها الزرع وزادت أثمانها وخصوصًا الفول وأما العدس فلا يوجد أيضًا إلا نادرًا‏.‏
69- وكذلك التزم بالملاحة وتوابعها من زاد في مالها وبلغ ثمن الكيلة قرشًا وكانت قبل ذلك بثلاثين نصفًا وفيما أدركنا بثلاثة أنصاف وأما أجر الأجراء والفعلة والمعمرين فأبدل النصف بالقرش وكذلك ثمن الجير البلدي والجبس لأن عمائر أهل الدولة مستديمة لا تنقضي أبدًا ونقل الأتربة إلى الكيمان على قطارات الجمال والحمير من شروق الشمس إلى غروبها حتى ستر علوها الأفق من كل ناحية وإذا بنى أحدهم دارًا فلا يكفيه في ساحتها الكثير ويأخذ ما حولها من دور الناس بدون القيمة ليوسع بها داره ويأخذ ما بقي في تلك الخطة لخاصته وأهل دائرته ثم يبني أخرى كذلك لديوانه وجمعيته وأخرى لعسكره وهكذا‏.‏
70- وأما سليمان آغا السلحدار فهو الداهية العظمى والمصيبة الكبرى فإنه تسلط على بقايا المساجد والمدارس والتكايا التي بالصحراء ونقل أحجارها إلى داخل باب البرقية بالغريب وكذلك ما كان جهة باب النصر وجمعوا أحجارها خارج باب النصر وأنشأ جهة خان الخليلي وكالة وجعل بها حواصل وطباقًا وأسكنها نصارى الأروام والأرمن بأجرة زائدة أضعاف الأجر المعتادة وكذلك غيرهم ممن رغب في السكنى وفتح لها بابًا يخرج منه إلى وكالة الجلابة الشهيرة التي بالخراطين لأنها بظاهرها وأجر الحوانيت كانت بأجرة زائدة فأجر الحانوت بثلاثين قرشًا في الشهر وكانت الحانوت تؤجر بثلاثين نصفًا في الشهر والعجب في إقدام الناس على ذلك وأسراعهم في تآجرهم قبل فراغ بنائها مع ادعائهم قلة المكاسب ووقف الحال ولكنهم أيضًا يستخرجونها من لحم الزبون وعظمه ثم أخذ بناحية داخل باب النصر مكانًا متسعًا يسمى حوش عطى بضم العين وفتح الطاء وسكون الياء كان محطًا لعربان الطور ونحوهم إذا وردوا بقوافلهم بالفحم والقلي وغيره وكذلك أهالي شرقية بلبيس فأنشأ في ذلك المكان أبنية عظيمة تحتوي على خانات متداخلة وحوانيت وقهاوي ومساكن وطباق وسكن غالبها أيضًا الأرمن وخلافهم بالأجر الزائدة ثم انتقل إلأى جهة خان الخليلي فأخذ الخان المعروف بخان القهوة وما حوله من البيوت والأماكن والحوانيت والجامع المجاور لذلك تصلى فيه الجمعة بالخطبة فهدم ذلك جميعه وأنشأ خانًا كبيرًا يحتوي على حواصل وطباق وحوانيت عدتها أربعون حانوتًا أجرة كل حانوت ثلاثون قرشًا في كل شهر وأنشأ فوق السبيل وبعض الحوانيت زاوية لطيفة يصعد إليها بدرج عوضًا عن الجامع ثم انتقل إلى جهة الخرنفش بخط الأمشاطية فأخذ أماكن ودورًا وهدمها وهو الآن مجتهد في تعميرها كذلك فكان يطلب رب المكان ليعطيه الثمن فلا يجد بدًا من الإجابة فيدفع له ما سمحت به نفسه إن شاء عشر الثمن أو أقل أو أزيد بقليل وذلك لشفاعة أو واسطة خير وإذا قيل له أنه وقف ولا مسوع لاستبداله لعدم تخربه أمر بتخريبه ليلًا ثم يأتي بكشاف القاضي فيراه خرابًا فيقضي له وكان يثقل عليه لفظة وقف ويقول إيش يعني وقف وإذا كان على المكان حكر لجهة وقف أصله لا يدفعه ولا يلتفت لتلك اللفظة ويتمم عمائره في أسرع وقت لعسفه وقوة مراسه على أرباب الأشغال والموانة ولا يطلق للفعلة الرواح بل يحبسهم على الدوام إلى باكر النهار ويوقظونهم من آخر الليل بالضرب ويبتدؤن العمل من وقت صلاة الشافعي إلى قبيل الغروب حتى في شدة الحر في رمضان وإذا ضجوا من الحر والعطش أمرهم مشد العمارة بالشرب وأحضر لهم السقاء ليسقهم وظن أكثر الناس أن هذه العمائر إنما هي لمخدومه لأنه لا يسمع لشكوى أحد فيه واشتد في هذا التاريخ أمر المساكن بالمدينة وضاقت بأهلها لشمول الخراب وكثرة الأغراب وخصوصًا المخالفين للملة فهم الآن أعيان الناس يتقلدون المناصب ويلبسون ثياب الأكابر ويركبون البغال والخيول المسومة والرهوانات وأمامهم وخلفهم العبيد والخدم وبأيديهم العصي يطردون الناس ويفرجون لهم الطرق ويتسرون بالجواري بيضًا وحبوشًا ويسكنون المساكن العالية الجليلة يشترونها بأغلى الأثمان ومنهم من له دار بالمدينة ودار مطلة على البحر للنزاهة ومنهم من عمر له دارًا وصرف عليها ألوفًا من الأكياس وكذلك أكابر الدولة لاستيلاء كل من كان في خطه على جميع دورها وأخذها من أربابها بأي وجه وتوصلوا بتقليدهم مناصب البدع إلى إذلال المسلمين لأنهم يحتاجون إلى كتبة وخدم وأعوان والتحكم في أهل الحرفة بالضرب والشتم والحبس من غير إنكار ويقف الشريف والعامي بين يدي الكافر ذليلًا فضاقت بالناس المساكن وزادت قيمتها أضعاف الأضعاف وأبدل لفظ الريال الذي كان يذكر في قيم الأشياء بالكيس وكذلك الأجر والأمر في كل شيء في الازدياد والله لطيف بالعباد ولو أردنها استيفاء بعض الكليات فضلًا عن الجزئيات لطال المقال وامتد الحال وعشنا ومتنا ما نرى غير ما نرى تشابهت العجما وزاد انعجامها نسأل الله حسن اليقين وسلامة الدين‏.‏
خلاصة القول أن الحاكم الفرد الذي يحكم بإرادة منفردة هو وأعوانه وأنصاره حكما مستبدا جائرا لا عاصم فيه للناس من بطشهم وجبروتهم وسلبهم ونهبهم ، فإن المحصلة النهائية هي دولة فاشلة وغارقة في الديون لا يأمن فيها المواطن علي نفسه وأهله وماله ، ومهما صنعوا من انجازات فهي إلي زوال.
لقد أسس محمد علي باشا لدولة مستبدة ورثها عنه عسكر مصر ، وساروا علي نفس الأسس علي النحو الذي عرضناه ، والنتيجة أن أحفاد عسكره يسيرون علي نحو ما سار يستأثرون بالحكم لا يريدون التنازل ولو عن قدر يسير منه ، ويتسلطون علي أموال البلاد والعباد ، ويمنعون عنهم التحول الديمقراطي وقواعد الحكم الرشيد التي توصلت لها الدول الحديثة ووصلت بها إلي سطح القمر وقيعان البحار والمحيطات والسفر علي أجنحة الهواء ، حتي قاموا بالانقلاب الذي قاموا به ليحافظوا علي ميراثهم من دولة محمد علي باشا .
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .