#لقد_واجهت_د_مصطفى_محمود_بهذا_الرد
#على_فكرة_ثنائية_الوجود_التي_نقلها_عن_ابن_عربي
في حوار بغرفته رحمه الله عز وجل بمستشفى الدكتور مصطفى محمود، أنكر بشدة أنه أخطأ عندما اقتنع بفكرة ثنائية الوجود التي ابتدعها الشيخ محيي الدين بن عربي، وأخطأ حين روج لها في العديد من كتبه، فدار بيننا الحوار وعرضت عليه ردي على فكرة ثنائية الوجود والذي أعرضه عليكم فيما يلي:
قلت في كتابي المعتمد من الأزهر الشريف ( ثنائية الوجود خطيئة ابن عربي ومصطفى محمود ) :
لقد حكم الدكتور مصطفى محمود على أبيات شعر ابن الفارض عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من قبيل الكُفر الصريح، لأنَّ ابن الفارض ادَّعى فيها الألوهية، ثم وضع الدكتور مصطفى محمود نفسه في خانة مَن أنكر شيئًا ثابتًا من الدين بالضرورة، كإنكاره لنص قرآني أو الإيمان بما يُخالف معناه وحُكمه ومقتضاه، وذلك عندما اعتنق فكرة ثنائية الوجود.
يقول الله سبحانه تعالى: «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ »
«الأنعام - 101».
ويقول في نفس السورة الآية التالية لها: «ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ »
«الأنعام - 102».
ويقول أيضًا: «اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ»
«الزمر - 62».
وهذه النصوص واضحة الدلالة على أنَّ الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء، سواء كان حيوانًا أم نباتًا أم جمادًا، وسواء كان ماديًّا أو معنويًّا، والقاعدة الأصولية تقول بأن المُطلق يجب أن يُحمل على إطلاقه، فالنص الذي جاء مطلقًا لا يمكن تقييده بمحض الهوى.
ومن هنا نسأل الدكتور ما الذي استند إليه حين استثنى من مخلوقات الله ذوات المخلوقات أو حقيقتها أو كياناتها الثابتة؟
فالدكتور قد خالف النصوص السابقة مخالفة صريحة، إذ يقول الله سبحانه وتعالى أنه خلق كل شيء، والدكتور يُخالف ما قرره الله عز وجل ويقول: «إنَّ هناك أشياءً من المخلوقات وهي ذواتها لم تُخلق، وإنما هي موجودة منذ الأزل مع الله بخصائصها الذاتية، وأنها غير مخلوقة وأنها لم تكتسب خصائصها وصفاتها من الله عز وجل».
وأيضًا يقول الله سبحانه وتعالى:
«هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا»
«الإنسان - 1».
والدكتور لم يجعل من الإنسان شيئًا مذكورًا قبل الخلق فحسب، بل جعل له حياة كاملة دون أن يشعر، فالقارئ لفكرة ثنائية الوجود كما جاءت في كتابيَّ «الوجود والعدم» «والسر الأعظم» يكاد يتخيَّل أنَّ العدم حجرة مغلقة، وأنَّ الإنسان يجلس على مقعد في هذه الغرفة ومقيد بالأغلال، حتى أنه لا يستطيع أن يُحرِّك أي عضو من أعضائه، ولا يستطيع أن يفتح فمه ليتحدَّث، ولكنه يدعو ربه في جوفه طالبًا منه أن يفك عنه أغلاله ويخرجه من هذه الحجرة المغلقة المظلمة، ولعلَّ ما زاد في المثال السابق هو أننا تخيلنا أنَّ للإنسان جسدًا في حجرة العدم، في حين أنَّ الدكتور تخيله نية أو حقيقة أو ذاتًا مجردة ليس لها بدن تتحرَّك بواسطته أو من خلاله.
فدور الله هنا مقصور على فك الأغلال، وفتح حجرة العدم لينطلق الإنسان من هذه الحجرة إلى شارع الوجود بعد أن يتم تسليمه ملبسًا يخرج به بدلًا من أن يخرج عليهم، وهو أشبه بالفراغ أو الهواء، ألا ترون معي أنه تقييد لدور الله عزَّ وجل في الخلق دون مقيد.
وما ينطبق على الإنسان في المثال السابق ينطبق على سائر الكائنات، فكلها كانت ذواتًا مقيدة في العدم - على حد قوله - وتطلعت إلى الله جل وعلا فألبسها لبسة الوجود التي تُناسبها، وفك عنها قيود العدم.
*******
وذوات النفوس، أو جواهر النفوس، أو حقائق النفوس، أو الكيانات الثابتة في العدم كما يطلق عليها الدكتور، نلاحظ أنه يجعل لها حياة كاملة في العدم دون أن يلاحظ، فالقارئ يفهم من خلال قراءة الفكرة أنَّ هذه الذوات تعلم أنها موجودةٌ في العدم، وتعلم ماهية هذا العدم الذي تعيش فيه، وهي لذلك ترغب في الخلاص منه، وتعلم أنَّ هناك وجودًا فتشتاق إليه، وبعض هذه الذوات تعقد مقارنة بين الوجود والعدم، وحين يترجح لديهم أفضلية الوجود على العدم تتطلع إلى الله عز وجل وتدعوه أن يُخرجها من العدم إلي الوجود، إنها إذن حياةٌ كاملةٌ في العدم مليئة بالأفكار والمشاعر والرغبات، وفي هذا خلط واضح بين الوجود والعدم، وتحويل للعدم من معناه الأصلي «اللاشيئية» إلى حياة كاملة مستترة ليست من خلق الله، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لم يعد هناك فارق بيننا وبين الفكر الشيوعي المُلحد، فكلانا يؤمن بعد هذه الفكرة أنه من الممكن أن يكون هناك أشياء مثل «ذوات المخلوقات» قد وجِدت بدون خالق.
ومن جهة أخرى فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»
«الذاريات - 56».
فهذه الآية أوضحت أنَّ خلق المخلوقات كان بإرادة الله، فحين أراد الله أن يُعبد خَلق الخلق، بينما جعلت فكرة ثنائية الوجود خلق المخلوقات موقوفًا على إرادة هذه الذوات في العدم، فهناك كما يرى الدكتور ذوات اشتاقت إلى الوجود فطلبت من الله أن يفك أسرها من قيد العدم «والعدم نار»، فأخرجها الله إلى الوجود، وهناك ذوات لم تتطلع إلى الوجود ولم تشتَق إليه فتركها الله على حالها، أي أنَّ إرادة الخلق ليست لله وإنما لهذه الذوات في العدم.
*******
وهذه الفكرة تُقيد من قدرة الله بدون مُقيد، إذ إنها تجعل الله في عجز عن خلق كائنات حيَّة ليس لها ذوات ثابتة في العدم، فقد جعل الدكتور خلق الكائن موقوفًا على إرادة ذاته في العدم، فإذا لم تطلب هذه الذات من الله عزَّ وجل أن يُخرجها إلى الوجود ما كان الله ليخرجها، لأنَّ الله - كما يري الدكتور - لا يقهر الكائن على شيء، ومن باب أولى فإنه إذا لم تكُن هناك ذات في العدم ما كان الله ليخلق هذا الكائن بالمرة، وبالطبع ما كان الدكتور ليقبل هذا الكلام لو ورد في ذهنه أثناء دراسته لهذه الفكرة.
*******
وجاء أيضًا في ثنائية الوجود أنَّ هذه الذوات أو الحقائق تختلف عن بعضها البعض في العدم، فكل ذات تختلف عن الأخرى، لذلك فإنَّ الذَّات التي تطلب الظهور يلبسها الله لبسة الوجود التي تناسبها، فإذا كانت الذات طاووسية ألبسها الله بدنًا طاووسيًّا، وإذا كانت خنزيرية ألبسها بدنًا خنزيريًّا وهكذا.
وهذا كلام عجيب، لأنه يستلزم أن يكون أمام الله عز وجل نماذج مختلفة من صور المخلوقات والله - سبحانه وتعالى عن ذلك - يبحث فقط عن القالب أو الصورة التي تُناسب تلك الذات أو الحقيقة الراغبة في الظهور، فالله إذن لم يصور هذه المخلوقات بإرادته المحضة، وبما يُناسب الحِكمة التي ابتغاها من خلق هذه المخلوقات، وإنما فرضت هذه الذوات على الله عز وجل الشكل الذي هي عليه.
فالله عزَّ وجل لم يخلق الطيور بأنواعها المختلفة لتمد الإنسان بالبروتين الذي يحتاج إليه، وإنما هي أشكال وتراكيب مفروضة على الله حتى يحدث التناسب بينهما وبين ذوات الطيور في العدم، وكأنَّ هذه الصور والقوالب أيضًا حقائق أزلية لا يمكن لله عز وجل الخروج عليها.
وبالفعل قد جعل الدكتور مصطفى محمود - وبطريق غير مباشر - من صور هذه المخلوقات حقائق أزلية ليست من اختيار الله وتصويره، وذلك حين جعل ذوات المخلوقات حقائق أزلية، وجعل لكل ذات من هذه الذوات قالبًا معينًا يناسبها، فالذات أزلية والذات لها قالبٌ معينٌ يُناسبها دون غيره، إذن هذا القالب أيضًا أزلي وليس من إبداع الله سبحانه وتعالى، وكذلك كل موجود من الموجودات المخلوقة قد فُرِضَ على الله سبحانه وتعالى الشكلُ الذي يُناسب ذاته.
وبالطبع هذا الكلام السابق مردود ويتعارض مع العديد من النصوص القرآنية، يقول الله سبحانه وتعالى:
«بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»
«الأنعام - 101».
وجاء معنى «بديع السموات والأرض» في تفسير ابن كثير رحمه الله: «أنَّ الله مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق، ومنه سُميت البدعة لأنه لا نظير لها فيما سلف»، فليست إذن هي قوالب مفروضة على الله لتناسب الذوات الموجودة في العدم، وإنما هي إبداعات من الله ومحدثات وليس لتناسب الذات، وإنما لتناسب الحِكمة التي أرادها الله من خلق المخلوق.
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»
«التين - 4»
وقوله تعالى:
«خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ»
«التغابن - 3».
وقوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
«آل عمران - 6».
قوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ»
«الانفطار – 8:6».
والآيات السابقة جميعها جعلت تصوير الإنسان في الرحم وخارج الرحم من عمل الله عز وجل، ولقد أخبرنا الله جل وعلا أنه خلق الإنسان في أحسن صورةٍ «أحسن تقويم»، وكل إنسانٍ خلقه الله جعله على هذه الصورة التي اختارها للبشر عمومًا، ولو كان يُلبس كل ذات لبسة الوجود المناسبة لها لما خلق البشر جميعًا على صورة واحدة، وهي الصورة المعروفة للبشر بوجه عام، لأنه لا يمكن أن تكون هذه الذوات جميعًا متحدة في الخصائص، فالتصوير إذن بنصوص الآيات السابقة متوقف على مشيئة الله عز وجل وليس على المُناسبة بين الذات وبين القالب.
*******
ونلاحظ من جهة أخرى أنَّ فكرة ثنائية الوجود بدَّلت المعنى الأصلي لكلمة الخلق من الإبداع والابتكار والإحداث من اللاشيء إلى مجرد الإخراج من العدم، وهو كلام جد خطير ما كان يصح أن يأتي من الدكتور مصطفى محمود رجل العلم والإيمان، الرجل الذي قضى العمر في الدعوة إلى الإيمان بالله عز وجل الخالق البارئ المُصور المُبدع المُحدث، الله الذي هو أحسن الخالقين، فالله عز وجل يَخلق، والإنسان يُخلق، ولكن خلق الإنسان خلق تجميع وتركيب لموجودات موجودة من قبل لتعطي موجودًا لم يكُن موجودًا، بينما خلق الله هو إنشاء الشيء من اللاشيء، وهذا هو الفارق الذي أزاله الدكتور بغير قصد بسبب التعجل في ترديد فكرة قبل دراستها دراسة جيدة.
*******
وغاب عن الدكتور مصطفى محمود شيء عظيم الأثر في خلع هذه الفكرة من أساسها، فهو يرى أنَّ هذه الذوات أو الحقائق غير مخلوقة وخصائصها ملازمة لها منذ الأزل، فهي إما أن تكون خيرة بطبيعتها أو شريرة بطبيعتها، فإذا كانت الحقيقة أو الذات خيرة، سيَّر الله صاحبها في طريق الخير، أمَّا إذا كانت شريرة فإنَّ الله يُسيِّر صاحبها في طريق الشر.
وهذا الكلام مردود، لأنه لو كان صحيحًا لوجدنا المجتمع طبقتين، طبقة مستديمة على الخير وأخرى مستديمة على الشر، لأنَّ الإنسان سيعجز عن الخروج على مقتضيات طبيعته ذات الخصائص الأزلية، ولكن ذلك لا يحدث، لأنَّ كل إنسان حتى ولو كان غير ذي عقيدة يتأرجح في حياته بين الخير والشر، فهو خير تارة وشرير تارة، فالمسألة إذن ليست مسألة طبائع تفرض على صاحبها أن يسير في هذا الطريق أو ذاك سيرًا دائمًا لا رجوع فيه.
والدكتور مصطفى محمود من أعدى أعداء الحتمية في مجال الإنسانيات، وتحدَّث عن ذلك في مواضع عديدة، فهو يقول في كتابه «أكذوبة اليسار المصري» الصفحة التاسعة والعشرين:
«ثم هذه الدعوى الزائفة للماركسيين بحتمية قوانينهم، وكأنها قوانين منزلة من اللوح المحفوظ هي دعوى أخرى غير علمية، فلا حتمية في لإنسانيات، إنما هناك على الأكثر عناصر ترجيح وظن وتخمين واحتمالات متفاوتة، ولا حتمية إلا في حركة الأفلاك والكواكب وكرات البلياردو وتروس الساعات والمادة الصرفة، وحتى المادة الصرفة ظهرت قوانين جديدة تخرج حركة الإلكترونات فيها من إطار الحتمية إلى مجال الحرية والاحتمال «قوانين هينزنبرج».
ويقول في نفس الكتاب الصفحة الحادية والأربعين:
وكما يقول «ماكدوجال» يتميَّز الكائن الحي بخاصية ينفرد بها بخلاف المخلوقات جميعها، وهذه الخاصية هي التلقائية، والتلقائية موقف اختيار ذاتي يختلف عن حركة المادة الجامدة، فالكائن الحي يُبادر بسلوك ونشاط تلقائي لا تُرافقه علاقات ترابطية حتمية مُلزمة، وبذلك يخرج سلوك الإنسان عن دائرة الظواهر الطبيعية التي تتصف بالآلية، وهذا معناه عدم خضوع الإنسان لقانون الحتمية العلمية، فالمواقف والاتجاهات والانفعالات جميعها من سمات الكائن الحي وهي لا تخضع واقعيًّا ولا تجريبيًّا لمواصفات الحتمية من قريب أو بعيد.
ورغم ذلك فإنَّ الدكتور يتعارض مع نفسه، ويفترض وجود ذوات في العدم لها خصائص ملازمة لها منذ الأزل، فهي إمَّا ذات طبيعة خيِّرة أو ذات طبيعة شريرة، ويرجع بذلك إلى القول بالحتمية في مجال الإنسانيات، إذ تفرض هذه الذات على صاحبها اتجاها معينًا، إمَّا في طريق الخير أو في طريق الشر.
*******
والحقيقة التي غابت عن الدكتور مصطفى محمود أيضًا هي أنَّ الخير والشر من المسائل النسبية، فهما ليسا حقيقتين ثابتتين منذ الأزل، وإنما يرتبطان بالشكل الذي اختاره الله للإنسان وللكون الذي يعيش فيه، فلو أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل الإنجاب متوقفًا على المُعاشرة بين الرجل والمرأة لما كانت هناك جريمة الزنا، ولو أنَّ الله لم يُحرِّم الزواج من الأخت لما كان الزواج منها حرامًا أو شرًا كما كان الحال في بداية الحياة على الأرض.
إذن معنى الخير والشر قد نشأ بعد خلق الكون والإنسان بالصورة التي اختارها الله لهما، وبعد نشأة الدستور الذي وضعه الله للإنسان من خلال الرسالات السماوية، فكيف ينسب الدكتور لهذه الذوات الطبيعة الخيرة أو الشريرة، والخير والشر لم يكُن لهما معنى ولا وجود قبل خلق الكون والإنسان، بل ومعناهما ارتبط بالشرائع السماوية التي أنزلها الله عز وجل، فإن شاء تعالى أباح الحرام أو حرَّم الحلال، وهذا ينفي أن يكون للخير أو الشر معنى أزليًّا غير قابل للتغيير.
*******
ومن جهة أخرى فقد أكَّد الله سبحانه وتعالى في العديد من الآيات القرآنية أنه قادر على تبديل الجنس البشري بخلق جديد.
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيد * وما ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٖ»
«فاطر 15 - 16».
وعلى فرض أنه سبحانه وتعالى بدَّل البشر بغيرهم من الكائنات المُخيَّرة لاختلف مفهوم الخير والشر بالنسبة لهذا الخلق الجديد عنه بالنسبة للبشر.
*******
ويقول الله سبحانه وتعالى:
«ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِير»
«فاطر - 1».
فالزيادة في الخلق تتوقف على مشيئة الله وليس على إرادة هذه المخلوقات في العدم، مَن رغب منها في الظهور والخروج أخرجه الله، ومَن لم يرغب تركه الله على حاله.
*******
وإذا افترضنا أنَّ فكرة ثنائية الوجود صحيحة، وأنَّ ذوات المخلوقات قديمة وموجودة بلا بداية بطبائعها وخصائصها، فإنَّ ذلك لن يحل أزمة الدكتور مصطفى محمود مع التسيير والتخيير والتي نراها أزمة متوهمة لا وجود لها في الحقيقة.
فكما قلنا من قبل إنَّ الدكتور مصطفى محمود حين سُئل في مسألة التسيير والتخيير؟ أجاب: الإنسان مُسيَّر فيما اختار بنيته، وحين سُئل: ومَن خلق له نيته أو حقيقته؟ أجاب بأنَّ هذه النية أو الحقيقة غير مخلوقة حتى يتفادى القول بالجبرية، إذ كيف يخلق الله للإنسان نيته الخيرة أو الشريرة ثم يُحاسبه عن أفعاله الناتجة عنها.
فالقول بأنَّ حقيقة الإنسان أو ذاته أو نيته غير مخلوقة لم يحل اللغز الذي تصوره الدكتور مصطفى محمود، ومن ثم أصبح إيمانه بثنائية الوجود بدون فائدة، لأن كون هذه الذات أزلية بخصائصها المُلازمة لها يجعلنا أيضًا أمام إنسان مُسيَّر ومُجبر على طريق الخير أو الشر، ولكن مصدر التسيير هذه المرة هو حقيقة الإنسان ذات الخصائص الأزلية والتي لا يد للإنسان فيها أيضًا، فإذا كان الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذه الحقيقة أو الذات ولم يؤثر في خصائصها المُلازمة لها منذ الأزل سواء كانت خيَّرة أم شريرة، فمن باب أولى أنَّ الإنسان الذي نشأ عن إلباس هذه الذات لبسة الوجود لم يؤثر في هذه الحقيقة، وتبعًا لذلك يكون غير مسؤول عن طبيعتها الخيرة أو الشريرة، ومن هنا فإننا رجعنا إلى نقطة البداية، فإذا لم يكُن الإنسان مسيرًا بنيته التي خلقها له الله عز وجل خيَّرة أو شريرة، فهو مُسيَّر ومحكوم بطبيعة هذه النية أو الحقيقة والتي هي أزلية وليست بجعل جاعل ولا يد للإنسان نفسه في خيرها أو شرها.
وليس لهذه الأزمة حل عند الدكتور إلا أن يجعل هذه الحقيقة أو الذات هي الإنسان نفسه، ليُصبح بذلك أول مَن قال على سطح الكرة الأرضية أن الإنسان قد وُجِد قبل خلق الله له.
ومن المُلاحظ أنَّ الدكتور لم يُوضِّح لنا ماهية ذات الإنسان، أو حقيقة الإنسان أو جوهر نفس الإنسان، أو الكيان الثابت من الإنسان في العدم أو جوهر نفس الإنسان، فكل هذه الأسماء السابقة أطلقها الدكتور كمترادفات على معنى واحد ولكنه لم يُحدِّد ماهية هذا المعنى بالضبط، فما هي هذه الذات على وجه التحديد؟ وهل هي تعني نية الإنسان فقط أم أنَّ النية مفرد من مفرداتها؟
*******
وهناك خطأ نود أن نُصححه بشأن ما قرَّره الدكتور مصطفى محمود ضمن حيثياته لتبرير صحة الاعتقاد بثنائية الوجود، وهو أنَّ للإنسان ذات خيرة أو شريرة وكأنها «بوصلة توجه صاحبها إلى اتجاه واحد لا يحيد عنه»، فتصوره السابق للذات جعله يقسم ذوات البشر إلى خيرة بطبيعتها وشريرة بطبيعتها، في حين أنه قلما وجد إنسان دائم على الخير أو دائم على الشر.
أمَّا نية الإنسان فيُراد بها ما انطوت عليه نفسه من إرادة حيال مسألة من المسائل والسلوك الذي قرَّر اتخاذه بالنسبة لها، فالنية إذن هي اختيار الإنسان بين البدائل في كل مرة تضطره الظروف المُحيطة به إلى الاختيار من بين عدة بدائل، وهذا الاختيار لدى أي إنسان - حتى ولو كان غير ذي عقيدة وبشهادة الدكتور نفسه - غير محكوم بمبدأ الحتمية العلمية، فهو اختيار خير تارة وشرير تارة، ولم ولن تجد شخصًا كل اختياراته خيِّرة أو شريرة.
واختلاف الاختيارات من إنسان إلى آخَر ليس مرجعه إلى ذات أو حقيقة ثابتة على الخير أو الشر، وإنما يرجع إلى اختلاف حصيلة كل إنسان من معاني الخير والشر عن الآخَر، فهو اختلافٌ في درجة العلم والمرجعية الدينية للإنسان وما لديه من حِكمة، وليس اختلافًا في طبيعة الذات الأزلية.
«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»
«البقرة - 269».
والذي يؤكِّد هذا الفهم للذات والنية هو اختلاف اختيارات الإنسان من طفولته إلى شبابه إلى شيخوخته، فلو أنَّ اختيارات الإنسان محكومة بحقيقته أو نيته، والتي هي إمَّا خيِّرة أو شريرة لما اختلفت هذه الاختيارات من مرحلة إلى أخرى في حياة الإنسان نظرًا لثبات صفة هذه النية على الخير أو الشر.
*******
ومن مرئيات الدكتور مصطفى محمود أيضًا أنَّ العدم لا يمكن أن يكون معدومًا، لأنه لو كان معدومًا لما كان له معنى في العقل.
ومعنى الكلام السابق أنَّ العدم لا يمكن أن يكون بمعنى اللاشيئية، لأنه إذا كان كذلك لما كان له معنى واضح في العقل، والحقيقة أنَّ هذا الكلام غير صحيح، لأنَّ اللاشيئية لها معنى في العقل، فهي تعني أنَّ كل شيء يمكن إدراكه بحاسة من الحواس كالبصر أو السمع أو الشم أو اللمس ليس له وجود، وهو ما سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث "العماء"، أمَّا كون الإنسان لا يستطيع تخيُّل اللاشيئية فليس معنى ذلك أنها غير ذات معنى.
*******
ومن العجيب أنَّ الدكتور يرى أنَّ ثنائية الوجود ضرورة حتمية لا معدى عنها لفهم الأمور، لأننا إذا لم نكُن أمام ثنائية الوجود - أي وجود الخالق وذوات المخلوق معًا منذ الأزل - فإننا إذن أمام وحدة وجود مطلقة، أي وحدة الخالق والمخلوق.
فإذا لم تكُن ذوات المخلوقات - حسب قوله حقائق أزلية - فإنها إذن مشتقة من ذات الله، فيُصبح الله هو الخالق والمخلوق وهو العابد والمعبود ويبطل حساب الإنسان على عمله.
والحقيقة أنَّ هذا فهم قاصر، لأنَّ خلق المخلوقات ليس إخراجًا لحقائق أو ذوات موجودة منذ الأزل، كما أنه ليس اشتقاقًا أو اقتطاعًا من ذات الله حتى يُصبح الخالق والمخلوق شيئًا واحدًا.
فالله سبحانه وتعالى لم يقتطع شيئًا من روحه حين نفخ فينا نفخة الحياة، ولم يقتطع من رحمته حتى يهبنا هذه الصفة، فهو سبحانه وتعالى بعد خلق المخلوقات هو عينه قبل خلق المخلوقات، ولم يزد عليه أو ينقص منه شيء، ولم يُصبح جزء منه داخل المخلوقات والآخَر مستقلًا، وكما قال ابن قيم الجوزية «فالرب رب، والعبد عبد، والخالق بائن عن المخلوقات، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته»، والذي حدث هو أنه سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»
«البقرة – 30».
وإذا كان الدكتور مصطفى محمود قد أخذ فكرة ثنائية الوجود الخاطئة من الشيخ محيي الدين بن عربي، فإنَّ ابن عربي نفسه هو مَن فسَّر خلافة الإنسان، بأنَّ الله عز وجل قد أعطى الإنسان قدرًا من أسمائه وصفاته، ولا يترتب على هذه المنحة الإلهية أن نقول بأنَّ الإنسان وخالقه قد أصبحا شيئًا واحدًا، وأنَّ الله عز وجل على هذا النحو يعبد نفسه، بل خلق الله عز وجل الإنسان وأعطاه شخصية مستقلة منفصلة، وأعطاه عقلًا يُميِّز به بين الطيب والخبيث، ويستوعب به قيمة وأهمية التكاليف التي كلفه بها، ومنح الناس جميعًا نفس الهبات، فحين يُخالف الإنسان بعد ذلك فإنه يستحق العقاب، لأنَّ الله عز وجل قد أعطاه عقلًا يُدرك به أنَّ له وللكون الذي يعيش فيه خالق، أنعم عليه بنعم لا تحصى ولا تعد، وأنَّ ما يطلبه منه من تكليفات تُحقق له الخير وتصلح أحوال العباد، وتُحقق السلام والأمن والأمان للإنسان ولكل من حوله، وتحفظ الكرة الأرضية من الفساد:
«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ»
«البقرة – 251».
فالإنسان مثلًا قام باختراع الإنسان الآلي، والذي وُجد في عقله كفكرة مجردة ثم حوَّلها إلى حقيقة واقعة، فهل يمكن القول أنَّ الإنسان الآلي مشتق من ذات الإنسان، وأنهما في الحقيقة شيء واحد، كلا، فالإنسان بعد اختراع الإنسان الآلي كما هو عليه قبل اختراعه، وإنما الإنسان الآلي هو الذي اكتسب ذاتًا وكيانًا ومفهومًا مستقلًا ومنفصلًا عن الإنسان صانعه.
وإذا كان الدكتور يعلم علم اليقين أنَّ الله قادر على كل شيء، فلماذا يستبعد أن يخلق الله كائنًا حيًّا مستقلًا حر الاختيار ودون أن يكون له ذات في العدم أزلية بخصائص أزلية ليست بجعل جاعل.
«أَوَلَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ * فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ» «يسن 81 : 83».
*******
ولقد كنَّا نتصور وهو الحق قبل أن نقرأ هذه الفكرة أنَّ الله قبل خلق الخلق كان وحده ولا شيء معه، وحينما أراد أن يُعْبَد خلق الخلق، وحتى يقوم الإنسان بدوره كخليفة لله عز وجل على الأرض خلق له الكون وسخره له بكل ما فيه، وأمَّا بعد ثنائية الوجود فالصورة أصبحت غير ذلك، فالله لم يخلق هذه المخلوقات حينما أراد أن يُعْبَد وإنما لأن ذوات هذه المخلوقات الموجودة في العدم طلبت الظهور فأظهرها الله جل وعلا عن ذلك علوًا كبيرًا.
وطالما أن الدكتور أراد أن يحدث خللًا في الصورة السابقة - وهو ما لم يحدث ولن يحدث - فكان عليه أن يُعطي صورة أخرى متكاملة، ولكن ما حدث غير ذلك، فالدكتور لم يُوضِّح لنا مثلًا هل السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم أيضًا مخلوقات لها ذوات في العدم وحينما طلبت الظهور أظهرها الله في لبسة الوجود التي تناسبها؟ أم أنها خُلقت دون استشارة ذواتها في العدم؟ أم أنَّ هذه المخلوقات لم يكُن لها ذوات في العدم من الأصل؟
والدكتور بين خيارات ثلاث، إمَّا أن يقول: نعم لهذه المخلوقات ذوات طلبت الظهور فأظهرها الله، وبالتالي ينفي عن الله إبداع هذا الكون وتصويره بما يُناسب الحكمة من خلقه، أو يقول: لا، لقد خُلِقَت هذه المخلوقات دون استشارة ذواتها في العدم فينسب إلى الله الظلم والقهر، أو يقول إن هذه المخلوقات ليس لها ذوات أو حقائق في العدم من الأصل، وبالتالي ينقض فكرة ثنائية الوجود التي قال بها نقضًا كليًّا، ذلك أنَّ الفكرة تقتضي إمَّا أن يكون للكون كله ذوات في العدم طلبت الظهور، وألبس الله عز وجل كل منها اللبسة التي تناسبه فخرج لنا الكون بأكمله، وإمَّا أنَّ لا يكون لشيء من المخلوقات ذات في العدم، وأنَّ الكون كله من إبداع الله عز وجل وتصويره، أمَّا أن يكون لبعض المخلوقات ذوات في العدم، والبعض الآخَر لم يكُن له ذوات، فهذا لن يكون مقبولًا، لأنه سيعني أن بعض الكون من إبداع الله عز وجل والباقي ليس من إبداعه.
ناهيك عن أنَّ القول بعدم وجود ذوات لهذه المخلوقات الكونية العظيمة سوف يعني - على ضوء ثنائية الوجود - أنها تعرَّضت للقهر، لأنها في هذه الحالة تكون قد خُلقت وخرجت من العدم وهي لم تطلب الخروج.
*******
ومن ناحية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى:
«إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ * فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ»
«سورة ص - 71، 72».
وحين نرجع إلى الآيات التي تناولت بيان كيفية خلق آدم عليه السلام نجدها لا تضيف خطوة جديدة إلى الخطوات الواردة في الآية السابقة، وإن كانت تزيدها تفصيلًا، فخلق آدم كما بينته الآية السابقة مرحلتان: الأولى مرحلة التسوية وفيها قام الله سبحانه وتعالى بتصوير آدم على الصورة التي أرادها له «فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»، والمرحلة الثانية هي مرحلة نفخ الروح، وهي المرحلة التي تدب فيها الحياة في الجسد، ويصبح التمثال إنسانًا كما نعرفه.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد تجلى على الخاصة من عباده من أمثال ابن عربي بفكرة ثنائية الوجود، فإنَّ الغرض من ذلك - منطقيًّا - هو أن يعرف الناس هذه الخطوة المفقودة من خطوات خلق آدم، لأنه ليس من المعقول أن يكون هذا التجلي من أجل إعلام ابن عربي وحده، بدليل أنَّ الفكرة قد انتقلت منه إلى غيره، فإذا توافرت لدى الله الحِكمة من إعلام الناس عن طريق ابن عربي بأنهم كانوا ذواتًا في العدم، وأنه أخرجهم منه برغبة ذواتهم في الظهور والفكاك من أغلاله، فأين كانت هذه الحِكمة أثناء نزول القرآن الكريم؟
إننا أمام احتمالات متعددة، فإما أن تكون هذه الحِكمة معلومة لله أثناء نزول القرآن، فنسأل عن سبب عدم تناول آياته لما ذكره ابن عربي بخصوص استخراج الذوات من العدم، وإما أن تكون غير معلومةٍ لله في ذلك الوقت فنسأل وهل يستجد في علم الله شيء لم يكُن يعلم به من قبل؟ وإما أن يكون الله سبحانه وتعالى قد أراد لابن عربي ومَن جاءوا في عصره والتابعين لهم أن يعرفوا هذه الخطوة المفقودة دون مَن جاءوا قبلهم وهذا محال دون جدال.
*******
ومن المفاهيم التي أراد أن ينقلها لنا الدكتور أيضًا أنَّ علم الله بهذه الذوات قديم وأزلي، وأنَّ هذا العلم ليس علم الخالق بما خلق وإنما علم كائنٍ بكائنٍ آخر من خلال ما كشفه هذا الآخَر عن نفسه، فالله سبحانه وتعالى علم أنَّ هذه الذات خيِّرة أو شريرة ولم يجعلها كذلك، وعلم أنَّ هذه الذات خنزيرية أو طاووسية ولم يجعلها كذلك، والله لا يُغيِّر من خصائص هذه الذوات أو الحقائق بأن يجعل الخيرة شريرة أو العكس، أو الطاووسية خنزيرية أو العكس، وإنما يتصرف في كل ذات على ما هي عليه.
ولا يتدخل الله سبحانه وتعالى بالتغيير في ذات الإنسان أو حقيقته أو نيته إلا إذا طلب هو ذلك بالتضرع والدعاء إلى الله، ساعتئذ يتدخل الله سبحانه وتعالى ليصلح شأن العبد سيئ النية إلى حُسن النية مستقيم الأخلاق والطباع، وإذا كانت هذه المعطيات السابقة صحيحة لكان مقتضى العدل الإلهي الذي أعطى الفرصة للإنسان أن يُغيِّر من حقيقته أو ذاته عن طريق الدعاء والتَّضرُّع إلى الله أن يسمح لسائر الكائنات مثل الطاووس أو الخنزير أن يتطور هو أيضًا إلى مراتب حياتية أعلى من رتبته كأن يُصبح إنسانًا مثلًا عن طريق الدعاء والتضرع طالما أنَّ الدكتور يقر لله بالقدرة على تغيير هذه الذوات أو الحقائق، ويقر لبعض المخلوقات مثل الإنسان أن يرتقي بتغيير حقيقته أو ذاته من حالة أقل أو أراد إلى حالة أعلى أو أفضل.
*******
ولقد قلنا من قبل:
إنَّ الدكتور جعل خلق المخلوقات موقوفًا على إرادة ذواتها في العدم مَن رَغِب منها في الظهور أظهره الله، ومَن لم يرغب تركه الله على حاله مخالفًا بذلك قوله تعالى:
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»
«الذاريات - 56»
*******
ونود أن نسأل الدكتور كيف يكون العدم نارًا كما يقول ابن عربي، وبعض الذوات تطلب الخروج منه والأخرى لا ترغب في الخروج؟ أليس تأثير النار موحدًا على كل هذه الذوات، وهل يعني ذلك أنَّ النَّار كان لها وجود قبل خَلق الكون؟
إنَّ كلام ابن عربي إمَّا أن يكون حقيقة، فتكون النَّار هي النَّار التي نعرفها، وبذلك يُصبح قبول بعض هذه الذوات البقاء في العدم مثيرًا للغرابة، وإمَّا أن يكون تشبيهًا لبيان مدى صعوبة بقاء الذوات في العدم، وبذلك يظل السؤال مطروحًا، ما الذي يجعل بعض هذه الذوات قادرًا على البقاء في العدم الذي لا يُطاق، والبعض الآخَر يرغب في الخروج والفرار إلى الوجود؟
*******
ونود أن نسأله عن يوم القيامة، هل هو اليوم الذي تنتهي فيه حِكمة استمرار الحياة على الأرض لدى الله سبحانه وتعالى؟
أم ذلك الذي تُصبح فيه الذوات المُتبقية في العدم غير راغبة في الظهور؟
أم أنه اليوم الذي تخرج فيه كل الذوات الموجودة في العدم إلى الوجود؟
وإذا كان العدم حضرة كاملة لها خصائصها الأزلية كما يقول الدكتور، فمَن الذي أكسب هذه الحضرة خصائصها؟
ومَن الذي خلق هذه الذوات التي تعيش في جوف العدم؟
وإلى أي شيء يرجع اختلاف هذه الذوات عن بعضها البعض؟
وهل عدد هذه الذوات لا نهائي أم أنه عدد محدود؟
وما سر رغبة بعض الذوات في الخروج من العدم وتمسك البعض الآخَر بالبقاء فيه؟
وهل يقبل الدكتور أن تكون هناك حضرة ليس لها خالق غير الحضرة الإلهية؟
*******
ونقول لمَن قرأ ما سبق ولم يقتنع بنسبة هذه الفكرة للدكتور كمُعتنق وباعث لها من التراث الصوفي، يُمكنك الرجوع إلى كتابه «الروح والجسد» المقال الأخير بعنوان «هل كان لنا وجود قبل أن نُولد»، وهناك ستجده يتحدَّث عن ثنائية الوجود بلسانه مباشرةً ودون أن ينسب الكلام إلى ابن عربي أو غيره، ونذكر من هذا المقال قوله:
«أنا لستُ مسألة طارئة استجدت بالميلاد وستنتهي بالموت، ولو أني كنتُ أمرًا طارئًا زائلًا لما كنت حقيقة، بل مجرد ظاهرة موقوتة، تلمع ثم تختفي فلا تعود، ولا تُصبح هناك حِكمةٌ في بعث وحساب وعقاب، وعلامَ العقاب ولا حقيقة هناك»، ولمَن أراد المزيد أن يرجع إلى هذا الكتاب «الروح والجسد» الصفحة الخامسة والتسعين ليقرأ مقال الدكتور كاملًا.
*******
واستخدم الدكتور عددًا من الآيات القرآنية لتأييد فكرته، منها قوله تعالى:
«وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا»
«مريم - 9».
والحقيقة أنَّ الدكتور مصطفى محمود لم يُفسِّر هذه الآية، ولم يُوضِّح كيفية دلالتها على ثنائية الوجود التي يقول بها، وإن كنَّا نلاحظ أنَّ الآية السابقة ضد هذه الفكرة عموديًّا على صراط مستقيم، فمعنى الآية أنَّ الإنسان قبل أن يُخلق لم يكُن شيئًا مذكورًا على الإطلاق ماديًّا أو معنويًّا، فهو مستحدث بكل تكوينه المادي والمعنوي إلا إذا حمَّل الدكتور الآية فوق طاقتها أو أضاف إليها من خياله.
واستدل بقوله تعالى:
«إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ»
«النحل - 40».
وقال في تفسير هذه الآية فيوجِّه الله الخطاب «أَن نَّقُولَ» أي لتلك الحقيقة في العدم وكأنما لها كينونة من نوع ما، وكأنما العدم غير معدوم.
والحقيقة أنَّ تفسير الدكتور تحميل للآية السابقة فوق طاقتها وتطويع لها حتى تتمشى مع اعتقاده الشخصي، لأنَّ الخطاب في قوله تعالى «أن نقول له» موجَّه إلى ذلك الشيء الذي أراده الله عز وجل، أي أنَّ أصل الجُملة «أن نقول لهذا الشيء الذي أردناه»، ومن المعلوم أنَّ الشيء الذي يريد الله عز وجل خلقه هو كائن يمكن توجيه الخطاب إليه من الله ولو قبل خلقه، لأنه لا ولن يوجد ما يعوق الله سبحانه وتعالى عن خلق هذا الشيء، حتى من الناحية اللغوية، فإنَّ الضمير في «له» غير مناسب للذات أو الحقيقة في العدم التي يتحدَّث عنها الدكتور، إذ يُناسبها أن نقول «لها» وليس «له».
*******
واستدل بقوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا»
«الأحزاب – الآية 43».
وقال في تفسيره لهذه الآية الكريمة:
وهذا الإخراج من الظلمة إلى النور هو عين ما يقول به ابن عربي في الإخراج من العدم، في حين جاء معنى «لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ» في تفسير ابن كثير «أنه بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين»، والذي يؤكِّد هذا التفسير وصحته وخطأ فهم الدكتور للآية وبُعده عن الحق والحقيقة هو ختم الآية بقوله تعالى «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا»، فلو كان المقصود هو الإخراج من العدم إلى الوجود لقال الله تعالى «وكان بالناس رحيمًا»، لأنَّ الإخراج من العدم إلى الوجود – كما يقول الدكتور نقلًا عن ابن عربي - كان للناس جميعًا وليس للمؤمنين خاصة، ولوضع في الذاكرة البشرية تلك الحقبة الزمنية التي يدَّعي الدكتور أننا قضيناها في العدم بما فيها من ظلمة ومعاناة حتى لا يُصبح قوله تعالى «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» زيادة غير واضحة المعنى.
وفهم الآية وفقًا لتفسير ابن كثير هو الصواب المؤيد بالواقع، فالحياة قبل الرسالة المحمدية هي الظلمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، والحياة بعد الرسالة المحمدية هي النور الحقيقي الذي لا يمكن الحياة بدونه لا نور المصابيح الذي عشنا قبله وبعده دون فارق، والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام هو الرحمة بعينها.
وتأييدًا لنفس المعنى السابق جاء معنى قوله تعالى: «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» في تفسير ابن كثير، أي رحيمًا بهم في الدنيا والآخِرة، أمَّا في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصرهم الطريق الذي ضل وحاد عنه من سواهم من الدُّعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة، وأمَّا رحمته بهم في الآخِرة فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة والفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار، وما ذاك إلا بمحبته لهم ورأفته بهم، ولذلك فإننا نقول باطمئنان إنَّ تفسير الدكتور الذي يتماشى مع اعتقاد ابن عربي لا يمكن أن يُقبل على أنه المعنى الوحيد للآية، ولا على أنه معنى خفي بجانب معناها الأصلي، لأنه معنى بعيد للغاية، ولم يأتنا من أهل التفسير، وإنما من بعض أهل التصوف والشطحات الذين جعلوا فكرة الإلهام والتعليم المُباشر عن الله عز وجل بديلًا عن الوحي بالنسبة لهم، فراحوا يكتبون من الأفكار التي أفرزتها عقولهم، ثم يزعمون للناس أنها "علم لادني"، يقصدون بذلك أنه علم يأتي من لدن الله عز وجل مباشرة يهبه لمَن يشاء من عباده.
نعم تعليم الله عز وجل للبشر لا يتوقف، لكن هذا التعليم يدور في إطار تعميق الإيمان بوجود الله عز وجل، وتعريف المؤمنين بأسماء الله عز وجل وصفاته، وتعريفهم بشؤون دينهم وأهمية العبادات التي فرضها الله عز وجل عليهم، وعلى وجه العموم منحهم فهما أعمق لكتابه وسُنة نبيه مؤيدًا بما يدور حولهم من أحداث في كل البلدان، وبما تكشف عنه العلوم الدنيوية المختلفة، ويعرفهم بعظم أُثر هذه العبادات على حياتهم وما تجلبه لهم من سعادة وطمأنينة ورضا بكل الأحوال، وسكينة لا تتزعزع بأحداث الدنيا مهما كانت ثقيلة على غيرهم من البشر.
ولا أظن - أنه من قبيل التعليم عن الله عز وجل - ما يقول به ابن عربي وينقله الدكتور مصطفى محمود من أنَّ الإنسان كان موجودًا من قبل أن يُخلق، ولكنه كان في صورة ذات في العدم لا تملك من أمر نفسها شيئًا وأنه في حالة سكون تام، ثم يعودا ليقولا لنا أنَّ بعض هذه الذوات طلب من الله عز وجل إخراجه من العدم، ولا نعرف كيف هي في حالة سكون تام، وكيف تُفاضل بين العدم والوجود! ثم تطلب الخروج من العدم لأنَّ العدم نار.
لا أظن أنَّ التعليم عن الله عز وجل يشمل غيبيات لم يكشف عنها الله عز وجل في كتابه أو سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحتى إن أفاء الله عز وجل على إنسان مؤمن ورأى في منامه أو حتى في يقظته شيئًا من الأشياء الغيبية المحجوبة عن عامة الناس، فهي هبات له وليس للحديث عنها أو ترويجها بين الناس، ذلك أن ما رآه رُبَّما كان وهمًا، ورُبَّما كان بفعل الشيطان.
*******
واستدل بقوله تعالى:
«أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» «النمل - 25».
ويقول الدكتور تحت هذه الآية: وأراد بذلك أنَّ الله يخرج الخبء من الذوات الموجودة في العدم، في حين جاء معنى «الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ في تفسير ابن كثير:
«أنه ما جعل فيهما من الأرزاق، المطرُ من السماء والنبات من الأرض، ويرى أنَّ ذلك مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره من أنه يرى الماء في تخوم الأرض وداخلها».
بالإضافة إلى أن الآية حددت موضع هذا الخبء بأنه في السماوات والأرض، والدكتور يفترض وجود هذه الذوات في العدم وليس في السماوات والأرض.
*******
واستدل بقوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ»
«التوبة - 64».
وأراد بذلك أن الله يجلو ما تضمره النوايا في العدم.
والحقيقة أنه يكفينا لدحض هذا الدليل ودون أن نرجع إلى كُتُب التفسير أن نشير إلى أن الدكتور أتى بآخِر الآية الرابعة والستين من سورة التوبة وترك بداية الآية كصاحبنا الذي قال: «ويل للمصلين» ثم صمت، وذلك لأنَّ بداية هذه الآية تكشف أنها لا تتحدَّث عن ذوات أو نوايا في العدم، وإنما تتحدَّث عن المُنافقين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف أنهم كانوا يظهرون له خلاف ما يضمرونه في أنفسهم والآية كاملة تقول:
«يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ»
«التوبة - 64».
*******
واستدل بقوله تعالى:
«وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ»
«البقرة - 72».
وأراد بذلك أن الله يُخرج ما تكتمه الذوات في العدم، ويكشف طبائعها خيرة كانت أو شريرة، والرجوع إلى هذه الآية الكريمة في سورة البقرة كافٍ لإثبات عدم إمكانية استفادة هذا المعنى منها، ويكشف أنها لا تتحدَّث عن قاعدة عامة، وإنما تتحدَّث عن واقعة محددة، فالدكتور أيضًا قد أتى بآخِر الآية الثانية والسبعين وترك بدايتها، والآية كاملة تقول:
«وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» «البقرة - 72».
*******
واستدل بقوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ» «محمد - 29».
ومعنى الآية السابقة في تفسير ابن كثير، أي أعتقد المنافقون أنَّ الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين، بل سيوضِّح أمرهم ويُجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر.
والملاحظ أنَّ معظم الآيات التي استعان بها الدكتور، هي آيات نزلت في مناسبات معينة بسبب وجود فئات من المنافقين مُعاصرين لنزول هذه الآيات أو سابقين لها، بما يُسببه وجود هذه الفئات من خطورة على الإسلام، فهم مسلمون في الظاهر كفار السرائر، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يكشف هذه الفئات ليقضي على خطورتها، وأنها اشتملت على كشف لما يضمره هؤلاء المنافقين وهم على قيد الحياة حتى يأمن المؤمنون شرهم، وليس هناك أي إشارة من قريب أو بعيد على أنَّ المقصود ما تضمره هذه الذوات في العدم.
ومن جهة أخرى، لو كان هذا النفاق مُلازمًا لذات صاحبه في العدم - حسبما تقول نظرية ثنائية الوجود - لما رأينا رجوع العديد من المنافقين عن نفاقهم وتوبتهم إلى الله.
وتحدَّث الدكتور في كتابه «الروح والجسد» في مقال أخير بعنوان - "هل كان لنا وجود قبل أن نولد" - عن سابقة وجودنا قبل أن نمر بتاريخنا الطويل منذ خلق الله والدينا آدم وحواء، ولكنه لم يقصد هذه المرة الإشارة إلى ذوات المخلوقات في العدم، وإنما أشار إلى تواجدنا في أحسن صورة قبل أن نرد إلى أسفل سافلين أي الصورة التي نحن عليها الآن في الدنيا، وقد قال الدكتور في هذا المعنى:
وفي القرآن الكريم إشارة خاطفة إلى هذه السابقة الوجودية قبل الميلاد: «لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ * ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ * إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ» «التين : 4 - 6».
ويتابع الدكتور قائلًا:
ومعنى ذلك أنه كان هناك خلق أولي على أحسن تقويم، وهذه الخلقة لا يمكن أن تكون خلقتنا التي نعرفها في الدنيا، فجسمنا الذي يتعب ويمرض ويتلف ويشيخ ويموت.
والله يصف كمال خِلقة السماء فيقول: «أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ» «ق - 6».
أي ليس بها ثغرات أو نقاط ضعف، ومع ذلك فقد جعل الله في خلقتنا فرجًا وثغرة هي مدخل الشهوة والهوى، بل إنه سمَّى هذا الفرج سوأة وعورة، وقال فيما فعل إبليس بآدم وحواء بأنه «يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا» «الأعراف - 27».
فكيف يكون بالخلق الذي جعله الله في أحسن تقويم ثغرة وسوأة وعورة، ولماذا سمَّى حياتنا هنا بالحياة الدنيا أو «السافلة أو الواطئة» إلا أن تكون هذه الحياة هي أسفل سافلين التي رُددنا جميعًا إليها بعد النشأة الكاملة في أحسن تقويم، أهبطنا الله في هذه الجبلة الطينية التي بها الفرج والسوأة لنعيش حياة الابتلاء والمُعاناة والمُكابدة.
«لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ» «البلد - 4».
يحرمنا ممَّا نحب، ويُحَمِّلنا ما نكره، ليرى كيف يكون صبرنا واحتمالنا ولتظهر بذلك صفاتنا، وإنما يظهر الإنسان على حقيقته إذا حُرم ممَّا يحب، وإذا حُمِّل ما يكره فهنا تتفاضل النفوس، فهناك نفسٌ تحمد وتشكر ولا تعترض وتفوض الأمر لله عز وجل، وهناك نفس تُعاتب ربها وتحتج، وهناك نفس تسب الملة والدين وتتشاجر مع الله ومع الناس، وهناك نفس تتعجل وتقتل وتعتدي لتصلح حالها وتنهي حرمانها.
وهكذا تتفاضل النفوس وتظهر الحقائق، ومن أجل هذا خلق الله الدنيا وأنزلنا إلى هذا المنزل في أسفل سافلين لتظهر لنا حقائقنا وما خلق الله السماوات والأرض إلا بالحق وللحق ولإظهار الحق.
وفي آية أخرى يقول: «نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ» «الإنسان - 28».
ولقد فهم السلف «شد الأسر» بأنه أشبه بشد دعائم البناء وتقويته، ويتابع الدكتور قائلًا: ولكني أقول ولماذا لا نأخذ المعنى على ظاهره بأنَّ الله وضعنا في الأسر، في أسر الجبلة الطينية وشد وثاقنا، وبهذا أنزلنا من مرتبة الخلق في أحسن تقويم إلى عالم أسفل سافلين، وهو إهباطٌ عام لا استثناء فيه، وإنما استثناء الصالحين في الآية استثناء في الأجر بعد الموت.
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» «التين - 6».
فالصالحون أيضًا يُردون إلى أسفل سافلين، ولكن لأنهم صبروا واحتسبوا وسابقوا إلى الخيرات، فلهم بعد الموت والخروج من عالم أسفل سافلين أجر غير مقطوع في الجنَّة، أمَّا المُجرمون فمصيرهم بعد الخروج من أسفل سافلين بالموت العقاب بأسفل سافلين أخرى هي العذاب الأبدي في الآخِرة، فهم في أسفل سافلين أبدًا.
انتهى المقتبس من حديث الدكتور مصطفى محمود.
والحقيقة أنَّ الكلام السابق غير صحيح، وأنَّ أحسن صورة للإنسان هي تلك التي يحيا بها في الحياة الدنيا، فعن مفهوم الخِلقة في أحسن تقويم يقول ابن كثير رحمه الله عز وجل في تفسيره وقوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» سورة التين - الآية 4.
هذا هو المقسم عليه، أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سوى الأعضاء حسنها، «ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ»، أي إلى النَّار، قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد وغيرهم.
ثم بعد هذا الحُسن والنضارة مصيرهم إلى النَّار إن لم يطع الله ويتبع الرُّسل ولهذا قال: «إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ»، وقال بعضهم: «ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ»، أي إلى أرذل العمر، وروى هنا عن ابن عباس وعكرمة، حتى قال عكرمة من جمع القرآن لا يرد إلى أرذل العمر، واختار ذلك ابن جرير، ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك لأنَّ الهرم قد يُصيب بعضهم وإنما المراد ما ذكرناه كقوله تعالى: «وَٱلۡعَصۡرِ * إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ * إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ»، وقوله تعالى: «فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي غير مقطوع كما تقدَّم.
ونقول للدكتور مصطفى محمود:
إنه إذا كان من اللازم لكمال خِلقة السماء أن تكون بلا ثغرات أو نقاط ضعف، فإنه ليس من اللازم أن يكون الإنسان بلا ثغرات، فالإنسان والسماء ليسا من جنس واحد، وكل منهما مخلوق له خصائص وتركيب مُخالف للآخر.
والإنسان في حالته هذه في حالة توازن عجيب بين روحه وجسده، عقله وعواطفه، ضميره وغرائزه، حتى مشاعره لا بد أن تكون مزدوجة فهو يُحب ويكره، يرضى ويسخط، وفقدان أي جانب من هذه الجوانب يجعلنا أمام مخلوق آخَر تمامًا، فكيف يجعل الدكتور من مقتضيات كمال الإنسان أن يكون بلا غرائز.
إنَّ رفع الغرائز عن الإنسان والتي تُحقق له توازنه كفيلٌ بتغيير ذاتية الإنسان، وتغيير جميع العلاقات التي يدخل طرفًا فيها حتى علاقته مع خالقه، ولو كانت الغرائز - رغم عدم إشباعها بالحرام - ممَّا يشين الإنسان، فلماذا جعل الله عز وجل في الجنَّة ما تشتهي الأنفس، وما قيمة قطوف الجنَّة الدانية، وما قيمة الحور العين، ولحم الطير، وأنهار العسل واللبن المُصفى، وما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، والخمر التي يتلذذون بها دون أن تُغيب عقولهم أو تنفذ منهم، ما قيمة كل ذلك إذا كان الخلق الذي سنعيش به في الجنَّة في أحسن تقويم هو خلق روحاني مبرأ من الشهوات والغرائز.
وإذا كان التركيب الذي نعيش به في الدنيا يشيخ ويمرض ويتبول ويعرق فهي نقائص مؤقتة سيتم رفعها عن الإنسان، وسيصبح له جسد يُناسب الخلود، ولا يعلم ماهية هذه النشأة الأخرى إلا الله سبحانه وتعالى، وأعتقد أنه خير ما نختم به بحثنا هذا قول الله سبحانه وتعالى: «مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» صـدق الله العظـيم «الكهف - 51».
