المقدمة الثابتة لهذه السلسلة من المقالات :
" شهادات لا تحصي ولا تعد تكشف وتؤكد أن
الإخوان المسلمين هم من أنشئوا تنظيما سريا بين ضباط الجيش المصري هو نفسه ما سُمي
فيما بعد " تنظيم الضباط الأحرار " ، وحددوا أهدافه في الخلاص من
الملكية المستبدة الفاسدة والاحتلال الانجليزي ، وتحقيق مبدأ الوحدة الإسلامية بين
الدول الإسلامية من خلال التعاون وليس من خلال حكومة مركزية واحدة ، كما تكشف هذه
الشهادات كيف تحالف العسكر والإخوان المسلمون وأفراد من الشعب من أجل مصر وتحريرها
ونهضتها ، وسرعان ما تفكك التحالف بعد أن وصل العسكر للسلطة ، فاستبدلوا حب الوطن
بحب الدنيا ، واستبدلوا المودة مع شركاء العمل الوطني بالعداء السافر الذي لم
يظهروه تجاه إسرائيل نفسها ".
تسعة وعشرون : خالد محيي الدين يشهد بأن جمال
عبد الناصر دبر حادث المنشية للتخلص من الإخوان المسلمين .
جاء فى برنامج للجزيرة الفضائية تحت عنوان" حادث
المنشية الجزء الثاني" على لسان خالد محيي الدين وكان
واحدا من ضيوف البرنامج فى هذه الحلقة يقول:
" حادث المنشية تم تدبيره
من قبل عبد الناصر لعمل محاكمات لجماعة
الإخوان المسلمين عشان تعطي مبرر
للخلاص وتصفية جماعة الإخوان المسلمين ؟ ، طبعاً ما هو عشان يخلص على جماعة لازم
يعطيها إدانة ولازم يديها إدانة إن هي عايزة تقلب نظام الحكم وتقتل رئيس الجمهورية
في ميدان عام بالرصاص في هذا الحال أنت معافى أنك تدافع عن النفس فهو بهذا الشكل شال
عنه الحرج ".
وفي هذا
الشأن يتفق خالد محيي الدين مع رأي المؤرخ الدكتور / أحمد شلبي ، أستاذ التاريخ
والحضارة الإسلامية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ؛ والذي يقول في الجزء
التاسع من ( موسوعة التاريخ الإسلامي ) :
" رأيي الذي أدين به والذي كونته من دراسات وتفكير خلال ربع قرن منذ وقع
الحادث حتى كتابة هذه السطور ، هذا الرأي يتخذ دعامته من الأحداث والأقوال التالية
:
أولا : الدقة الشاملة في إعداد السرادق وتنظيم الذين يحتلون مقاعده ،
وقد سبق أن اقتبسنا كلمات إبراهيم الطحاوي الذي يقرر أن هيئاتٍ ثلاثًا كانت مكلفة
باحتلال مقاعد السرادق ؛ هي هيئة التحرير ، وعمال مديرية التحرير ، والحرس الوطني .
وهذا يوضح أنه لم يكن هناك مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليعتدي على جمال عبد
الناصر؛ فما كان الوصول إلى المقاعد أمرا ميسورا ، ولم يترك للجماهير إلا المقاعد
الخلفية النائية.
ثانيا : قضية الجنيهين اللذين تحدثت عنهما الصحف المصرية ،
وقالت : إنهما أُعطيا لمحمود عبد اللطيف لينفق منهما على أولاده وأسرته هي في
تقديري أسطورة لم يُجَدْ حبكها ؛ فالمبلغ الذي يقدم لمن هو فقير ويطلب منه أن يقدم
على هذه المغامرة لا بد أن يكون مبلغا ضخما يغري بالإقدام على هذا الجرم.
ثالثا : ثماني رصاصات تنطلق من مسدس يمسك به رجل مشهود له
بالدقة في إصابة الهدف ، ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف أو إصابة
أي شخص من الذين يحيطون بجمال عبد الناصر ، أو إصابة أي إنسان على الإطلاق.. هذا
في تقديري مستحيل !!
ثم إن المشرفين على السرادق سرعان ما طمأنوا الناس ودفعوهم
للهدوء ، ولو كانت هناك مؤامرة فعلا لانفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من
الرصاص ، ومما يتصل بالإصابات نذكر أن الإصابات القليلة التي حدثت كانت من زجاج
انكسر ، ربما من الزحام والجموع التي تحركت عقب الحادث ، ولم تكن هناك إصابات من
المسدس على الإطلاق .
رابعا : كانت المسافة بين المكان الذي قيل : إن محمود عبد
اللطيف أطلق منه النار وبين جمال عبد الناصر 300 متر ، وكان عبد الناصر على منصة
عالية ، وهذه المسافة وارتفاع الهدف يجعلان من المستحيل نجاح الخطة وإصابة الهدف ،
وبالتالي لا يقدم على هذا العمل جماعة لهم خبرات بالتخطيط والأمور العسكرية.
خامسا : من المعروف أن الإخوان المسلمين كانت عندهم ذخائر
ومدمرات هائلة ، ولو اتجهوا للاغتيال لكان هناك وسائل أخرى لتحقيق هدفهم ، ومن
المستحيل أن يقدموا على هذا العمل بمسدس لا يستعمل عادة إلا عند المسافات التي لا
تتجاوز أصابع اليدين من الأمتار ، وقد تحدثت الصحف آنذاك عن أسلحة ومفرقعات ضبطت
لدى بعض الإخوان بالإسكندرية كانت تكفي لنسف المدينة كلها.
سادسا : حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرا على الأقدام من
الإسكندرية إلى القاهرة حكاية ساذجة ننقدها من النقاط التالية :
1ـ كيف اتُّهم محمود عبد اللطيف قبل العثور على المسدس ؟ مع ملاحظة أن
المسدس الذي قيل : إنه وجد معه لم يستعمل ذاك المساء.
2ـ كيف أفلت المسدس المستعمل
من الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف ؟
3ـ لماذا لم يسلم النوبي المسدس لنيابة الإسكندرية ؟
4ـ لماذا جاء هذا الرجل سيرا على الأقدام طيلة هذا المسافة التي لا
تقطع عادة سيرا على الأقدام ؟
سابعا: يروي صلاح الشاهد أنه كان يقود سيارته مساء يوم 16 وسمع
جزءا من خطاب الرئيس من مذياع بالسيارة ثم سمع الطلقات ، فأسرع نحو بيت الرئيس
ليكون مع أولاده في هذه الأزمة ، ولم يجد صلاح الشاهد بالبيت اضطرابا أو ذعرا وأخذ
يداعب أولاد الرئيس الذين كانوا يلعبون ، وهذا يوحي لي بأن أسرة الرئيس كانت تعلم
سلفا بما سيجري ، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبد الناصر من
الإسكندرية .
وأضيف إلي ما سبق أن رغبة الرئيس جمال عبد الناصر وسعيه للخلاص من
الإخوان المسلمين لا تحتاج إلي دليل ، ورجحان تخطيطه وتدبيره لتحقيق هذه الغاية
مقدم علي استبعاده ، فالرئيس جمال عبد الناصر قضي علي الديمقراطية في مصر تماما
باستخدام الحيل والمكر السيئ ، كما قضي علي كافة الأحزاب والفصائل السياسية
والحركة العمالية ، بل قضي علي الكثير من الضباط الأحرار الذين شاركوا في ثورة
يوليو ونجاحها .
وعلي فرض أن أحد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين شرع في ارتكاب هذه
الجريمة السياسية بالفعل لأي أسباب في نفسه ، ففي أي شرع أو شريعة أو تشريع أن يتم
معاقبة فصيل سياسي كامل بسبب جريمة سياسية ارتكبها شخص ينتمي إلي هذا الفصيل ،
وعلي فرض أن له اعترافات علي غيره ، فمن بديهيات القانون أن اعتراف المتهم علي
نفسه حجة عليه ، أما اعترافه علي غيره فلا يعتد به ما لم تعضده أدلة أخري .
لعلنا نذكر إبراهيم ناصف الورداني المنتمي للحزب الوطني الذي أسسه
الزعيم مصطفي كامل ، عندما اغتال بطرس غالي رئيس الحكومة عام 1910م مبررا ذلك
باحتجاجه علي توليه رئاسة الحكومة في ظل الاحتلال الانجليزي ، وكونه كان رئيسا
لمحكمة دنشواي ، وموافقته علي اتفاقية الحكم الثنائي علي السودان عام 1899م التي
جعلت بريطانيا شريكا في حكم السودان ، بل الحاكم الفعلي للسودان ، وإعادته العمل
بقانون المطبوعات بقصد غلق كافة الصحف الوطنية في ظل سياسة الوفاق مع الانجليز ،
وموافقته علي مد امتياز قناة السويس أربعين سنة مقابل أربعة ملايين جنيه ، نقول أنه
رغم انتماء إبراهيم الورداني للحزب الوطني إلا أننا لم نقرأ في مراجع التاريخ أن
الانجليز أو الخديوي عباس حلمي الثاني قاموا بمحاكمة أعضاء الحزب الوطني أو
اعتقلوهم جميعا حتي تكدست بهم السجون .
ثلاثون : خالد محيي الدين يؤكد إعادة تأسيس تنظيم الضباط كان بنفس
التشكيل الذي أسسه الإخوان .
كما ذكرت لكم أن خالد محيي الدين وإن كان منصفا في توضيح دور الإخوان
في ثورة يوليو ، إلا أن في النفس أشياء كانت تؤثر عليه وتؤدي به إلي التحميل علي
الإخوان ومحاولة النيل من دورهم ونسبة أفضالهم لغيرهم ، وأبسط الأشياء الدالة علي
ذلك ، أن الشاهد / حسين حمودة الأستاذ بالكلية الحربية والعضو المؤسس في تنظيم
الضباط الأحرار منذ أسسه الإخوان شهد بأن التنظيم السري للضباط الذي أسسه الإخوان
استمر في العمل منذ عام 1943م حتي حرب فلسطين عام 1948م ، ثم توقف بسبب الحرب ،
وأضاف بأن جمال عبد الناصر أعاد تأسيس نفس التنظيم عام 1950م وأطلق عليه اسم تنظيم
الضباط الأحرار ، وصمم علي نسبته لنفسه وليس لجماعة الإخوان المسلمين .
بينما نجد خالد محيي الدين لا يستخدم عبارة إعادة تأسيس التنظيم ،
وإنما يطلق عليه الخلية الأولي ، وهو بالطبع يقصد من ذلك أن يفصل بين التنظيم بعد
إعادة التأسيس والتنظيم الأول الذي أسسه الإخوان وضموه إليه ، ومن ثم يستبعد دور
الإخوان وفضلهم في تأسيس التنظيم وتحديد أهدافه ، لكنني أعتقد أن هذه المحاولة
باءت بالفشل ، لأنه حين ذكر أسماء الضباط المشاركين في الخلية الأولي ، إنما ذكر
نفس أسماء الضباط الذين كانوا في التنظيم السري للضباط الذي أسسه الإخوان ، وعلي ذلك
يكون وصف حسين حمودة " إعادة تأسيس التنظيم " هو الذي يتفق مع الحقيقة
والواقع وليس وصف " الخلية الأولي " من تنظيم الضباط الأحرار .
يقول خالد محيي الدين :
انتهيت من الامتحان وسريعا اتصلت بجمال عبد الناصر وفي بيته
عقد الاجتماع الأول للخلية الأولى لتنظيم
الضباط الأحرار
بحضور جمال عبد الناصر ، وعبد المنعم عبد
الرؤوف ، وكمال الدين حسين ، وحسن إبراهيم ، وأنا وبدأ جمال بالحديث وقال : أنا معايا عبد الحكيم عامر ،
وأنتم طبعا عارفين لكنه لم يستطع الحضور
اليوم ، وتحدث طويلا عن مغزى مقابلته مع إبراهيم عبد الهادي
وكيف أنه أصبح من المحتم علينا أن نفعل
شيئا وأن ننظم أنفسنا ، وقال : كل واحد منا يشتغل ويحاول يكون مجموعة في سلاحه ، وهكذا
يمكن أن نصبح قوة منظمة وقادرة على فعل شيء.
إنها الخلية الأولى واجتماعها الأول في النصف الثاني من عام 1949 أقرر هذا
وأكرره لأن الكثيرين حاولوا تقديم روايات مختلفة فالمرحوم أنور السادات قال
برواية أخرى ..وآخرين أيضا.
ولست أريد أن أنفي عن هؤلاء أنهم كانوا يعملون في الجيش معنا أو حتى
قبلنا ، فلقد تمكن بعضهم من إقامة مجموعات منظمة في الجيش قبل الضباط الأحرار ولكنها
كانت شيئا غير الضباط الأحرار.
ومن هذه المجموعات كانت مجموعة جمال منصور
، وكانت تضم عددا من الضباط منهم مصطفى نصير ،
سعد عبد الحفيظ
عبد الفتاح ، أبو الفضل عبد
الحميد كفافي وآخرين ، وقد أصدرت هذه المجموعة عدة منشورات وانتهى الأمر بالقبض على
عدد منهم ، وبدأت في الجيش حملة واسعة لجمع تبرعات لأسر الضباط منهم مصطفى نصير سعد عبد
الحفيظ عبد الفتاح أبو الفضل عبد الحميد كفافي وآخرين ، هذه أحد العوامل المشجعة والمعبرة عن وجود حالة ثورية ووطنية
في صفوف الضباط ، ولعل واقعة جمع التبرعات للضباط المقبوض عليهم هي التي أوحت إلى عبد
الناصر بعد انتصار الثورة بصرف مرتب كل ضابط يلقي القبض عليه حتى لا يتيح
الفرصة لأي تحرك متعاطف معه.
وكانت هناك أيضا مجموعة "الحرس الحديدي" بزعامة مصطفى كمال
صدقي وقد ضمت عددا من الضباط منهم حسن فهمي عبد المجيد وخالد
فوزي وسيد جاد.
وحتى لا يساء فهم الأمور أود أن أوضح أن الملك كان في منتصف
الأربعينات لم يزل محبوبا من قطاعات من الجيش ، وكان البعض منهم يعتبر ولاءه للملك
هو جزء من ولائه لمصر وأنه يكمل عداءه للاستعمار ولعملاء الاستعمار ومن هنا فقد قام يوسف
رشاد بإقامة علاقة مع بعض الضباط ومنهم مصطفى كمال صدقي ومجموعته
المسماة الحرس الحديدي وكان القصر يحرك هذه المجموعة لارتكاب أعمال إرهابية ضد
خصومة السياسيين بحجة أنهم عملاء للاستعمار وفعلا قام الحرس الحديدي بأكثر من
محاولة لاغتيال النحاس باشا.
وكثيرا ما كان الملك يقدم نفسه لقطاع من الضباط بأنه وطني ويريد
تطهيرا لبلاد من عملاء الاستعمار ، وهكذا فإن مجموعة أخرى من الجيش هي مجموعة أنور
السادات وكانت تضم في أكثرها عناصر مدنية مثل حسين توفيق
وسعد كامل
وإبراهيم كامل
وغيرهم قامت باغتيال أمين عثمان احتجاجا
على قوله : إن العلاقات بين مصر وبريطانيا هي علاقة زواج كاثوليكي .
وقد أكد أنور السادات في مذكراته أنه كان على علاقة بيوسف رشاد
وأن رشاد هو الذي أعاده إلى الخدمة في
الجيش بعد فصله منه.
والحقيقة أنه كانت هناك تجمعات عديدة في الجيش
،
فقد لاحظنا مثلا في عام 1947 توزيع عدد من
المنشورات تحمل اسم "الجمعية العسكرية لاتحاد رجال البوليس والجيش" ، وكان
شعار هذه الجمعية يحمل طابعا رومانسيا وهو السعادة للجميع ، وكانت المنشورات تحمل
في بدايتها إرشادات وتحذيرات : "الكتمان سر النجاح" و "اقرأ سرا
أنت وزملاؤك" و "ويل للخائن" .
وهناك كذلك الفريق عزيز المصري
وكان شخصية مهيبة ومحترمة في صفوف الضباط ،
وكان يمثل نقطة إشعاع للعمل الوطني في الجيش لكنه لم يكن يؤمن بالعمل الجماعي
المنظم الذي يستهدف تحقيق تحرك جماهيري لتغيير الأوضاع بل كان يركز أساسا على "الاغتيال
الفردي".
وخلال محاولاتي المستمرة للبحث عن طريق كان من الطبيعي أن التقى بعزيز
المصري ، وقد رتب المقابلة أحد أقاربي وهو الأستاذ كمال
يعقوب ، وعندما جلست إلى عزيز المصري ، أحسست أنني أقترب من رجل يعشق الوطنية
ويتنفسها ويعيش من أجلها وكان حماسه دافقا وأفقه واسعا ، ولكنه كان متمترسا دون
أية رغبة في التزحزح عن فكرة الاغتيالات الفردية ، وقد كان ضابطا لفترة من الوقت
في الجيش التركي وأطلع على تجربة الحركة الوطنية البلغارية ، وأثرت فيه تأثيرا
حاسما ، وظل يردد أمامي ولمرات عديدة ودون ملل : نحن لن نستطيع أن نواجه الإنجليز
ولا أن نهزمهم فهم أكثر قوة وأحسن تسليحا لكننا نستطيع أن نقتل الخونة واحدا واحدا
فإن فعلنا ذلك خاف الناس من التعامل مع الإنجليز أو حتى الاقتراب منهم ولقد فعل
البلغار ذلك قتلوا الخونة واحدا بعد الآخر فلم يجرؤ أحد على التعامل مع الأتراك.
وظل عزيز المصري نقطة ارتكاز هامة يتطلع إليها كل ضابط وطني يريد أن يفعل شيئا من أجل مصر ،
ولكنه توقف عند حدود الإرهاب الفردي وتشبث
به ولا شك أنه قد أثر بأفكاره هذه علي الكثيرين ومنهم عبد الناصر وأنا
وكثيرون غيرنا.
ولعله من السهل الآن الحديث مطولا عن خطر اللجوء للإرهاب الفردي لكن
أعوام 1945 و 1946و 1947 شهدت
عديدا من هذه المحاولات لعل مبعثها هو ما أشار إليه عزيز المصري من صعوبة
المواجهة المباشرة أو حتى غير المباشرة مع الاحتلال ومن ثم فقد تصور البعض أن
بالإمكان ضرب الاحتلال من خلال ضرب أعوانه وإرهابهم ، أو أن بالإمكان تفجير
المشاعر الوطنية في الجماهير عن طريق سلسلة من الأعمال الإرهابية ضد الخونة وعملاء
الاستعمار.
قلت أنني قد تأثرت لفترة بفكرة الاغتيالات وبالفعل في عام 1946 حاولت
ربما في تردد أن أسهم في محاولة لاغتيال أحد المرشحين لعضوية مجلس الشيوخ لأنه
حاول الاستعانة بالإنجليز ضد الحكومة المصرية
، وقد حضر إلى حسن عزت
بحكم علاقة الصداقة القديمة وروي لي قصة
هذا الرجل وكيف أنه رشح نفسه في انتخابات مجلس الشيوخ عن دائرة بولاق ، ولما زار
اللورد ستنجست مصر توجه إليه هذا المرشح واشتكى له من أن الحكومة تحاربه في الانتخابات
وطلب تدخله لوقف الحكومة المصرية عند حدها.
واعتبرنا الرجل خائنا وأخذ حسن عزت
يلح علي في ضرورة التخلص منه ليكون عبرة
لكل الخونة ، ولست أخفي أنني احتقرت الرجل واحتقرت فعلته لكن الوازع الديني الكامن
دوما في أعماقي كان ينفرني من فكرة سفك دم إنسان مهما اختلفت معه وظل حسن عزت يلح علي
حتى قبلت وكان دوري في العملية يقتصر على أن أشتري سيارة وأن أقودها بينما يقوم هو
بعملية الاغتيال ثم يركب السيارة لأسرع بها هاربا.
اشتريت السيارة وذهبت أنا وحسن عزت
وانتظرت في السيارة مترقبا وصول الرجل كان
نوازع عديدة تعتصرني : وازعي الديني وأحاسيس الوطنية الدافقة ، والفهم المشوش وغير
المستقر لفكرة النضال الوطني ، واستمرت هذه الصراعات تعتصرني بينما الوقت يتحرك
بطيئا بل لعله لم يكن يتحرك أصلا ولكن الرجل لم يحضر وفشلت المحاولة.
ولعلها المرة الوحيدة التي سعد فيها سعادة غامرة لأنني فشلت في تحقيق
هدفي، والحقيقة أن عوامل الصراع النفسي العاصف التي حاصرتني وأنا قابع في السيارة
في انتظار الهدف قد حصنتني فيما بعد إزاء فكرة الاغتيالات وقررت أن أرفضها رفضا
مطلقا.
ولقد وقع عبد الناصر هو أيضا في ذات الخطأ في المحاولة الشهيرة لاغتيال حسين سري عامر، وقد
فشلت هذه المحاولة أيضا ، والحقيقة أن جمال قد قام بهذه العملية دون التشاور معنا
في تنظيم الضباط الأحرار ،
ولهذا وبعد أن فشلت العملية أثار صلاح سالم
هذا الموضوع في أول اجتماع عقدناه بعد
المحاولة الفاشلة وقد وجه صلاح سالم نقدا لاذعا لجمال عبد الناصر
بسبب قيامه بهذه العملية دون استئذان من
التنظيم أو حتى دون إخطاره وقال صلاح لنفرض أنكم قبض عليكم كنتم ستورطون التنظيم
بأكمله في عملية كهذه وكنت ستجهضون كل ما نريد أن نفعل وقد تقبل عبد الناصر النقد
وتعهد بعدم تكرار مثل هذا العمل.
وما دمنا نتحدث عن التكوينات المنظمة داخل الجيش فلابد أن نشير إلى أن
منظمة "حدتو" - الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني - كانت قد نجحت هي أيضا في إقامة تنظيم متكامل
داخل القوات المسلحة وكان أحمد فؤاد قد أصبح مسئولا عن هذا التنظيم.
وأذكر أنني التقيت في عام 1950 بأحمد
فؤاد وكان قد أصبح قاضيا وبادرني بسؤال مباشر كعادته : مش حنشوفك ؟ وبدأت
معه نقاشا مطولا حول تجربتي غير الناجحة مع أيسكرا
ومع الشخص الذي أوصلني به وهو الصحن وقلت :
لقد أثار الصحن مسائل متعلقة بالدين وأنا أريد أن أبدا أية علاقة جديدة أن أعرف
تحديدا وعلى وجه الدقة ما هو موقفكم من الدين.
وتحدث أحمد فؤاد حديثا طويلا عن احترامهم العميق للدين وقال : نحن نحترم الدين ولا
يمكن أن نمسه ، والذي قال لك عكس ذلك أحمق ولابد أن تعرف أن هذا الرجل قد بادر
بالفرار لدى أول ضربة بوليسية لكنه كان حريصا على أن يؤكد لي أيضا أنهم ضد استخدام
الدين ستارا لحركات سياسية أو لتحقيق أهداف سياسية ووافقته على ذلك.
وبعد أن استرحت من هذه الزاوية صارحته بأنني أسهم في قيادة تنظيم الضباط
الأحرار، واهتم أحمد فؤاد بهذا الخبر اهتماما كبيرا وطلب إلى أن أرتب له مقابلة مع جمال عبد
الناصر كقائد لهذا التنظيم.
وبالفعل دعوت عبد الناصر
إلى بيتي وعندما حضر كان فؤاد موجودا وبدأ أحمد
فؤاد في الحديث تكلم كثيرا عن الحاجة إلى عمل جماهيري لتصحيح الأوضاع
وتجاوب معه جمال عبد بشكل ملحوظ وعندما انتهت المقابلة سألني جمال عن الرجل فقلت
إنه مسئول في منظمة حدتو ،
وأبدى إعجابه الشديد به وقال : راجل كويس وكلامه كويس ومعقول ، ثم سألني فجأة : هل
رتبت هذا اللقاء عن عمد ؟ فقلت : نعم ولم يبد عبد الناصر
أية حساسية من التعامل مع الشيوعيين فقد
كنا أنا وهو نعتقد بأن الاتجاه الاشتراكي هو بالضرورة اتجاه قريب منا ومن حركتنا.
لكنني أقمت علاقة منفردة ومن نوع خاص مع أحمد فؤاد فقد بدأ
يمدني بعديد من الكتب وكذلك النشرات الحزبية واعتبرني على علاقة بحدتو ولكن
بصورة فردية ، وذلك لأنني كنت عضوا ف قيادة الضباط الأحرار
وهذا وضع حساس سواء من ناحية الأمن أو من
الناحية السياسية ، والحقيقة أنني كنت معجبا إعجابا خاصا بأحمد فؤاد وربما لو
أن أحدا غيره قد عاود الاتصال بي بعد تجربتي الأولى غير الناجحة لما استجبت له كما
أنني قد فضلت هذه العلاقة الفردية لأنني وجدت أنه من غير الملائم أن أكون أحد قادة
تنظيم الضباط الأحرار بينما أتلقى أوامر أو تعليمات تنظيمية من جماعة أخرى أو تنظيم آخر.
وقد ظلت علاقتي الفردية هذه الفترة من الوقت وأثمرت علاقة منظمة بين حدتو وتنظيم الضباط
الأحرار فقد عرض أحمد فؤاد فكرة انضمام ضباط حدتو لتنظيمنا ووافق عبد الناصر
لكنه اشترط كعادته أن ينضم الأعضاء فرادى
أي كأفراد وليس كمجموعة منظمة ، ولكي أكون واضحا فإن هذا الشرط كان شرطا دائما عند
عبد الناصر فعندما عرضت عليه فكرة التوحيد مع مجموعة جمال منصور رفض
مسألة التوحيد وأصر على أن ينضم أعضاء المجموعة فرادى إلى التنظيم وقبل جمال منصور ذلك كذلك
قبل أحمد فؤاد أو بالدقة قبلت حدتو .
وبدأ تنظيم الضباط الأحرار يفتح أبوابه للشيوعيين من أعضاء حدتو
، وانضم لنا عدد لا بأس به منهم ولن أستطيع أن أورد كل الأسماء ولا
حتى أكثرها فقط سأورد بعضا منها فقد انضم إلينا محمود المناسترلي ود/
محمود القويسني
وصلاح السحرتي
وجمال علام
وأمال المرصفي
وأحمد قدري
وغيرهم أما عثمان فوزي فقد كان
أحد مؤسسي مجموعة الضباط الأحرار في سلاح الفرسان واندمج هؤلاء الضباط في مجموعات التنظيم وأسهموا
إسهاما كبيرا في عملنا وخاصة في توزيع المنشورات بالبريد كذلك أسهمت حدتو فيما بعد
في طباعة منشورات الضباط الأحرار كما أسهم ضباطها إسهاما نشيطا وفاعلا معنا ليلة 23 يوليو.
واستمرت علاقتي مع أحمد فؤاد
وكان عبد الناصر
يلقى معنا لتناقش طويلا في التطورات
السياسية وموقفنا منها وازداد إعجاب جمال بأحمد فؤاد
لكنه لم يفكر أبدا في الانضمام لحدتو ليس بسبب
أية حساسية سياسية وإنما لأنه لم يكن يريد لمنظمته أن تخضع لأي تأثير من خارجها.
وأذكر أنني وجمال توجهنا يوما لزيارة أحمد فؤاد
في بيته ووجدنا عنده شخص قدمه لنا قائلا : الرفيق بدر وقد تحدث
حديثا سياسيا مبهرا سواء بالنسبة لي أو بالنسبة لجمال.
كانت هناك أحداث سياسية خطيرة (1951) سواء في مصر أو في سوريا حيث وقع انقلاب عسكري جديد وكانت الصورة مرتبكة أمامنا لكن بدر تحدث
ممتلكا لرؤية صافية تماما واستطاع أن يفسر لنا الأحداث تفسيرا مقنعا وملهما في آن
واحد.
انحنيت على أحمد فؤاد هامسا : مين ده ؟ وأجاب همسا : السكرتير العام.
وعندما نزلت من بيت أحمد فؤاد
كان عبد الناصر
لم يزل منبهرا بهذه الشخصية الغامضة
والواسعة الأفق وبينما نهبط السلم سألني : مين الرفيق بدر ده ؟
قلت : السكرتير العام للحركة الديمقراطية للتحرير الوطني...
فقال : بيشتغل أيه ؟
قلت: السكرتير العام...
وكرر السؤال لأكرر الإجابة أخيرا سألني بحدة : يعني كان بيشتغل أيه
قبل ما يبقى سكرتير عام ؟ وتذكرت أن عثمان فوزي
قد حدثني طويلا عن الرفيق بدر، وكيف أنه
كان قائدا لفرع منظمة "حدتو
وسط" ، ميكانيكي الطيران وكيف أنه وهو الميكانيكي استطاع أن يكون نفسه فكريا وسياسيا
ليصبح سياسيا وقائدا يستحق الإعجاب.
قلت في بساطة : ميكانيكي.
وصاح عبد الناصر: ميكانيكي ، يعمي أنت ممكن تبقى عضو في الحزب ده وتتلقى أوامر من
ميكانيكي؟
فقلت : المسألة مش مسألة أوامر وإنما هي مسألة اقتناع بفكرة.
لكن مسألة «الميكانيكي» هذه ظلت عالقة في ذهن عبد الناصر ، وظل يرددها دوما وأحيانا في تهكم وأحيان في
استنكار ، وحتى بعد الثورة وفي اجتماعات مجلس قيادة الثورة قال مرة مشيرا إلى : ده
زعيمه ميكانيكي.