الأحد، 15 سبتمبر 2024

انجازات قسطنطين العظيم ( ذو القرنين الحاكم الصالح ).

 #انجازات_قسطنطين_العظيم_ذو_القرنين_الحاكم_الصالح

عرضنا في المنشور السابق مختصر للأدلة التي ترجح رجحانا كبيرا أن الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم هو ذو القرنين الحاكم الصالح الذي أخبرنا الله عز وجل قصته في سورة الكهف موضحا لنا أنه كان مؤمنا ونصيرا للمؤمنين وسيفا مسلطا على الظالمين بقوله تعالى :

(  قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا (87) وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا (88) )

ومن يمدحه الله عز وجل لا يمكن أن يذمه الناس ، بل حتما سيمدحه الناس حتى لو كفروا بما جاء به ، فكما مدح الله عز وجل ذي القرنين، مدح الناس قسطنطين العظيم على مر التاريخ ، وها هو  ( ويل ديورانت ) المؤرخ العظيم يقول في موسوعته ( قصة الحضارة ) أن قسطنطين العظيم هو أعظم الأباطرة الرومان على الإطلاق.

وأما عن إنجازات قسطنطين العظيم فهي أيضا ترجح أنه ذو القرنين الحاكم الصالح الذي ينبغي أن يرجع الناس جميعا في كل أنحاء العالم لتاريخه ، ويدرسون سياساته ومعاملاته حتى يتعلموا منها كيف تُحكم الدول ، وكيف تُدار شئون الشعوب .

كانت الإمبراطورية الإغريقية قائمة في أكثر مراحلها التاريخية على الحكم الجبري المستبد ، وجاءت الإمبراطورية الرومانية من بعدها لتسير على ذات النهج وبدرجة أشد عنفا وقسوة. 

قبل قسطنطين وفي زمنه كان الأباطرة يضطهدون المسيحيين اضطهادا مروعا، ليس المسيحيين فقط، بل كل من يخرج عن الطاعة من الرعية، فخرج قسطنطين من بينهم كالزهرة التي تتفتح من بين فروع شجرة من الشوك.

يزعمون أن معاهدة وستفاليا تعد من بدايات الأعمال القانونية وحجر الأساس لنشأة القانون الدولي، وينسبون للثورة الإنجليزية والفرنسية والأمريكية الفضل في ظهور مفهوم الدولة المدنية الحديثة، لكن أحدا لم يعط قسطنطين حقه في إرساء قواعد الحكم الرشيد ، والذي نسميه في عصرنا الحاضر " الحكم الديمقراطي " أو بالمصطلح الإسلامي " حكم الشورى "، رغم أن السياسات التي اتخذها في هذا الشأن سابقة للثورة الفرنسة بنحو أربعة عشر قرنا.

لقد عايشت قسطنطين العظيم حتى فضلت أن يأتي الحديث عن انجازات قسطنطين على لسان قسطنطين نفسه، فتخيلته يقول عن انجازاته :

إن حياتي تكشف لكم أن الشورى أو الديمقراطية كانت ظاهرة واضحة المعالم فيما اتخذته من سياسات وما أصدرته من تشريعات وقرارات، وفيما يلي بعض مظاهر الديمقراطية الأساسية التي تجلت في سيرتي :

#أولا:  #قسطنطين_جاء_بإرادة_الشعب:

ذكرت لكم من قبل أن والدي قسطانطيوس كان حسن السيرة، وأنه كان الوحيد من أباطرة الحكم الرباعي للإمبراطورية الرومانية الذي لم يضطهد المسيحيين في منطقة نفوذه وأنه كان حسن المعاملة مع كل الرعية، وأنني سرت على نهج أبي، ولذا وبعد وفاة والدي، تمسكت الرعية بأن أتسلم الحكم بدلا منه.

يقول "يوسابيوس القيصري" - أبو التاريخ الكنسي في نظر جميع المؤرخين المسيحيين -

" وعلاوة على هذا فقد تملكته الرغبة في الاقتداء بأبيه، وهذا دفع الابن إلى السلوك في طريق الفضيلة، كان أبوه قسطانطيوس - وخليق بنا إحياء ذكراه الآن أبرز إمبراطور في عصرنا، حيث كان واحداً من بين أربعة أباطرة يشتركون معا في وقت واحد في إدارة شئون الإمبراطورية الرومانية، إلا أنه سلك طريقاً يخالف الطريق الذي سلكه زملاؤه و أصبح محباً لله العلي، فهم عندما حاصروا كنائس الله وأتلفوها وهدموها حتى الأساس، و أزالوا حتى أساسات بيوت العبادة، حفظ هو يديه طاهرتين دون أن تتلوثا بفجورهم البغيض، ولم يقتد بهم في أي ناحية من النواحي، لقد دنسوا أقطارهم بذبح النساء والرجال الأتقياء بكيفية شنيعة، أما هو فحفظ نفسه طاهراً من هذه الجرائم، لقد تورطوا في العبادة الوثنية الماجنة و دفعوا أنفسهم أولاً ثم كل الذين تحت سلطانهم في عبودية ضلالات الأرواح الشريرة، و أما هو فإنه في نفس الوقت بعث السلام التام في سائر أرجاء أقطاره و ضمن لرعاياه امتياز عبادة الله من دون عائق ".

كما قال يوحنا النقيوسي عن قسطانطيوس والد قسطنطين :

" أما قسطانطيوس والد (قسطنطين) الذي كان مشاركا له في الحكم في آسيا فلم يرتكب آثاما، وكان يحب الناس ويعاملهم بالحسنى، وكذلك أمر أن يُعلن قول البشير للمسيحيين في كل مكان تحت سلطانه ليمضوا مشيئة الرب الإله الواحد الحق، وكذلك أمر ألا يصنعوا بهم شراء ولا يُوقعوا بهم اضطهادا، ولا يسلبوا أموالهم، ولا يرهقوهم أي إرهاق، وأمر كذلك ألا يمنعوهم الخشوع والتبتل في الكنيسة المقدسة ليصلوا من أجله ومن أجل حكمه."

ويتابع يوحنا النقيوسي حديثه مؤكدا أن سلوك قسطنطين درب أبيه وانتهاجه نفس النهج أدى إلى محبة الناس لقسطنطين وتمسكهم به، حيث يقول :

" غير أن قسطانطيوس عبد الله الطيب الذكر الذي أكمل مسيرته بحكمة وتعقل المحبوب العادل، كان كل الناس يصلون من أجله، ويدعو له الكبار وكل الجنود والقادة، وهو الذي أسس مدينة بيزنطة، وسلك مسلكا حسنا في عدل، ثم مات وسار إلى الرب، وخلف ولدا صالحا هو قسطنطين حبيب الله الكبير المضيء بالحق المتألق، ونصبه ملكا متوليا بدله. وهذا العظيم المثلث السعيد (الطوباني) عمل لإرضاء الرب في كل وقت، وكان يحب كل الناس في مملكته، ويصنع الخير للجميع، وأتى كل أيام حكمه في تواضع وقوة وطهارة وكان عظيما أمام الرب الحي إلى الأبد، وامتدحه القادة وكل الجنود لأنه يغار غيرة طيبة للرب، وظهرت في أيامه وضاءة وحكمة مسيحيتين قوة وعدالة، وحب للناس وصبر، ولم يقبل لديه قول الهراطقة الخارجين فقط، بل جعل كل من كان تحت سلطانه يخضع للرب ولم يمارس شيئا من الظلم، وكذلك لم يصبر على ترك الكنائس التي تهدمت دون أن يبنيها ولم يترك كذلك شيئا يعوق عبادة الرب المقدسة المسيحية الذي كرس به ليصير ملكا في حسن وتواضع."

وهكذا يتضح لكم أن سيرتي في الحكم وطريقة وصولي للحكم تؤكد أن الحاكم الصالح حتما لابد أن يكون منتخبا ومرضيا عنه من الناس، أما الحاكم المستبد الذي يصل للحكم بقوة السلاح ومساندة الفاسدين المنافقين الانتهازيين الذين لا يعنيهم إلا تحقيق مصالح خاصة ولو على حساب قتل شعب بأكمله، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون مصدرا للخير والأمن والاستقرار.

ولاشك أن الإسلام هو من أرسى قاعدة اختيار الأمة للحاكم من خلال الشورى والبيعة، أي اختيار الناس له لما يجدونه فيه من خير ثم مبايعته على الحكم وفقا للمبادئ التي اتفقت عليها الأمة، وقد كانت في صدر الإسلام هي كتاب الله وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقد نقل الغرب هذا المبدأ عن المسلمين، وتم تطويره وابتكار وسيلة للتعبير الصحيح عن رأي الأمة واختيارها وهي ( الانتخاب )، بينما ظل المسلمون في جميع أرجاء العالم الإسلامي تحت وطأة الحكم الجبري المستبد.

#ثانيا:  #يحب_الشعب_ويسعى_لتحقيق_الخير_للناس.

كما رأينا، قال يوحنا النقيوسي عن قسطنطين :

" حبيب الله الكبير المضيء بالحق المتألق، ونصبه ملكا متوليا بدله. وهذا العظيم المثلث السعيد (الطوباني) عمل لإرضاء الرب في كل وقت، وكان يحب كل الناس في مملكته ويصنع الخير للجميع، وأتى كل أيام حكمه في تواضع وقوة وطهارة، وكان عظيما أمام الرب الحي إلى الأبد، وامتدحه القادة وكل الجنود لأنه يغار غيرة طيبة للرب، وظهرت في أيامه وضاءة وحكمة مسيحيتين قوة وعدالة، وحب للناس وصبر، ولم يقبل لديه قول الهراطقة الخارجين فقط، بل جعل كل من كان تحت سلطانه يخضع للرب، ولم يمارس شيئا من الظلم وكذلك لم يصبر على ترك الكنائس التي تهدمت دون أن يبنيها، ولم يترك كذلك شيئا يعوق عبادة الرب المقدسة المسيحية الذي كرس به ليصير ملكا في حسن وتواضع.

#ثالثا:  #أرسى_مبدأ_الدين_أساس_الحكم_والسياسة. 

يؤسفني أن أجد أنظمة حكم في دول مسيحية وأخرى في دول إسلامية كبرى تسعى بإصرار لتنحية الدين عن السياسة والحكم وكافة شئون الناس ، حتى أن بعضهم  أضاف نصوصا إلى دساتیرهم وتشريعاتهم مفادها : ( حظر مباشرة أي نشاط سياسي أو حزبي على أية مرجعية دينية أو أساس ديني )، بل وصل الأمر ببعض الحكام إلى وضع تشريعات جنائية لضمان إقصاء الدين ومن دانوا به وبأهميته لصلاح وإصلاح أحوال الناس .

الحمد لله الذي عافاني من ذلك، الحمد لله الذي جعلني عبدا صالحا مؤمنا بالله مسلما موحدا أؤمن بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله، وأعلنت رفضي لقانون إيمان نيقيا بعد أن أصدرته بنفسي، ذلك القانون الذي جعل من سيدنا عيسى إلها مساو لله عز وجل في جوهره وأزليته، واعتنقت المسيحية على مذهب آريوس الموحد، وتعمدت على يدي يوسابيوس النيقوميدي الموحد، وتعمدت فوق قبر لوكيانوس الموحد، وانتقلت إلى رحمة الله عز وجل وأنا لازلت في الملابس التي تعمدت بها على عقيدة التوحيد، أبغض المحرمات، وأرفض الظلم بكافة صوره، ولا أقف منه موقف المتفرج، وقد مكنني الله عز وجل في الأرض حتى تمكنت من رفع الاضطهاد عن المسيحيين وهم أصحاب ديانة سماوية بعد أن عانوا من اضطهاد الوثنيين لهم قرابة ثلاثمائة عاما، وأنشأت لهم الكنائس ، وهذا ما أكدته الموسوعة الحرة ويكبيديا بقولها :

من أشهر مشاريعه الإنشائية كنيسة القيامة في أورشليم، وكنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة الرسل المقدسة في القسطنطينية، وكنيسة القديس بطرس القديمة في روما، وقد بذل قسطنطين جهودًا كبيرة لإقامة الكاتدرائية على القمة التي استراح عليها القديس بطرس الدرجة أنها أثرت حتى على تصميم الكنيسة، مما جعل بناء الكاتدرائية يستغرق أكثر من ٣٠ ثلاثين عاما منذ تاريخ أمر قسطنطين ببنائها.

كما منعت تشغيل رجال الدين المسيحي في الوظائف العامة حتى يتفرغوا لمهمتهم المقدسة في تعليم الناس شئون دينهم، وأغدقت عليهم بالمال لمساعدتهم على أداء هذه الرسالة، وفرضت على المواطنين الوثنيين وعلى رجال الإمبراطورية أن يردوا للمسيحيين كل ما أخذ منهم من أموال أو عقارات وغير ذلك من الأعمال الخيرة كثير، ولمن أراد أن يستزيد فليقرأ الكتاب من جديد، ففيه كل أو معظم ما فعلته من أعمال خيرة.

والأهم من ذلك كله أنني - وكما ذكرت لكم أعلاه - كنت مسلما موحدا لله ، حيث انتهى بي المطاف بعد محاولة التوفيق بين مذهب آريوس الموحد الذي آمن بأنه " لا إله إلا الله عيسى رسول الله "، وألكسندروس وشماسه أثناسيوس الذين صمما على رفع سيدنا عيسى من حقيقته كبشر مخلوق إلى درجة الألوهية، كما صمما على إنزال الله المتفرد بالألوهية والكمال إلى درجة المخلوق في عقيدة لم يستطع المسيحيون أنفسهم أن يتحدوا عليها، حتى راح كل منهم يفهمها بالطريقة التي يستطيع تقبلها، فتعددت قوانين الإيمان و تنافرت، وفشلت المجامع المسكونية في توحيد هذه العقيدة على تصور واحد يقبله الجميع. وأعلنت قبولي لقانون إيمان آريوس الموحد في مناسبة عظيمة وأماكن مقدسة، ألا وهي افتتاح كنيسة القيامة في القدس لأعلن وأؤكد لكل الناس في زمني ومن بعدي أن كنيسة القيامة التي شيدتها في الأرض المباركة إنما هي كنيسة آريوسية مسلمة موحدة، وأصدرت قراراتي لجميع الكنائس بقبول آريوس وأنصاره وأتباعه في كنائسهم. وعندما رفضت كنيسة الإسكندرية بقيادة الأسقف الجديد " أثناسيوس " وثني الأصل الذي خلف ألكسندروس، وأصبح هو أسقف الإسكندرية، قمت على الفور باستدعاء آريوس إلى القسطنطينية لأعلن أن العاصمة الجديدة للإمبراطورية الرومانية قد أصبحت أيضا آريوسية موحدة شأنها كشأن كنيسة القيامة، لكن وللأسف الشديد استشهد آریوس قبل استلام عمله بأقل من يوم في حادث غامض رجح الكثيرون أنه قتل عمدا بطريق السم. وحسبي للتأكيد على أنني قد سلكت طريق الصلاح والفلاح أن أعيد عليكم رسالتي الخاصة بضلالة عبادة الأوثان والتي قلت فيها :

من قسطنطين الظافر إلى شعوب الأقطار الشرقية : 

" إن كل ما تتضمنه قوانين الطبيعة الثابتة يحمل لكل البشر فكرة شديدة عن بعد نظر العناية الإلهية وحكمتها، و لا يمكن لأي إنسان اتجه عقله في طريق المعرفة الحقيقية لطلب هذه الغاية أن يخامره أقل شك في أن مرئيات العقل السليم والمناظر الطبيعية نفسها تؤدي إلى معرفة الله بتأثير الفضيلة الحقيقية، ولهذا فإن العاقل لا يُدهش عندما يرى البشرية تتأثر بمشاعر مضادة لأن جمال الفضيلة يصبح بلا جدوى ولا يمكن إدراكه لو لم تظهر رذيلة "عبادة الأوثان " في الناحية المضادة لها، أي طريق الضلال والحماقة، و لذلك ترى الواحد يتوج بالجزاء الحسن، أما الآخر فيقتص منه الله العلى نفسه."

لقد أرسلت العديد من الرسائل إلى جهات مختلفة تكشف لكم عن طبيعتي، وتؤكد لكم أنني كنت مستغرقا بكل فكري ومشاعري في إرساء القيم الدينية الرفيعة، وأنني كنت أرى هذه القيم هي السبيل الأساسي لحل مشاكل الناس ورفع الظلم عنهم ليعيشوا حياة كريمة

آمنة، فلاشك عندي أنه لا سياسة نافعة ولا حكم رشيد بغير دين سماوي لم تطله يد العبث والتغيير بالحذف أو الإضافة، وفي هذا الشأن يقول المؤرخ المسيحي ساويرس بن المقفع :

" غدت المسيحية والديانات الأخرى داخل الإمبراطورية على قدم المساواة إن لم تفضل عليها، وأضحت دينا شرعيا، وأن لها بعد ثلاثة قرون أن تتنسم عبير الحرية، وساد الكنيسة سلام طالما إليه تاقت وقد هللت الكنيسة بهذه الفترة الجديدة التي توشك شمسها أن تبزغ، ولا أدل على ذلك مما عبر به يوسابيوس القيصري عن هذه الفرحة التي تملكت نفوس المسيحيين آنئذ بقوله : أخيرا أشرق نهار صحو جميل، لا يعكر صفوه غمام، وبأشعة نور سماوي أضاء في العالم كنائس المسيح، وحتى أولئك الذين ليسوا من جماعتنا لم يُحرموا من نعمة البركات، أو على الأقل من الانتفاع بمزاياها والتمتع بجزء من النعم التي أغدقها الرب علينا.

ويضيف يوسابيوس أن الإمبراطور خط بيمينه رسالة إلى سكان الإمبراطورية جمعاء يدين فيها الديانات السابقة ويمجد المسيحية، أورد فيها تقريرا عن الأخطاء الناجمة عن القول بتعدد الآلهة أو الشرك بالله، وبدأها بمقدمة عن الفضيلة والرذيلة، كما كتب لملك فارس رسالة تدور في نفس الإطار يقول فيها :

" إني كما تبرهن أعمالي أعترف بأقدس عقيدة، فهذه العبادة ذاتها تقودني إلى معرفة الرب القدوس، الذي بعونه وقوته أنهضت من الرقاد من أقاصي المحيط كل أمة في هذا العالم لتلمح الأمل في الأمان، وعليه فإن كل أولئك الذين يئنون تحت وطأة العبودية ويقاسون أعظم الويلات لأشد الطغاة قسوة قد بعثوا من جديد بفضل حكمي وإرسائي قواعد أسعد دولة.

هذا الرب وأنا على ركبتي جاث، إياه أستعيذ من هول دماء تلك الأضحيات، وإليه أبتهل أن يبدد رائحتها الكريهة المقيتة، ويطهر من الأراضي كل نار شيطانية، وما ذلك إلا لأن هذه الشعوذات الدنسة الرجسة بشعائرها المستهجنة، قد أوردت جل، لا بل كل أمم العالم الوثني ورد الهلاك فرب الكل السيد وهبها البركات ومن ثم لا يرضى جلاله ولا يسمح لقلة تعبث بها وتنحرف إرضاء الخاص الشهوات.

وليس للرب على الإنسان إلا نقاوة عقل، واستقامة روح، وهو بهذا المعيار يزن صالح الأعمال وفاضلها، فمسرة الله بكياسة من البشر واعتدال يحب الحليم، ويبغض اللئيم يبتهج بالإيمان، ومن الكفر يقتص، يهوي - يُسقط - بجبروته كل عات، ومن صلف كل متكبر ينتقم، وفي الدرك الأسفل يطيح بكل متعجرف غطريس، ولكنه يجزي المتضع، وبما استحق من جزاء يثيب، وبمثل هذا يمد الرب عونه بمملكة من العدل قائمة، ويدعمها ومليكها بسكينة السلام، وبعد يا أخي، فأنا على يقين بأني غير مخطئ في اعترافي بهذا الإله الواحد المبدع، الآب لكل الأشياء، الذي جافاه كثير من أسلافي مقودين بجنون الخطيئة مما جر عليهم رادع العقاب حتى راح ما تلاهم من أجيال يتندر بما حل بهم تحذيرا لمن تداعبه الرغبة في سلوك الدرب، ومن عداد هؤلاء واحد حدت به صاعقة العذاب فراح من هنا طريدا، وكانت أراضيكم له المنفى والمصير، وكان العار الذي لحق بسمعته مدعاة لذيوع صيت انتصاركم - يشير قسطنطين هنا إلى هزيمة الإمبراطور الروماني الطاغية فاليريان وأسره على يد الفرس ، وإنه لمن اليقين مناسبة طيبة حيث أضحى الانتقام الذي حل بكل أولئك على النحو الذي أوضحت بينا للجميع في عصرنا، ذلك أني قد عاينت نهاية أولئك الذين بكافر مراسيمهم ناكدوا عباد الرب، وبهذه النهاية وجب تقديم الشكر لله، فبعونه الفياض سعد بشر يرعون ناموسه المقدس بعد أن عاد من جديد هناء السلام، وعليه فإني لموقن بأن الأمور كافة قد اتخذت الوضع الأفضل الآمن، فإذا ما اتقى الناس وآمنوا وتمسكوا بناموس الرب ولميتفرقوا يقدسون ذاته تعطف الرب فآواهم إلى رحابه "

وما أجمل ما قاله عنه الأبوان ميشال أبرص وأنطوان عرب : 

" فكما أن المسيح يطرد من قطيعه كل القوى المتمردة، كذلك فعل قسطنطين، إذ أنه أخضع أعداء الإيمان المنظورين وقاد الناس إلى معرفة الله، لقد أصبح المعلم الذي يعلن ملكوت الله على الأرض، ويبشر بشريعة الحق، واعتبر قسطنطين نفسه المدافع عن كنيسة الله وعن نشر ديانته في كل أرجاء المملكة، وهو من ربط الدين بالدولة آخذا على عاتقه الدفاع عن كليهما....

بل في صفحات التاريخ المسيحي ما يؤكد أنني كنت أخبر الناس بأنني أنفذ مهام موكل بها من الله ، وقد أكد المؤرخ المسيحي ساويرس بن المقفع ذلك حين استعرض انجازاتي وذكر من بين ما ذكر أنني كنت أخبر المسيحيين أنني مبعوث العناية الإلهية، يقول ساويرس بن المقفع :

" لقد حرص قسطنطين طوال فترة حكمه التي امتدت ما يزيد على ربع قرن، أن لا يثير شكوك رعيته والتي تمثل جل إمبراطوريته بل ظل في نظر هؤلاء الرجل الذي وحد الإمبراطورية وأنقذها من ويلات الحروب الأهلية الطاحنة. حقيقة سمح للمسيحيين بممارسة طقوس عبادتهم، وأعاد إليهم أموالهم وأملاكهم المصادرة، وأباح لهم حرية إقامة كنائس جديدة، وإصلاح ما تهدم من دور العبادة تحت

وطأة الاضطهاد، وأعاد المنفيين، وأطلق سراح المسجونين.

وحقيقة أيضا أصدر أوامر بهدم عدد من المعابد في كيليكيا وفينيقيا، ولكن قسطنطين مع ذلك كله لم يذهب كما فعل سلفه دقلديانوس تجاه المسيحية، فلم يصدر ضد الديانات القديمة مرسوما عاما بالاضطهاد أو بهدم معابدهم في كل أنحاء الإمبراطورية، أو بإحراق كتبهم المقدسة، أو بسوق كهنتهم إلى العذاب زمرا، أو بتعقب جموعهم وحرمانهم من ممارسة الطقوس نحو أربابها، بل إن هذه المعابد التي هدمها، لم يكن ذلك بصفتها المخالفة للمسيحية، ولكن لأنها كانت قد أمست غير مناسبة للمنحى الديكتاتوري القيصري، بسبب إيمانها بالتعددية وكفرها بالواحدية.

لقد سعى قسطنطين إلى دعم إله المسيحيين، الذي لا يقبل معه إله آخر، وسعى هو إلى أن يجعل من نفسه ممثلا لهذا الإله الذي وحد كل الإمبراطورية تحت ظله، وسعى باسمه للقضاء على كل الديانات الأخرى، وتستر به في حربه ضد الفرس وغيرهم من أصحاب الديانات المخالفة.

وكان قسطنطين بارع الدعائية، أغرق الكنيسة في هباته وخيراته، وأغدق عليها من فيض أنعمه، ويبدي اهتمامه البالغ، بل وقلقه من أجل الانشقاقات التي تحدث في الكنيسة ، ويدعو لعقد المجامع كي تفصل في النزاع اللاهوتي، ويحمل الأساقفة على المركبات العامة، ويحمل الخزانة نفقات حلهم وترحالهم، ويشترك في مناقشاتهم، ويرسل إلى ملك فارس يحثه على حسن معاملة رعاياه من المسيحيين، فغدا بذلك في نظر الكنيسة راعيها وحاميها والملجاًل ها وملاذ.

ولقد كان بلاط قسطنطين أنموذجا حيا لسياسة الحلول الوسطى، يجمع أضداد الخلائق وشتى الفكر، فهناك المستشارون العسكريون والمدنيون كلهم من أصحاب الديانات المغايرة للمسيحية، وإلى جوارهم مستشاره الخاص لشئون الكنيسة هوسيوس أسقف قرطبة النيقي المتحمس.

وفي الناحية الأخرى يقف يوسابيوس النيقوميدي الآريوسي العنيد صاحب الحظوة لدى الإمبراطور بعد عودته من المنفى وبين هؤلاء وأولئك صديقه الحميم يوسابيوس القيصري رجل الفكر المعتدل.

وقد استطاع قسطنطين أن يوحي إلى هؤلاء جميعا أنه مبعوث الرب الذي عهد إليه بإدارة الإمبراطورية، وأن عليه أن يقود سفينها وسط الأنواء إلى شطآن النجاة، ولقد حاول قسطنطين الكثير، ونجح في أن يضع لخلفه أسس العلاقة بين الدولة والكنيسة، ولكن مشاكل الكنيسة وخلافاتها اللاهوتية كانت أشد تعقيدا مما توقع قسطنطين.

ولقد أعان الله الله قسطنطين بأمه هيلانة" والتي كانت مسئول بناء الكنائس، وفي هذا الصدد يحدثنا ويل ديورانت عن بنائها بتكليف منه لكنيسة القيامة في أورشليم وكنيسة بيت لحم التي بناها في المكان الذي ولد فيه المسيح ، ويقول ديورانت في موسوعة قصة الحضارة تحت عنوان ( قسطنطين والمسيحية) :

" ولقد كانت صلاته بأمه طيبة سعيدة بوجه عام، ويبدو أنها سافرت بتكليف منه إلى أورشليم ودمرت ذلك الهيكل الشائن، هيكل أفرديتي الذي بني، كما يقول البعض، فوق قبر المسيح المنقذ.

ويقول يوسابيوس إن الضريح المقدس ظهر للعين في ذلك المكان، وفيه الصليب بعينه الذي مات عليه المسيح، وأمر قسطنطين أن تشاد كنيسة الضريح المقدس (كنيسة القيامة) فوق القبر، وحفظت الآثار المعظمة في خزانة مقدسة خاصة. ومن ذلك الحين بدا العالم المسيحي يجمع مخلفات المسيح والقديسين ويعيدها، كما كان العالم الوثني في الأيام القديمة السابقة يعتز بجمع مخلفات حرب طروادة ويعظمها، وكما كانت روما نفسها تفخر بتمثال أثينا إلهة الحكمة حامية طروادة.

وقد غير العالم المسيحي مظهر هذه العبادة وجدد جوهرها كما يفعل الخلائق من أقدم العهود، وشادت هيلانة كنيسة صغيرة في بيت لحم في الموضع الذي تقول الرواية أن يسوع ولد فيه، وقامت في تواضع بخدمة الراهبات اللائي كن يقمن بالخدمة في هذه الكنيسة، ثم عادت إلى القسطنطينية لتموت بين ذراعي ولدها.

وقد أكد ويل ديورانت أن قسطنطين جعل الدين أساس كل شيء، حيث يقول : " ويبدو أن عقيدته المسيحية التي كانت في بدايتها خطة سياسية، قد استحالت بالتدريج إلى إيمان صحيح استمسك به بإخلاص، وأصبح أكثر المبشرين في دولته مثابرة على عمله، واضطهد الملاحدة اضطهاد المؤمن المخلص لدينه، وكان يعتمد على الله في كل خطوة يخطوها. وقد وهب الإمبراطورية الهرمة حياة جديدة بأن ربط بينها وبين دين فتي، ونظام قوي، ومبادئ أخلاقية جديدة وكان في عمله هذا أعظم حكمة من دقلديانوس. وبفضل معونته أضحت المسيحية دولة وديناً، وأمست هي القالب الذي صبت فيه الحياة الأدبية والفكر الأوربي مدى أربعة عشر قرنا، ولعل الكنيسة التي رأت أن تشكر له فضله عليها كانت محقة حين لقبته بأنه أعظم الأباطرة إذا استثنينا أغسطس وحده."

وإذا كان الله عز وجل قد خير ذو القرنين في اختيار طريقة التعامل مع بعض الظالمين في جهة الغرب التي وصل إليها، فاختار ذو القرنين أن يعاقب الظالمين ويعذبهم عذابا نكرا، بينما سوف يكافئ كل من يعمل عملا صالحا ويعمل على تيسير أمورهم ومعاونتهم على شئون حياتهم.

وهذا نفس ما فعلته حين خرجت المحاربة الظالمين في الشرق والغرب، ففي غرب الإمبراطورية الرومانية حاربت مكسنتيوس الظالم الذي أعاد اضطهاد المسيحيين، ودخلت روما وسط فرح سكانها، ورفعت عنهم الويلات التي ذاقوها على أيدي مكسنتيوس، بينما كلفت ليسينيوس زوج أختي بمحاربة مكسيميانوس طاغية الشرق الذي أعاد اضطهاد المسيحيين أيضا من جديد.

أما عن أسباب قتلي لشريكي في النصر وزوج أختي ليسينيوس فترجع إلى ردته إلى الوثنية ومخالفة مرسوم ميلانو وشروعه في اضطهاد وتعذيب المسيحيين، ولم أقدم على قتله إلا بعد إنذاره وعدم امتثاله الأوامري بوقف الاضطهاد، مما اضطرني في البداية إلى نفيه، لكنه وهو في المنفى أخذ يرتب للانقلاب والقضاء علي، فلم يجعل أمامي خيارا سوى توقيع عقوبة الخيانة عليه خيانة رئيسه وخيانة الشعب والدولة.

وقد شاء الله عز وجل أن يهبني النصر على كل الحكام الطغاة الظالمين المتغلبين على شعوب الإمبراطورية، ليسود السلام والاطمئنان والهدوء والسكينة جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية ويهنأ المسيحيون أصحاب الديانة السماوية بالسلام والأمان الذي حرموا منه قرابة ثلاثة قرون. وقد قرأتم كيف فرح الناس في كامل الإمبراطورية الرومانية بانتصاري على الطغاة، وكيف تم استقبالي استقبالا حافلا في روما، هذه مجرد مقتطفات، ويمكن لكم الرجوع إلى ما أرسلته لكم من قبل في هذا الكتاب.

وأريدكم أن تنتبهوا إلى أنني قد ألغيت العملات المتداولة في جميع أرجاء الإمبراطورية للتخلص من الرسومات الوثنية على العملات القائمة، فهذه المعلومة في غاية الأهمية وسنحتاجها بشدة في القريب العاجل، بل وكما قرأتم من قبل كان من أسباب بنائي لمدينتي القسطنطينية روما الجديدة هو التخلص من الطابع الوثني لروما القديمة والتي كثرت فيها تماثيل الآلهة المزعومة، وكثر فيها الوثنيون فأردت أن أبني كنيسة كبرى، وكثير من الكنائس الموحدة ليصيح طابع مدينة القسطنطينية هو المسيحية الحقة (الإسلام) والتي كان يمثلها ويعبر عنها آريوس الموحد وشيعته ممن يفهمون فهمه ويرتضونه، ذلك الفهم الذي لم يختلف عما جاء به الإسلام - الرسالة الخاتمة - التي أنزلها الله عز وجل على نبيه ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وما كان إصداري لعملات معدنية جديدة ما بين برونزية وذهبية إلا لسببين، الأول : السبب الاقتصادي وهو مواجهة التضخم الذي أصاب مواطني الإمبراطورية

في ظل العملات القديمة، والثاني هو إزالة آثار الوثنية وصورها من على وجهي العملات القديمة لأخفيها عن أعين الناس.

ويقول ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة في الإطار السابق : 

" ولما توطدت دعائم قوته أخذ يجهر تدريجياً بمحاباة المسيحية، فمحا بعد عام ٣١٧ م من نقوده واحدة بعد واحدة ما كان على وجهها من صور وثنية، ولم يحل عام ۳۲۳ م حتى كان كل ما عليها من الرسوم نقوشاً محايدة لا هي مسيحية ولا وثنية. ومن المراسيم القانونية الباقية من عهده مرسوم مشكوك فيه ولكنه لم يثبت كذبه يخول الأساقفة المسيحيين حق الفصل فيما يقوم في أبرشياتهم من منازعات قضائية، وأصدر قوانين أخرى تعفي أملاك الكنيسة من الضرائب العقارية ، وجعل الجماعات المسيحية شخصيات معنوية قضائية، وأجاز لها امتلاك الأرض وقبول الهبات وجعل الكنيسة هي الوارثة لأملاك الشهداء الذين لم يعقبوا ذرية.

وكذلك وهب أموالاً إلى المجامع الدينية المحتاجة إليها، وشاد عدداً من الكنائس في القسطنطينية وغيرها من المدن، وحرّم عبادة الأوثان في عاصمته الجديدة... وربي أبناءه تربية مسيحية سليمة، وأعان بالمال أعمال البر المسيحية التي كانت تقوم بها أمه، وابتهجت الكنيسة بهذه النعم التي فاقت كل ما كانت تتوقعه وكتب يوسابيوس صحائف كانت في واقع الأمر عقود مدح لقسطنطين وإقراراً بفضله، واحتشد المسيحيون في جميع أنحاء الإمبراطورية ليعبروا عن شكرهم لانتصار إلههم."

وإني لأتعجب أن أجد حكام مصر المسلمين يسعون بكل قوتهم لإعلاء الحضارة الفرعونية ويقيمون مبانيهم على شاكلة المباني الفرعونية، في الوقت الذي يسعون فيه إلى تهميش الإسلام ووصفه ووصف المسلمين بالإرهاب، إنهم يسيرون في الاتجاه المعاكس الذي اخترته عن قناعة كاملة، فأنا أؤمن أن البناء الحقيقي هو بناء الإنسان على أسس دينية وأخلاقية وفكرية وعلمية سليمة، وليس من خلال بناء مباني تحاكي في شكلها أبنية الفراعنة أو حتى الإغريق أو الرومان. ولو أنهم قرأوا كتاب ( صدام الحضارات ) لفهموا الفرق بين الحضارات التي ماتت ودفنت كالفرعونية والإغريقية والرومانية والصينية القديمة والهندية القديمة ، والحضارات التي لازالت على قيد الحياة ، كالحضارة الغربية والإسلامية والصينية الحديثة واليابانية الحديثة والأرثوذكسية إلخ.

#رابعا:  #القضاء_على_الانقسامات_والفتن_بين_الناس

لعلكم تذكرون كيف وفقني الله عز وجل في القضاء على الانقسام والفتن بين الرومان الوثنيين والمسيحيين، ووفقني في وقف الاضطهاد الروماني الوثني لهم والذي لم يسبق له مثيل من قبل.

كما تذكرون ما قمت به لحل الانقسام المسيحي المسيحي، لقد كان المسيحيون قبلي في حالة من التيه، فاستطعت بفضل الله عز وجل ومن خلال مجمع نيقيا" حصر الخلاف في فريقين ، الأول يقول بألوهية المسيح ، والثاني يقول بأن المسيح بشر وأنه مجرد رسول من رسل الله ، إلا أنه من المكرمين أصحاب الدرجات الرفيعة، وإنني وإن كنت قد أيدت في المجمع فريق كنيسة الإسكندرية القائل بالألوهية، إلا أنني رجعت لأؤيد فريق الموحدين - آريوس وشيعته - بكل ما أوتيت من قوة، لأكون بذلك قد وصلت بالمسيحيين إلى أفضل الأحوال.

وفيما يلى أعرض عليكم بعض ما قاله ويل ديورانت - عن الخلافات بين المسيحيين في أمور العقيدة في حقبة ما قبل قسطنطين - في موسوعته " قصة الحضارة " تحت عنوان ( تنظيم السلطة الدينية) :

" وكان "سلس" نفسه قد قال ساخراً : " إن المسيحيين" تفرقوا شيعاً كثيرة، حتى أصبح هم كل فرد منهم أن يكون لنفسه حزباً ، " واستطاع إيرينيوس أن يحصي في عام ١٨٧م عشرين شيعة مختلفة من المسيحيين، وأحصى إيفانيوس في عام ٢٨٤م ثمانين، وكانت الأفكار الأجنبية تتسرب إلى العقيدة المسيحية في كل نقطة من نقاطها، وأخذ المؤمنون المسيحيون ينضمون إلى هذه الشيع الجديدة. وأحست الكنيسة أن عصر شبابها التجريبي يوشك أن ينتهي، وأن نضجها سيحل بعد قليل، وأن عليها أن تحدد مبادئها، وأن تعلن على الناس شروط العضوية فيه، وكان لابد لذلك من ثلاث خطوات ليست فيها واحدة سهلة : وضع قانون عام مستمد من الكتاب المقدس وتحديد العقائد، وتنظيم السلطة.

وتفيض الآداب المسيحية في القرن الثاني بالأناجيل، والرسائل، والرؤى، والأعمال، ويختلف المسيحيون أشد الاختلاف من حيث قبولهم هذه الكتابات على أنها تعبير صادق عن العقيدة المسيحية أو رفضها، فقد قبلت الكنائس الغربية مثلاً سفر الرؤيا، أما الكنيسة الشرقية فهي بوجه عام ترفضه. وهذه الكنائس الشرقية تعترف برسائل يعقوب، أما الكنيسة الغربية فترفضهما.

ويذكر كلمنت الإسكندري ضمن الكتب المقدسة رسالة كتبت في أواخر القرن الأول الميلادي اسمها تعاليم الرسل الاثني عشر.

ولما نشر مرسيون عهداً جديداً اضطرت الكنيسة إلى العمل لتحديد ما تعترف به وما لا تعترف به من الأناجيل، ولسنا نعرف متى حددت أسفار العهد الجديد التي نعرفها الآن واعترف بها أي اعترف بصحة نسبتها لأصحابها وبأنها موحى إليهم بها، وكل ما نستطيع أن

نقوله واثقين أن هتامة لاتينية كشفها مراتوري Muratori في عام ١٧٤٠م وسميت باسمه ، ويرجع الباحثون تاريخها إلى عام ۱۸۰م تقريباً ويُفترض على ضوئها أن التحديد تم قبل ذلك الوقت.

وتكرر اجتماع المجالس والمجامع الكنسية تكراراً متزايداً في القرن الثاني، واقتصرت في القرن الثالث على الأساقفة، وقبل أن يختتم ذلك القرن اعترف بأن هذه المجالس هي الفيصل الأخير في العقيدة المسيحية الكاثوليكية أي العامة، وتغلب الدين القويم - على حد قول ديورانت - على البدع الدينية لأنه أشبع حاجة الناس إلى عقيدة محددة تخفف من حدة النزاع وتهدئ الشكوك، لأنه كان مؤيداً بسلطان الكنيسة.

وكانت مشكلة التنظيم تنحصر في تحديد مركز هذا السلطان، فقد يبدو أن المجامع الدينية المتفرقة، بعد أن ضعف سلطان الكنيسة الأصلية في أورشليم، أخذت تمارس السلطات مستقلة عن هذه الكنيسة وعن بعضها بعضاً، إلا إذا أنشأتها جماعات أخرى أو كانت تحت حماية هذه الجماعات.

ومن جهة أخرى كانت كنيسة روما تدعي أن الذي أنشأها هو الرسول بطرس، وتستشهد بقول عيسى : " أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات " لكن بعضهم يقول إن هذه العبارة مدسوسة عليه، وإنها تورية لا يلجأ إليها إلا شكسبير، غير أنه يحتمل مع هذا أن بطرس، إن لم يكن هو الذي أوجد الجالية المسيحية في روما، كان يعظها ويخطب فيها، وأنه عين لها أسقفها.

وقد كتب إيرنيو يقول إن بطرس: "عهد" إلى لينس Linus بمنصب الأسقفية، ويؤيد ترتليان هذه الرواية، ويهيب سبريان أسقف قرطاجنة المنافسة الكبرى لروما بجميع المسيحيين أن يقبلوا زعامة كرسي الأسقفية.

ولم يترك الأساقفة الأولون الذين تربعوا على عرش بطرس أثراً في التاريخ، ويبرز من بينهم ثالثهم البابا كلمنت مؤلف رسالة باقية إلى الآن أرسلها حوالي عام ٩٦م إلى كنيسة كورنثة يدعو أعضاءها إلى نبذ الشقاق والمحافظة على النظام، وهذه الرسالة يتحدث فيها أسقف روما بعد جيل واحد من موت بطرس إلى مجمع ديني بعيد حديث من له سلطان عليه.

ومما ساعدني على تحقيق التقدم على جميع المستويات أنني تلقيت تعليما رسميًا في بلاط دقلديانوس، حيث تعلمت الأدب اللاتيني واللغة اليونانية والفلسفة، كذلك كانت البيئة الثقافية في نيقوميديا مفتوحة ومليئة ومتحركة اجتماعياً، وكان في إمكان قسطنطين أن يختلط مع المثقفين الوثنيين والمسيحيين.

بدأت توسعًا كبيرًا في ترير، وعززت سور الدائرة حول المدينة بأبراج عسكرية وبوابات محصنة، وبدأت ببناء مجمع قصر في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة إلى الجنوب من قصره، أمرت ببناء قاعة جمهور رسمية كبيرة وحمام امبراطوري ضخم، رعى العديد من مشاريع البناء في جميع أنحاء بلاد الغال خلال فترة ولايته كإمبراطور للغرب، وخاصة في أوغسطونوم أوتون وأرلاتي آرل.

عندما كان قسطنطين لا يكون في حملة عسكرية، كان يقوم بجولة في أراضيه ناشرا خيره ودعمه للاقتصاد والفنون قمت بإكمال مشاريع ماكسينتيوس، حيث قمت بتكبير مسرح السيرك العظيم ٢٥ مرة أكبر من مما فعله ماكسينتيوس في تكبير طريق أبيا .

قمت بحل قوات ماكسينتيوس البريتورية، كما قمت بحل الحرس البريتوري وحرس الخيالة الإمبراطوري، وحطمت تماثيل حرس الخيالة الإمبراطوري وتم حملها إلى البازيليك عبر طريق لابيكانا، حيث هناك شرعت في إعادة إنشاء بازيليك القديس يوحنا اللاتراني في 9 نوفمبر ۳۱۲م، بعد إسبوعين فقط من أخذه المدينة . قمت بإلغاء فيلق بارثيا الثاني من ألبانو لاتسيالي، كما أمرت بنقل بقايا جيش ماكسينتيوس إلى حدود الراين.

وهذا يكشف الفوارق الكبيرة بين الحاكم الصالح والحكام المستبدين الذين نعاني منهم الآن، فالحاكم الصالح ليس لصا ولا سفاحا لا يعنيه سوى فرض القيود على الرعية حتى يتمكن من سلب ما عسى أن يوجد لديهم من ممتلكات مادية، وها أنا أعترف عليهم دون تردد التحقيق كافة احتياجاتهم.

وخففت من نير الاستبداد بقراراتي الرحيمة، وناصرت الآداب والفنون الراقية التي تحترم القيم الدينية، وشجعت مدارس أثينا، وأنشأت جامعة جديدة في القسطنطينية، كان فيها أساتذة يحصلون على رواتبهم من قبل الدولة، ويعلمون اللغتين اليونانية واللاتينية، والآداب والفلسفة، والبلاغة والقانون ويدربون الموظفين الذين تحتاجهم الإمبراطورية. وأيدت ما كان للأطباء والمدرسين في جميع الولايات من امتيازات ووسعت نطاقها، وأمرت الحكام أن ينشئوا في ولاياتهم مدارس للعمارة، وأن يستجلبوا الطلاب إليها بمختلف الامتيازات والمكافآت، وأعفيت الفنانين من الواجبات المفروضة على غيرهم من المدنيين حتى يوفر لهم ما يكفي من الوقت لإتقان فنهم وتعليمه لأبنائهم. وقد استعنت بالكنوز الفنية في جميع أنحاء الإمبراطورية على تجميل القسطنطينية العاصمة الجديدة.

#ثامنا: #قسطنطين_ينحي_الجيش_عن_الحكم_والحياة_المدنية.

كإمبراطور " قمت بسن النظم الإدارية، والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لتحقيق نهضة الإمبراطورية، وأعدت تأسيس الولايات الإمبراطورية، وفصلت بين سلطات النظام العسكري والنظام المدني.

فقد كنت أعلم عواقب هيمنة الجيوش على الدول والإمبراطوريات من واقع التاريخ الطويل للإمبراطورية الإغريقية، ثم مما حدث في ظل الأباطرة الرومان السابقين لي، ومن ثم كنت مصمما على تنحية الجيش الروماني وقادته عن الحياة المدنية والتي اعتادوا أن ينظروا لها على أنها غنيمة ينبغي أن يستغلوا أسلحتهم للهيمنة على الشعب والسطو عليها.

وقد كان الضباط والجنود يهيمنون على الحكم في ظل الإمبراطورية الرومانية، كما كان الحال في ظل الإمبراطورية الإغريقية من خلال ما يسميه الرومان القائد البرايتوري باللاتينية praefectus‏ بريتوريو.

والقائد البرايتوري هو منصب شديد الأهمية في الإمبراطورية الرومانية، كان يتولى صاحبه بالأصل قيادة الحرس الإمبراطوري، قبل أن يتطور المنصب لتتضمن مسؤولياته صلاحيات قانونية وإدارية عالية جداً، وليصبح القائد البرايتوري أحد أهم مساعدي الإمبراطور. 

قمت بتجريد القائد البرايتوري من العديد من صلاحياته في عهدي، وحولت المنصب ذاته من سلطة عسكرية هائلة إلى منصب مدني إداري بحت. وفي الفترة اللاحقة لعهدي، ظهرت تقسيمات إدارية جديدة للدولة سميت الولايات الإمبراطورية، وأصبح القائد البرايتوري السلطة العليا المسؤولة عن إدارة هذه الولايات، فبات أشبه برئيس وزراء الدولة.

ظل الأباطرة الرومان ينصبون القادة البرايتورتين لتولي هذه المهام حتى عهد هرقل، عندما أجريت تغييرات عديدة في نظام الحكم سحبت من القادة البرايتوريين معظم صلاحياتهم ليصبحوا أشبه بمراقبين على كيفية إدارة ولايات الإمبراطورية.

اختفى آخر أثر لهذا المنصب في الإمبراطورية البيزنطية بحلول عام ٨٥٠م، بينما اندثر في الإمبراطورية الرومانية الغربية مع زوالها بنهاية القرن الخامس الميلادي ."

واستحدث قسطنطين بعد ذلك منصب قائد الجنود، قائد الجنود باللاتينية Magister - ماجيستر میلیتوم" هي أعلى رتبة عسكرية في العهد المتأخر للإمبراطورية الرومانية، بدءاً من فترة حكم قسطنطين الأول وحتى انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية . كان قائد الجنود هو ثاني أعلى سلطة عسكرية بكامل الإمبراطورية بعد الإمبراطور ذاته وأحد أعلى السلطات في الإمبراطورية بأكملها.

بدأ العمل بمنصب قائد الجنود في روما القديمة لأول مرة خلال القرن الرابع الميلادي عندما قرر الإمبراطور قسطنطين الأول تجريد القائد البرايتوري " قائد الحرس الإمبراطوري" وأحد أعلى السلطات في الإمبراطورية من كافة صلاحياته العسكرية، وبالتالي وزعت هذه الصلاحيات على منصبين جديدين أحدهما يقود الجنود المشاة بالجيش ويُسمى قائد والآخر ،" Magister peditum " المشاة الفرسان - منذ عهد الجمهورية الرومانية، حيث كان قائد الفرسان ثاني أعلى سلطة بعد الدكتاتور الروماني.

وبعد عهدي، ظهرت إصدارات مصغرة من منصب قائد الجنود، حيث أصبح هناك قائد جنود لكل منطقة أو ولاية بالإمبراطورية : فكان هناك قائد جنود لولاية الغال وولاية إيطاليا وولاية إليريكم وولاية الشرق وكذلك في أبرشية ثراسيا وأحيانا أبرشية أفريقيا. وفي الأيام المتأخرة للرومان بدأوا بخسارة مقاطعاتهم الشرقية أمام الفتوحات الإسلامية بمنتصف القرن السابع الميلادي، مما أدى إلى تجمع القادة العسكريين للجيوش الرومانية المتبقية بتلك المناطق واتحادها بمؤسسات سميت مقاطعات الثيمات.

ولعل من أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية هو ما درجت عليه في الأيام الأخيرة للإمبراطورية من تنصيب قائد عسكري أعلى Magister utriusquare militiae ، حيث يكتسب هذا القائد نفوذاً هائلاً في الدولة يجعل منه السلطة الحقيقية بالإمبراطورية عوضاً عن الإمبراطور ذاته، وما من حقبة هيمنت فيها الجيوش إلا كانت . هي مرحلة الشيخوخة في عمر الدولة والتي يعقبها الوفاة والنهاية.

وهنا نسأل من حكم العالم ، وكان مؤمنا بديانة سماوية وموحدا لله عز وجل ، ورافضا لأي صورة من صور الشرك به ، ونصيرا للمؤمنين وسيفا على الظالمين ، يحكم بالعدل ، ويقضي كل وقته للقضاء على الفتن بين رعيته والتي شملت أجناس وأديان ولغات ومعتقدات مختلفة ، وينفق ببذخ على رفاهية الناس ويكفل لهم الحياة الآمنة المستقرة وغير ذلك كثير مما بستدعي قراءة كتاب ( قسطنطين العظيم إمبراطور التوحيد الإسلامي ذو القرنين) والذي أصدرته ونشرته دار نشر كتبنا .

وقد تصادف أن يأتي نشر هذا الموضوع في يوم مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنا أستمع ـ وأثناء إعداده للنشر ـ لأصوات الأطفال والزمامير التي يعبرون بها عن سعادتهم بهذه المناسبة .

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وجميع الرسل والنبيين وعلى اله وصحبه اجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق