الأحد، 15 سبتمبر 2024

انجازات قسطنطين العظيم ( ذو القرنين الحاكم الصالح ).

 #انجازات_قسطنطين_العظيم_ذو_القرنين_الحاكم_الصالح

عرضنا في المنشور السابق مختصر للأدلة التي ترجح رجحانا كبيرا أن الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم هو ذو القرنين الحاكم الصالح الذي أخبرنا الله عز وجل قصته في سورة الكهف موضحا لنا أنه كان مؤمنا ونصيرا للمؤمنين وسيفا مسلطا على الظالمين بقوله تعالى :

(  قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا (87) وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا (88) )

ومن يمدحه الله عز وجل لا يمكن أن يذمه الناس ، بل حتما سيمدحه الناس حتى لو كفروا بما جاء به ، فكما مدح الله عز وجل ذي القرنين، مدح الناس قسطنطين العظيم على مر التاريخ ، وها هو  ( ويل ديورانت ) المؤرخ العظيم يقول في موسوعته ( قصة الحضارة ) أن قسطنطين العظيم هو أعظم الأباطرة الرومان على الإطلاق.

وأما عن إنجازات قسطنطين العظيم فهي أيضا ترجح أنه ذو القرنين الحاكم الصالح الذي ينبغي أن يرجع الناس جميعا في كل أنحاء العالم لتاريخه ، ويدرسون سياساته ومعاملاته حتى يتعلموا منها كيف تُحكم الدول ، وكيف تُدار شئون الشعوب .

كانت الإمبراطورية الإغريقية قائمة في أكثر مراحلها التاريخية على الحكم الجبري المستبد ، وجاءت الإمبراطورية الرومانية من بعدها لتسير على ذات النهج وبدرجة أشد عنفا وقسوة. 

قبل قسطنطين وفي زمنه كان الأباطرة يضطهدون المسيحيين اضطهادا مروعا، ليس المسيحيين فقط، بل كل من يخرج عن الطاعة من الرعية، فخرج قسطنطين من بينهم كالزهرة التي تتفتح من بين فروع شجرة من الشوك.

يزعمون أن معاهدة وستفاليا تعد من بدايات الأعمال القانونية وحجر الأساس لنشأة القانون الدولي، وينسبون للثورة الإنجليزية والفرنسية والأمريكية الفضل في ظهور مفهوم الدولة المدنية الحديثة، لكن أحدا لم يعط قسطنطين حقه في إرساء قواعد الحكم الرشيد ، والذي نسميه في عصرنا الحاضر " الحكم الديمقراطي " أو بالمصطلح الإسلامي " حكم الشورى "، رغم أن السياسات التي اتخذها في هذا الشأن سابقة للثورة الفرنسة بنحو أربعة عشر قرنا.

لقد عايشت قسطنطين العظيم حتى فضلت أن يأتي الحديث عن انجازات قسطنطين على لسان قسطنطين نفسه، فتخيلته يقول عن انجازاته :

إن حياتي تكشف لكم أن الشورى أو الديمقراطية كانت ظاهرة واضحة المعالم فيما اتخذته من سياسات وما أصدرته من تشريعات وقرارات، وفيما يلي بعض مظاهر الديمقراطية الأساسية التي تجلت في سيرتي :

#أولا:  #قسطنطين_جاء_بإرادة_الشعب:

ذكرت لكم من قبل أن والدي قسطانطيوس كان حسن السيرة، وأنه كان الوحيد من أباطرة الحكم الرباعي للإمبراطورية الرومانية الذي لم يضطهد المسيحيين في منطقة نفوذه وأنه كان حسن المعاملة مع كل الرعية، وأنني سرت على نهج أبي، ولذا وبعد وفاة والدي، تمسكت الرعية بأن أتسلم الحكم بدلا منه.

يقول "يوسابيوس القيصري" - أبو التاريخ الكنسي في نظر جميع المؤرخين المسيحيين -

" وعلاوة على هذا فقد تملكته الرغبة في الاقتداء بأبيه، وهذا دفع الابن إلى السلوك في طريق الفضيلة، كان أبوه قسطانطيوس - وخليق بنا إحياء ذكراه الآن أبرز إمبراطور في عصرنا، حيث كان واحداً من بين أربعة أباطرة يشتركون معا في وقت واحد في إدارة شئون الإمبراطورية الرومانية، إلا أنه سلك طريقاً يخالف الطريق الذي سلكه زملاؤه و أصبح محباً لله العلي، فهم عندما حاصروا كنائس الله وأتلفوها وهدموها حتى الأساس، و أزالوا حتى أساسات بيوت العبادة، حفظ هو يديه طاهرتين دون أن تتلوثا بفجورهم البغيض، ولم يقتد بهم في أي ناحية من النواحي، لقد دنسوا أقطارهم بذبح النساء والرجال الأتقياء بكيفية شنيعة، أما هو فحفظ نفسه طاهراً من هذه الجرائم، لقد تورطوا في العبادة الوثنية الماجنة و دفعوا أنفسهم أولاً ثم كل الذين تحت سلطانهم في عبودية ضلالات الأرواح الشريرة، و أما هو فإنه في نفس الوقت بعث السلام التام في سائر أرجاء أقطاره و ضمن لرعاياه امتياز عبادة الله من دون عائق ".

كما قال يوحنا النقيوسي عن قسطانطيوس والد قسطنطين :

" أما قسطانطيوس والد (قسطنطين) الذي كان مشاركا له في الحكم في آسيا فلم يرتكب آثاما، وكان يحب الناس ويعاملهم بالحسنى، وكذلك أمر أن يُعلن قول البشير للمسيحيين في كل مكان تحت سلطانه ليمضوا مشيئة الرب الإله الواحد الحق، وكذلك أمر ألا يصنعوا بهم شراء ولا يُوقعوا بهم اضطهادا، ولا يسلبوا أموالهم، ولا يرهقوهم أي إرهاق، وأمر كذلك ألا يمنعوهم الخشوع والتبتل في الكنيسة المقدسة ليصلوا من أجله ومن أجل حكمه."

ويتابع يوحنا النقيوسي حديثه مؤكدا أن سلوك قسطنطين درب أبيه وانتهاجه نفس النهج أدى إلى محبة الناس لقسطنطين وتمسكهم به، حيث يقول :

" غير أن قسطانطيوس عبد الله الطيب الذكر الذي أكمل مسيرته بحكمة وتعقل المحبوب العادل، كان كل الناس يصلون من أجله، ويدعو له الكبار وكل الجنود والقادة، وهو الذي أسس مدينة بيزنطة، وسلك مسلكا حسنا في عدل، ثم مات وسار إلى الرب، وخلف ولدا صالحا هو قسطنطين حبيب الله الكبير المضيء بالحق المتألق، ونصبه ملكا متوليا بدله. وهذا العظيم المثلث السعيد (الطوباني) عمل لإرضاء الرب في كل وقت، وكان يحب كل الناس في مملكته، ويصنع الخير للجميع، وأتى كل أيام حكمه في تواضع وقوة وطهارة وكان عظيما أمام الرب الحي إلى الأبد، وامتدحه القادة وكل الجنود لأنه يغار غيرة طيبة للرب، وظهرت في أيامه وضاءة وحكمة مسيحيتين قوة وعدالة، وحب للناس وصبر، ولم يقبل لديه قول الهراطقة الخارجين فقط، بل جعل كل من كان تحت سلطانه يخضع للرب ولم يمارس شيئا من الظلم، وكذلك لم يصبر على ترك الكنائس التي تهدمت دون أن يبنيها ولم يترك كذلك شيئا يعوق عبادة الرب المقدسة المسيحية الذي كرس به ليصير ملكا في حسن وتواضع."

وهكذا يتضح لكم أن سيرتي في الحكم وطريقة وصولي للحكم تؤكد أن الحاكم الصالح حتما لابد أن يكون منتخبا ومرضيا عنه من الناس، أما الحاكم المستبد الذي يصل للحكم بقوة السلاح ومساندة الفاسدين المنافقين الانتهازيين الذين لا يعنيهم إلا تحقيق مصالح خاصة ولو على حساب قتل شعب بأكمله، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون مصدرا للخير والأمن والاستقرار.

ولاشك أن الإسلام هو من أرسى قاعدة اختيار الأمة للحاكم من خلال الشورى والبيعة، أي اختيار الناس له لما يجدونه فيه من خير ثم مبايعته على الحكم وفقا للمبادئ التي اتفقت عليها الأمة، وقد كانت في صدر الإسلام هي كتاب الله وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقد نقل الغرب هذا المبدأ عن المسلمين، وتم تطويره وابتكار وسيلة للتعبير الصحيح عن رأي الأمة واختيارها وهي ( الانتخاب )، بينما ظل المسلمون في جميع أرجاء العالم الإسلامي تحت وطأة الحكم الجبري المستبد.

#ثانيا:  #يحب_الشعب_ويسعى_لتحقيق_الخير_للناس.

كما رأينا، قال يوحنا النقيوسي عن قسطنطين :

" حبيب الله الكبير المضيء بالحق المتألق، ونصبه ملكا متوليا بدله. وهذا العظيم المثلث السعيد (الطوباني) عمل لإرضاء الرب في كل وقت، وكان يحب كل الناس في مملكته ويصنع الخير للجميع، وأتى كل أيام حكمه في تواضع وقوة وطهارة، وكان عظيما أمام الرب الحي إلى الأبد، وامتدحه القادة وكل الجنود لأنه يغار غيرة طيبة للرب، وظهرت في أيامه وضاءة وحكمة مسيحيتين قوة وعدالة، وحب للناس وصبر، ولم يقبل لديه قول الهراطقة الخارجين فقط، بل جعل كل من كان تحت سلطانه يخضع للرب، ولم يمارس شيئا من الظلم وكذلك لم يصبر على ترك الكنائس التي تهدمت دون أن يبنيها، ولم يترك كذلك شيئا يعوق عبادة الرب المقدسة المسيحية الذي كرس به ليصير ملكا في حسن وتواضع.

#ثالثا:  #أرسى_مبدأ_الدين_أساس_الحكم_والسياسة. 

يؤسفني أن أجد أنظمة حكم في دول مسيحية وأخرى في دول إسلامية كبرى تسعى بإصرار لتنحية الدين عن السياسة والحكم وكافة شئون الناس ، حتى أن بعضهم  أضاف نصوصا إلى دساتیرهم وتشريعاتهم مفادها : ( حظر مباشرة أي نشاط سياسي أو حزبي على أية مرجعية دينية أو أساس ديني )، بل وصل الأمر ببعض الحكام إلى وضع تشريعات جنائية لضمان إقصاء الدين ومن دانوا به وبأهميته لصلاح وإصلاح أحوال الناس .

الحمد لله الذي عافاني من ذلك، الحمد لله الذي جعلني عبدا صالحا مؤمنا بالله مسلما موحدا أؤمن بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله، وأعلنت رفضي لقانون إيمان نيقيا بعد أن أصدرته بنفسي، ذلك القانون الذي جعل من سيدنا عيسى إلها مساو لله عز وجل في جوهره وأزليته، واعتنقت المسيحية على مذهب آريوس الموحد، وتعمدت على يدي يوسابيوس النيقوميدي الموحد، وتعمدت فوق قبر لوكيانوس الموحد، وانتقلت إلى رحمة الله عز وجل وأنا لازلت في الملابس التي تعمدت بها على عقيدة التوحيد، أبغض المحرمات، وأرفض الظلم بكافة صوره، ولا أقف منه موقف المتفرج، وقد مكنني الله عز وجل في الأرض حتى تمكنت من رفع الاضطهاد عن المسيحيين وهم أصحاب ديانة سماوية بعد أن عانوا من اضطهاد الوثنيين لهم قرابة ثلاثمائة عاما، وأنشأت لهم الكنائس ، وهذا ما أكدته الموسوعة الحرة ويكبيديا بقولها :

من أشهر مشاريعه الإنشائية كنيسة القيامة في أورشليم، وكنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة الرسل المقدسة في القسطنطينية، وكنيسة القديس بطرس القديمة في روما، وقد بذل قسطنطين جهودًا كبيرة لإقامة الكاتدرائية على القمة التي استراح عليها القديس بطرس الدرجة أنها أثرت حتى على تصميم الكنيسة، مما جعل بناء الكاتدرائية يستغرق أكثر من ٣٠ ثلاثين عاما منذ تاريخ أمر قسطنطين ببنائها.

كما منعت تشغيل رجال الدين المسيحي في الوظائف العامة حتى يتفرغوا لمهمتهم المقدسة في تعليم الناس شئون دينهم، وأغدقت عليهم بالمال لمساعدتهم على أداء هذه الرسالة، وفرضت على المواطنين الوثنيين وعلى رجال الإمبراطورية أن يردوا للمسيحيين كل ما أخذ منهم من أموال أو عقارات وغير ذلك من الأعمال الخيرة كثير، ولمن أراد أن يستزيد فليقرأ الكتاب من جديد، ففيه كل أو معظم ما فعلته من أعمال خيرة.

والأهم من ذلك كله أنني - وكما ذكرت لكم أعلاه - كنت مسلما موحدا لله ، حيث انتهى بي المطاف بعد محاولة التوفيق بين مذهب آريوس الموحد الذي آمن بأنه " لا إله إلا الله عيسى رسول الله "، وألكسندروس وشماسه أثناسيوس الذين صمما على رفع سيدنا عيسى من حقيقته كبشر مخلوق إلى درجة الألوهية، كما صمما على إنزال الله المتفرد بالألوهية والكمال إلى درجة المخلوق في عقيدة لم يستطع المسيحيون أنفسهم أن يتحدوا عليها، حتى راح كل منهم يفهمها بالطريقة التي يستطيع تقبلها، فتعددت قوانين الإيمان و تنافرت، وفشلت المجامع المسكونية في توحيد هذه العقيدة على تصور واحد يقبله الجميع. وأعلنت قبولي لقانون إيمان آريوس الموحد في مناسبة عظيمة وأماكن مقدسة، ألا وهي افتتاح كنيسة القيامة في القدس لأعلن وأؤكد لكل الناس في زمني ومن بعدي أن كنيسة القيامة التي شيدتها في الأرض المباركة إنما هي كنيسة آريوسية مسلمة موحدة، وأصدرت قراراتي لجميع الكنائس بقبول آريوس وأنصاره وأتباعه في كنائسهم. وعندما رفضت كنيسة الإسكندرية بقيادة الأسقف الجديد " أثناسيوس " وثني الأصل الذي خلف ألكسندروس، وأصبح هو أسقف الإسكندرية، قمت على الفور باستدعاء آريوس إلى القسطنطينية لأعلن أن العاصمة الجديدة للإمبراطورية الرومانية قد أصبحت أيضا آريوسية موحدة شأنها كشأن كنيسة القيامة، لكن وللأسف الشديد استشهد آریوس قبل استلام عمله بأقل من يوم في حادث غامض رجح الكثيرون أنه قتل عمدا بطريق السم. وحسبي للتأكيد على أنني قد سلكت طريق الصلاح والفلاح أن أعيد عليكم رسالتي الخاصة بضلالة عبادة الأوثان والتي قلت فيها :

من قسطنطين الظافر إلى شعوب الأقطار الشرقية : 

" إن كل ما تتضمنه قوانين الطبيعة الثابتة يحمل لكل البشر فكرة شديدة عن بعد نظر العناية الإلهية وحكمتها، و لا يمكن لأي إنسان اتجه عقله في طريق المعرفة الحقيقية لطلب هذه الغاية أن يخامره أقل شك في أن مرئيات العقل السليم والمناظر الطبيعية نفسها تؤدي إلى معرفة الله بتأثير الفضيلة الحقيقية، ولهذا فإن العاقل لا يُدهش عندما يرى البشرية تتأثر بمشاعر مضادة لأن جمال الفضيلة يصبح بلا جدوى ولا يمكن إدراكه لو لم تظهر رذيلة "عبادة الأوثان " في الناحية المضادة لها، أي طريق الضلال والحماقة، و لذلك ترى الواحد يتوج بالجزاء الحسن، أما الآخر فيقتص منه الله العلى نفسه."

لقد أرسلت العديد من الرسائل إلى جهات مختلفة تكشف لكم عن طبيعتي، وتؤكد لكم أنني كنت مستغرقا بكل فكري ومشاعري في إرساء القيم الدينية الرفيعة، وأنني كنت أرى هذه القيم هي السبيل الأساسي لحل مشاكل الناس ورفع الظلم عنهم ليعيشوا حياة كريمة

آمنة، فلاشك عندي أنه لا سياسة نافعة ولا حكم رشيد بغير دين سماوي لم تطله يد العبث والتغيير بالحذف أو الإضافة، وفي هذا الشأن يقول المؤرخ المسيحي ساويرس بن المقفع :

" غدت المسيحية والديانات الأخرى داخل الإمبراطورية على قدم المساواة إن لم تفضل عليها، وأضحت دينا شرعيا، وأن لها بعد ثلاثة قرون أن تتنسم عبير الحرية، وساد الكنيسة سلام طالما إليه تاقت وقد هللت الكنيسة بهذه الفترة الجديدة التي توشك شمسها أن تبزغ، ولا أدل على ذلك مما عبر به يوسابيوس القيصري عن هذه الفرحة التي تملكت نفوس المسيحيين آنئذ بقوله : أخيرا أشرق نهار صحو جميل، لا يعكر صفوه غمام، وبأشعة نور سماوي أضاء في العالم كنائس المسيح، وحتى أولئك الذين ليسوا من جماعتنا لم يُحرموا من نعمة البركات، أو على الأقل من الانتفاع بمزاياها والتمتع بجزء من النعم التي أغدقها الرب علينا.

ويضيف يوسابيوس أن الإمبراطور خط بيمينه رسالة إلى سكان الإمبراطورية جمعاء يدين فيها الديانات السابقة ويمجد المسيحية، أورد فيها تقريرا عن الأخطاء الناجمة عن القول بتعدد الآلهة أو الشرك بالله، وبدأها بمقدمة عن الفضيلة والرذيلة، كما كتب لملك فارس رسالة تدور في نفس الإطار يقول فيها :

" إني كما تبرهن أعمالي أعترف بأقدس عقيدة، فهذه العبادة ذاتها تقودني إلى معرفة الرب القدوس، الذي بعونه وقوته أنهضت من الرقاد من أقاصي المحيط كل أمة في هذا العالم لتلمح الأمل في الأمان، وعليه فإن كل أولئك الذين يئنون تحت وطأة العبودية ويقاسون أعظم الويلات لأشد الطغاة قسوة قد بعثوا من جديد بفضل حكمي وإرسائي قواعد أسعد دولة.

هذا الرب وأنا على ركبتي جاث، إياه أستعيذ من هول دماء تلك الأضحيات، وإليه أبتهل أن يبدد رائحتها الكريهة المقيتة، ويطهر من الأراضي كل نار شيطانية، وما ذلك إلا لأن هذه الشعوذات الدنسة الرجسة بشعائرها المستهجنة، قد أوردت جل، لا بل كل أمم العالم الوثني ورد الهلاك فرب الكل السيد وهبها البركات ومن ثم لا يرضى جلاله ولا يسمح لقلة تعبث بها وتنحرف إرضاء الخاص الشهوات.

وليس للرب على الإنسان إلا نقاوة عقل، واستقامة روح، وهو بهذا المعيار يزن صالح الأعمال وفاضلها، فمسرة الله بكياسة من البشر واعتدال يحب الحليم، ويبغض اللئيم يبتهج بالإيمان، ومن الكفر يقتص، يهوي - يُسقط - بجبروته كل عات، ومن صلف كل متكبر ينتقم، وفي الدرك الأسفل يطيح بكل متعجرف غطريس، ولكنه يجزي المتضع، وبما استحق من جزاء يثيب، وبمثل هذا يمد الرب عونه بمملكة من العدل قائمة، ويدعمها ومليكها بسكينة السلام، وبعد يا أخي، فأنا على يقين بأني غير مخطئ في اعترافي بهذا الإله الواحد المبدع، الآب لكل الأشياء، الذي جافاه كثير من أسلافي مقودين بجنون الخطيئة مما جر عليهم رادع العقاب حتى راح ما تلاهم من أجيال يتندر بما حل بهم تحذيرا لمن تداعبه الرغبة في سلوك الدرب، ومن عداد هؤلاء واحد حدت به صاعقة العذاب فراح من هنا طريدا، وكانت أراضيكم له المنفى والمصير، وكان العار الذي لحق بسمعته مدعاة لذيوع صيت انتصاركم - يشير قسطنطين هنا إلى هزيمة الإمبراطور الروماني الطاغية فاليريان وأسره على يد الفرس ، وإنه لمن اليقين مناسبة طيبة حيث أضحى الانتقام الذي حل بكل أولئك على النحو الذي أوضحت بينا للجميع في عصرنا، ذلك أني قد عاينت نهاية أولئك الذين بكافر مراسيمهم ناكدوا عباد الرب، وبهذه النهاية وجب تقديم الشكر لله، فبعونه الفياض سعد بشر يرعون ناموسه المقدس بعد أن عاد من جديد هناء السلام، وعليه فإني لموقن بأن الأمور كافة قد اتخذت الوضع الأفضل الآمن، فإذا ما اتقى الناس وآمنوا وتمسكوا بناموس الرب ولميتفرقوا يقدسون ذاته تعطف الرب فآواهم إلى رحابه "

وما أجمل ما قاله عنه الأبوان ميشال أبرص وأنطوان عرب : 

" فكما أن المسيح يطرد من قطيعه كل القوى المتمردة، كذلك فعل قسطنطين، إذ أنه أخضع أعداء الإيمان المنظورين وقاد الناس إلى معرفة الله، لقد أصبح المعلم الذي يعلن ملكوت الله على الأرض، ويبشر بشريعة الحق، واعتبر قسطنطين نفسه المدافع عن كنيسة الله وعن نشر ديانته في كل أرجاء المملكة، وهو من ربط الدين بالدولة آخذا على عاتقه الدفاع عن كليهما....

بل في صفحات التاريخ المسيحي ما يؤكد أنني كنت أخبر الناس بأنني أنفذ مهام موكل بها من الله ، وقد أكد المؤرخ المسيحي ساويرس بن المقفع ذلك حين استعرض انجازاتي وذكر من بين ما ذكر أنني كنت أخبر المسيحيين أنني مبعوث العناية الإلهية، يقول ساويرس بن المقفع :

" لقد حرص قسطنطين طوال فترة حكمه التي امتدت ما يزيد على ربع قرن، أن لا يثير شكوك رعيته والتي تمثل جل إمبراطوريته بل ظل في نظر هؤلاء الرجل الذي وحد الإمبراطورية وأنقذها من ويلات الحروب الأهلية الطاحنة. حقيقة سمح للمسيحيين بممارسة طقوس عبادتهم، وأعاد إليهم أموالهم وأملاكهم المصادرة، وأباح لهم حرية إقامة كنائس جديدة، وإصلاح ما تهدم من دور العبادة تحت

وطأة الاضطهاد، وأعاد المنفيين، وأطلق سراح المسجونين.

وحقيقة أيضا أصدر أوامر بهدم عدد من المعابد في كيليكيا وفينيقيا، ولكن قسطنطين مع ذلك كله لم يذهب كما فعل سلفه دقلديانوس تجاه المسيحية، فلم يصدر ضد الديانات القديمة مرسوما عاما بالاضطهاد أو بهدم معابدهم في كل أنحاء الإمبراطورية، أو بإحراق كتبهم المقدسة، أو بسوق كهنتهم إلى العذاب زمرا، أو بتعقب جموعهم وحرمانهم من ممارسة الطقوس نحو أربابها، بل إن هذه المعابد التي هدمها، لم يكن ذلك بصفتها المخالفة للمسيحية، ولكن لأنها كانت قد أمست غير مناسبة للمنحى الديكتاتوري القيصري، بسبب إيمانها بالتعددية وكفرها بالواحدية.

لقد سعى قسطنطين إلى دعم إله المسيحيين، الذي لا يقبل معه إله آخر، وسعى هو إلى أن يجعل من نفسه ممثلا لهذا الإله الذي وحد كل الإمبراطورية تحت ظله، وسعى باسمه للقضاء على كل الديانات الأخرى، وتستر به في حربه ضد الفرس وغيرهم من أصحاب الديانات المخالفة.

وكان قسطنطين بارع الدعائية، أغرق الكنيسة في هباته وخيراته، وأغدق عليها من فيض أنعمه، ويبدي اهتمامه البالغ، بل وقلقه من أجل الانشقاقات التي تحدث في الكنيسة ، ويدعو لعقد المجامع كي تفصل في النزاع اللاهوتي، ويحمل الأساقفة على المركبات العامة، ويحمل الخزانة نفقات حلهم وترحالهم، ويشترك في مناقشاتهم، ويرسل إلى ملك فارس يحثه على حسن معاملة رعاياه من المسيحيين، فغدا بذلك في نظر الكنيسة راعيها وحاميها والملجاًل ها وملاذ.

ولقد كان بلاط قسطنطين أنموذجا حيا لسياسة الحلول الوسطى، يجمع أضداد الخلائق وشتى الفكر، فهناك المستشارون العسكريون والمدنيون كلهم من أصحاب الديانات المغايرة للمسيحية، وإلى جوارهم مستشاره الخاص لشئون الكنيسة هوسيوس أسقف قرطبة النيقي المتحمس.

وفي الناحية الأخرى يقف يوسابيوس النيقوميدي الآريوسي العنيد صاحب الحظوة لدى الإمبراطور بعد عودته من المنفى وبين هؤلاء وأولئك صديقه الحميم يوسابيوس القيصري رجل الفكر المعتدل.

وقد استطاع قسطنطين أن يوحي إلى هؤلاء جميعا أنه مبعوث الرب الذي عهد إليه بإدارة الإمبراطورية، وأن عليه أن يقود سفينها وسط الأنواء إلى شطآن النجاة، ولقد حاول قسطنطين الكثير، ونجح في أن يضع لخلفه أسس العلاقة بين الدولة والكنيسة، ولكن مشاكل الكنيسة وخلافاتها اللاهوتية كانت أشد تعقيدا مما توقع قسطنطين.

ولقد أعان الله الله قسطنطين بأمه هيلانة" والتي كانت مسئول بناء الكنائس، وفي هذا الصدد يحدثنا ويل ديورانت عن بنائها بتكليف منه لكنيسة القيامة في أورشليم وكنيسة بيت لحم التي بناها في المكان الذي ولد فيه المسيح ، ويقول ديورانت في موسوعة قصة الحضارة تحت عنوان ( قسطنطين والمسيحية) :

" ولقد كانت صلاته بأمه طيبة سعيدة بوجه عام، ويبدو أنها سافرت بتكليف منه إلى أورشليم ودمرت ذلك الهيكل الشائن، هيكل أفرديتي الذي بني، كما يقول البعض، فوق قبر المسيح المنقذ.

ويقول يوسابيوس إن الضريح المقدس ظهر للعين في ذلك المكان، وفيه الصليب بعينه الذي مات عليه المسيح، وأمر قسطنطين أن تشاد كنيسة الضريح المقدس (كنيسة القيامة) فوق القبر، وحفظت الآثار المعظمة في خزانة مقدسة خاصة. ومن ذلك الحين بدا العالم المسيحي يجمع مخلفات المسيح والقديسين ويعيدها، كما كان العالم الوثني في الأيام القديمة السابقة يعتز بجمع مخلفات حرب طروادة ويعظمها، وكما كانت روما نفسها تفخر بتمثال أثينا إلهة الحكمة حامية طروادة.

وقد غير العالم المسيحي مظهر هذه العبادة وجدد جوهرها كما يفعل الخلائق من أقدم العهود، وشادت هيلانة كنيسة صغيرة في بيت لحم في الموضع الذي تقول الرواية أن يسوع ولد فيه، وقامت في تواضع بخدمة الراهبات اللائي كن يقمن بالخدمة في هذه الكنيسة، ثم عادت إلى القسطنطينية لتموت بين ذراعي ولدها.

وقد أكد ويل ديورانت أن قسطنطين جعل الدين أساس كل شيء، حيث يقول : " ويبدو أن عقيدته المسيحية التي كانت في بدايتها خطة سياسية، قد استحالت بالتدريج إلى إيمان صحيح استمسك به بإخلاص، وأصبح أكثر المبشرين في دولته مثابرة على عمله، واضطهد الملاحدة اضطهاد المؤمن المخلص لدينه، وكان يعتمد على الله في كل خطوة يخطوها. وقد وهب الإمبراطورية الهرمة حياة جديدة بأن ربط بينها وبين دين فتي، ونظام قوي، ومبادئ أخلاقية جديدة وكان في عمله هذا أعظم حكمة من دقلديانوس. وبفضل معونته أضحت المسيحية دولة وديناً، وأمست هي القالب الذي صبت فيه الحياة الأدبية والفكر الأوربي مدى أربعة عشر قرنا، ولعل الكنيسة التي رأت أن تشكر له فضله عليها كانت محقة حين لقبته بأنه أعظم الأباطرة إذا استثنينا أغسطس وحده."

وإذا كان الله عز وجل قد خير ذو القرنين في اختيار طريقة التعامل مع بعض الظالمين في جهة الغرب التي وصل إليها، فاختار ذو القرنين أن يعاقب الظالمين ويعذبهم عذابا نكرا، بينما سوف يكافئ كل من يعمل عملا صالحا ويعمل على تيسير أمورهم ومعاونتهم على شئون حياتهم.

وهذا نفس ما فعلته حين خرجت المحاربة الظالمين في الشرق والغرب، ففي غرب الإمبراطورية الرومانية حاربت مكسنتيوس الظالم الذي أعاد اضطهاد المسيحيين، ودخلت روما وسط فرح سكانها، ورفعت عنهم الويلات التي ذاقوها على أيدي مكسنتيوس، بينما كلفت ليسينيوس زوج أختي بمحاربة مكسيميانوس طاغية الشرق الذي أعاد اضطهاد المسيحيين أيضا من جديد.

أما عن أسباب قتلي لشريكي في النصر وزوج أختي ليسينيوس فترجع إلى ردته إلى الوثنية ومخالفة مرسوم ميلانو وشروعه في اضطهاد وتعذيب المسيحيين، ولم أقدم على قتله إلا بعد إنذاره وعدم امتثاله الأوامري بوقف الاضطهاد، مما اضطرني في البداية إلى نفيه، لكنه وهو في المنفى أخذ يرتب للانقلاب والقضاء علي، فلم يجعل أمامي خيارا سوى توقيع عقوبة الخيانة عليه خيانة رئيسه وخيانة الشعب والدولة.

وقد شاء الله عز وجل أن يهبني النصر على كل الحكام الطغاة الظالمين المتغلبين على شعوب الإمبراطورية، ليسود السلام والاطمئنان والهدوء والسكينة جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية ويهنأ المسيحيون أصحاب الديانة السماوية بالسلام والأمان الذي حرموا منه قرابة ثلاثة قرون. وقد قرأتم كيف فرح الناس في كامل الإمبراطورية الرومانية بانتصاري على الطغاة، وكيف تم استقبالي استقبالا حافلا في روما، هذه مجرد مقتطفات، ويمكن لكم الرجوع إلى ما أرسلته لكم من قبل في هذا الكتاب.

وأريدكم أن تنتبهوا إلى أنني قد ألغيت العملات المتداولة في جميع أرجاء الإمبراطورية للتخلص من الرسومات الوثنية على العملات القائمة، فهذه المعلومة في غاية الأهمية وسنحتاجها بشدة في القريب العاجل، بل وكما قرأتم من قبل كان من أسباب بنائي لمدينتي القسطنطينية روما الجديدة هو التخلص من الطابع الوثني لروما القديمة والتي كثرت فيها تماثيل الآلهة المزعومة، وكثر فيها الوثنيون فأردت أن أبني كنيسة كبرى، وكثير من الكنائس الموحدة ليصيح طابع مدينة القسطنطينية هو المسيحية الحقة (الإسلام) والتي كان يمثلها ويعبر عنها آريوس الموحد وشيعته ممن يفهمون فهمه ويرتضونه، ذلك الفهم الذي لم يختلف عما جاء به الإسلام - الرسالة الخاتمة - التي أنزلها الله عز وجل على نبيه ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وما كان إصداري لعملات معدنية جديدة ما بين برونزية وذهبية إلا لسببين، الأول : السبب الاقتصادي وهو مواجهة التضخم الذي أصاب مواطني الإمبراطورية

في ظل العملات القديمة، والثاني هو إزالة آثار الوثنية وصورها من على وجهي العملات القديمة لأخفيها عن أعين الناس.

ويقول ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة في الإطار السابق : 

" ولما توطدت دعائم قوته أخذ يجهر تدريجياً بمحاباة المسيحية، فمحا بعد عام ٣١٧ م من نقوده واحدة بعد واحدة ما كان على وجهها من صور وثنية، ولم يحل عام ۳۲۳ م حتى كان كل ما عليها من الرسوم نقوشاً محايدة لا هي مسيحية ولا وثنية. ومن المراسيم القانونية الباقية من عهده مرسوم مشكوك فيه ولكنه لم يثبت كذبه يخول الأساقفة المسيحيين حق الفصل فيما يقوم في أبرشياتهم من منازعات قضائية، وأصدر قوانين أخرى تعفي أملاك الكنيسة من الضرائب العقارية ، وجعل الجماعات المسيحية شخصيات معنوية قضائية، وأجاز لها امتلاك الأرض وقبول الهبات وجعل الكنيسة هي الوارثة لأملاك الشهداء الذين لم يعقبوا ذرية.

وكذلك وهب أموالاً إلى المجامع الدينية المحتاجة إليها، وشاد عدداً من الكنائس في القسطنطينية وغيرها من المدن، وحرّم عبادة الأوثان في عاصمته الجديدة... وربي أبناءه تربية مسيحية سليمة، وأعان بالمال أعمال البر المسيحية التي كانت تقوم بها أمه، وابتهجت الكنيسة بهذه النعم التي فاقت كل ما كانت تتوقعه وكتب يوسابيوس صحائف كانت في واقع الأمر عقود مدح لقسطنطين وإقراراً بفضله، واحتشد المسيحيون في جميع أنحاء الإمبراطورية ليعبروا عن شكرهم لانتصار إلههم."

وإني لأتعجب أن أجد حكام مصر المسلمين يسعون بكل قوتهم لإعلاء الحضارة الفرعونية ويقيمون مبانيهم على شاكلة المباني الفرعونية، في الوقت الذي يسعون فيه إلى تهميش الإسلام ووصفه ووصف المسلمين بالإرهاب، إنهم يسيرون في الاتجاه المعاكس الذي اخترته عن قناعة كاملة، فأنا أؤمن أن البناء الحقيقي هو بناء الإنسان على أسس دينية وأخلاقية وفكرية وعلمية سليمة، وليس من خلال بناء مباني تحاكي في شكلها أبنية الفراعنة أو حتى الإغريق أو الرومان. ولو أنهم قرأوا كتاب ( صدام الحضارات ) لفهموا الفرق بين الحضارات التي ماتت ودفنت كالفرعونية والإغريقية والرومانية والصينية القديمة والهندية القديمة ، والحضارات التي لازالت على قيد الحياة ، كالحضارة الغربية والإسلامية والصينية الحديثة واليابانية الحديثة والأرثوذكسية إلخ.

#رابعا:  #القضاء_على_الانقسامات_والفتن_بين_الناس

لعلكم تذكرون كيف وفقني الله عز وجل في القضاء على الانقسام والفتن بين الرومان الوثنيين والمسيحيين، ووفقني في وقف الاضطهاد الروماني الوثني لهم والذي لم يسبق له مثيل من قبل.

كما تذكرون ما قمت به لحل الانقسام المسيحي المسيحي، لقد كان المسيحيون قبلي في حالة من التيه، فاستطعت بفضل الله عز وجل ومن خلال مجمع نيقيا" حصر الخلاف في فريقين ، الأول يقول بألوهية المسيح ، والثاني يقول بأن المسيح بشر وأنه مجرد رسول من رسل الله ، إلا أنه من المكرمين أصحاب الدرجات الرفيعة، وإنني وإن كنت قد أيدت في المجمع فريق كنيسة الإسكندرية القائل بالألوهية، إلا أنني رجعت لأؤيد فريق الموحدين - آريوس وشيعته - بكل ما أوتيت من قوة، لأكون بذلك قد وصلت بالمسيحيين إلى أفضل الأحوال.

وفيما يلى أعرض عليكم بعض ما قاله ويل ديورانت - عن الخلافات بين المسيحيين في أمور العقيدة في حقبة ما قبل قسطنطين - في موسوعته " قصة الحضارة " تحت عنوان ( تنظيم السلطة الدينية) :

" وكان "سلس" نفسه قد قال ساخراً : " إن المسيحيين" تفرقوا شيعاً كثيرة، حتى أصبح هم كل فرد منهم أن يكون لنفسه حزباً ، " واستطاع إيرينيوس أن يحصي في عام ١٨٧م عشرين شيعة مختلفة من المسيحيين، وأحصى إيفانيوس في عام ٢٨٤م ثمانين، وكانت الأفكار الأجنبية تتسرب إلى العقيدة المسيحية في كل نقطة من نقاطها، وأخذ المؤمنون المسيحيون ينضمون إلى هذه الشيع الجديدة. وأحست الكنيسة أن عصر شبابها التجريبي يوشك أن ينتهي، وأن نضجها سيحل بعد قليل، وأن عليها أن تحدد مبادئها، وأن تعلن على الناس شروط العضوية فيه، وكان لابد لذلك من ثلاث خطوات ليست فيها واحدة سهلة : وضع قانون عام مستمد من الكتاب المقدس وتحديد العقائد، وتنظيم السلطة.

وتفيض الآداب المسيحية في القرن الثاني بالأناجيل، والرسائل، والرؤى، والأعمال، ويختلف المسيحيون أشد الاختلاف من حيث قبولهم هذه الكتابات على أنها تعبير صادق عن العقيدة المسيحية أو رفضها، فقد قبلت الكنائس الغربية مثلاً سفر الرؤيا، أما الكنيسة الشرقية فهي بوجه عام ترفضه. وهذه الكنائس الشرقية تعترف برسائل يعقوب، أما الكنيسة الغربية فترفضهما.

ويذكر كلمنت الإسكندري ضمن الكتب المقدسة رسالة كتبت في أواخر القرن الأول الميلادي اسمها تعاليم الرسل الاثني عشر.

ولما نشر مرسيون عهداً جديداً اضطرت الكنيسة إلى العمل لتحديد ما تعترف به وما لا تعترف به من الأناجيل، ولسنا نعرف متى حددت أسفار العهد الجديد التي نعرفها الآن واعترف بها أي اعترف بصحة نسبتها لأصحابها وبأنها موحى إليهم بها، وكل ما نستطيع أن

نقوله واثقين أن هتامة لاتينية كشفها مراتوري Muratori في عام ١٧٤٠م وسميت باسمه ، ويرجع الباحثون تاريخها إلى عام ۱۸۰م تقريباً ويُفترض على ضوئها أن التحديد تم قبل ذلك الوقت.

وتكرر اجتماع المجالس والمجامع الكنسية تكراراً متزايداً في القرن الثاني، واقتصرت في القرن الثالث على الأساقفة، وقبل أن يختتم ذلك القرن اعترف بأن هذه المجالس هي الفيصل الأخير في العقيدة المسيحية الكاثوليكية أي العامة، وتغلب الدين القويم - على حد قول ديورانت - على البدع الدينية لأنه أشبع حاجة الناس إلى عقيدة محددة تخفف من حدة النزاع وتهدئ الشكوك، لأنه كان مؤيداً بسلطان الكنيسة.

وكانت مشكلة التنظيم تنحصر في تحديد مركز هذا السلطان، فقد يبدو أن المجامع الدينية المتفرقة، بعد أن ضعف سلطان الكنيسة الأصلية في أورشليم، أخذت تمارس السلطات مستقلة عن هذه الكنيسة وعن بعضها بعضاً، إلا إذا أنشأتها جماعات أخرى أو كانت تحت حماية هذه الجماعات.

ومن جهة أخرى كانت كنيسة روما تدعي أن الذي أنشأها هو الرسول بطرس، وتستشهد بقول عيسى : " أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات " لكن بعضهم يقول إن هذه العبارة مدسوسة عليه، وإنها تورية لا يلجأ إليها إلا شكسبير، غير أنه يحتمل مع هذا أن بطرس، إن لم يكن هو الذي أوجد الجالية المسيحية في روما، كان يعظها ويخطب فيها، وأنه عين لها أسقفها.

وقد كتب إيرنيو يقول إن بطرس: "عهد" إلى لينس Linus بمنصب الأسقفية، ويؤيد ترتليان هذه الرواية، ويهيب سبريان أسقف قرطاجنة المنافسة الكبرى لروما بجميع المسيحيين أن يقبلوا زعامة كرسي الأسقفية.

ولم يترك الأساقفة الأولون الذين تربعوا على عرش بطرس أثراً في التاريخ، ويبرز من بينهم ثالثهم البابا كلمنت مؤلف رسالة باقية إلى الآن أرسلها حوالي عام ٩٦م إلى كنيسة كورنثة يدعو أعضاءها إلى نبذ الشقاق والمحافظة على النظام، وهذه الرسالة يتحدث فيها أسقف روما بعد جيل واحد من موت بطرس إلى مجمع ديني بعيد حديث من له سلطان عليه.

ومما ساعدني على تحقيق التقدم على جميع المستويات أنني تلقيت تعليما رسميًا في بلاط دقلديانوس، حيث تعلمت الأدب اللاتيني واللغة اليونانية والفلسفة، كذلك كانت البيئة الثقافية في نيقوميديا مفتوحة ومليئة ومتحركة اجتماعياً، وكان في إمكان قسطنطين أن يختلط مع المثقفين الوثنيين والمسيحيين.

بدأت توسعًا كبيرًا في ترير، وعززت سور الدائرة حول المدينة بأبراج عسكرية وبوابات محصنة، وبدأت ببناء مجمع قصر في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة إلى الجنوب من قصره، أمرت ببناء قاعة جمهور رسمية كبيرة وحمام امبراطوري ضخم، رعى العديد من مشاريع البناء في جميع أنحاء بلاد الغال خلال فترة ولايته كإمبراطور للغرب، وخاصة في أوغسطونوم أوتون وأرلاتي آرل.

عندما كان قسطنطين لا يكون في حملة عسكرية، كان يقوم بجولة في أراضيه ناشرا خيره ودعمه للاقتصاد والفنون قمت بإكمال مشاريع ماكسينتيوس، حيث قمت بتكبير مسرح السيرك العظيم ٢٥ مرة أكبر من مما فعله ماكسينتيوس في تكبير طريق أبيا .

قمت بحل قوات ماكسينتيوس البريتورية، كما قمت بحل الحرس البريتوري وحرس الخيالة الإمبراطوري، وحطمت تماثيل حرس الخيالة الإمبراطوري وتم حملها إلى البازيليك عبر طريق لابيكانا، حيث هناك شرعت في إعادة إنشاء بازيليك القديس يوحنا اللاتراني في 9 نوفمبر ۳۱۲م، بعد إسبوعين فقط من أخذه المدينة . قمت بإلغاء فيلق بارثيا الثاني من ألبانو لاتسيالي، كما أمرت بنقل بقايا جيش ماكسينتيوس إلى حدود الراين.

وهذا يكشف الفوارق الكبيرة بين الحاكم الصالح والحكام المستبدين الذين نعاني منهم الآن، فالحاكم الصالح ليس لصا ولا سفاحا لا يعنيه سوى فرض القيود على الرعية حتى يتمكن من سلب ما عسى أن يوجد لديهم من ممتلكات مادية، وها أنا أعترف عليهم دون تردد التحقيق كافة احتياجاتهم.

وخففت من نير الاستبداد بقراراتي الرحيمة، وناصرت الآداب والفنون الراقية التي تحترم القيم الدينية، وشجعت مدارس أثينا، وأنشأت جامعة جديدة في القسطنطينية، كان فيها أساتذة يحصلون على رواتبهم من قبل الدولة، ويعلمون اللغتين اليونانية واللاتينية، والآداب والفلسفة، والبلاغة والقانون ويدربون الموظفين الذين تحتاجهم الإمبراطورية. وأيدت ما كان للأطباء والمدرسين في جميع الولايات من امتيازات ووسعت نطاقها، وأمرت الحكام أن ينشئوا في ولاياتهم مدارس للعمارة، وأن يستجلبوا الطلاب إليها بمختلف الامتيازات والمكافآت، وأعفيت الفنانين من الواجبات المفروضة على غيرهم من المدنيين حتى يوفر لهم ما يكفي من الوقت لإتقان فنهم وتعليمه لأبنائهم. وقد استعنت بالكنوز الفنية في جميع أنحاء الإمبراطورية على تجميل القسطنطينية العاصمة الجديدة.

#ثامنا: #قسطنطين_ينحي_الجيش_عن_الحكم_والحياة_المدنية.

كإمبراطور " قمت بسن النظم الإدارية، والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لتحقيق نهضة الإمبراطورية، وأعدت تأسيس الولايات الإمبراطورية، وفصلت بين سلطات النظام العسكري والنظام المدني.

فقد كنت أعلم عواقب هيمنة الجيوش على الدول والإمبراطوريات من واقع التاريخ الطويل للإمبراطورية الإغريقية، ثم مما حدث في ظل الأباطرة الرومان السابقين لي، ومن ثم كنت مصمما على تنحية الجيش الروماني وقادته عن الحياة المدنية والتي اعتادوا أن ينظروا لها على أنها غنيمة ينبغي أن يستغلوا أسلحتهم للهيمنة على الشعب والسطو عليها.

وقد كان الضباط والجنود يهيمنون على الحكم في ظل الإمبراطورية الرومانية، كما كان الحال في ظل الإمبراطورية الإغريقية من خلال ما يسميه الرومان القائد البرايتوري باللاتينية praefectus‏ بريتوريو.

والقائد البرايتوري هو منصب شديد الأهمية في الإمبراطورية الرومانية، كان يتولى صاحبه بالأصل قيادة الحرس الإمبراطوري، قبل أن يتطور المنصب لتتضمن مسؤولياته صلاحيات قانونية وإدارية عالية جداً، وليصبح القائد البرايتوري أحد أهم مساعدي الإمبراطور. 

قمت بتجريد القائد البرايتوري من العديد من صلاحياته في عهدي، وحولت المنصب ذاته من سلطة عسكرية هائلة إلى منصب مدني إداري بحت. وفي الفترة اللاحقة لعهدي، ظهرت تقسيمات إدارية جديدة للدولة سميت الولايات الإمبراطورية، وأصبح القائد البرايتوري السلطة العليا المسؤولة عن إدارة هذه الولايات، فبات أشبه برئيس وزراء الدولة.

ظل الأباطرة الرومان ينصبون القادة البرايتورتين لتولي هذه المهام حتى عهد هرقل، عندما أجريت تغييرات عديدة في نظام الحكم سحبت من القادة البرايتوريين معظم صلاحياتهم ليصبحوا أشبه بمراقبين على كيفية إدارة ولايات الإمبراطورية.

اختفى آخر أثر لهذا المنصب في الإمبراطورية البيزنطية بحلول عام ٨٥٠م، بينما اندثر في الإمبراطورية الرومانية الغربية مع زوالها بنهاية القرن الخامس الميلادي ."

واستحدث قسطنطين بعد ذلك منصب قائد الجنود، قائد الجنود باللاتينية Magister - ماجيستر میلیتوم" هي أعلى رتبة عسكرية في العهد المتأخر للإمبراطورية الرومانية، بدءاً من فترة حكم قسطنطين الأول وحتى انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية . كان قائد الجنود هو ثاني أعلى سلطة عسكرية بكامل الإمبراطورية بعد الإمبراطور ذاته وأحد أعلى السلطات في الإمبراطورية بأكملها.

بدأ العمل بمنصب قائد الجنود في روما القديمة لأول مرة خلال القرن الرابع الميلادي عندما قرر الإمبراطور قسطنطين الأول تجريد القائد البرايتوري " قائد الحرس الإمبراطوري" وأحد أعلى السلطات في الإمبراطورية من كافة صلاحياته العسكرية، وبالتالي وزعت هذه الصلاحيات على منصبين جديدين أحدهما يقود الجنود المشاة بالجيش ويُسمى قائد والآخر ،" Magister peditum " المشاة الفرسان - منذ عهد الجمهورية الرومانية، حيث كان قائد الفرسان ثاني أعلى سلطة بعد الدكتاتور الروماني.

وبعد عهدي، ظهرت إصدارات مصغرة من منصب قائد الجنود، حيث أصبح هناك قائد جنود لكل منطقة أو ولاية بالإمبراطورية : فكان هناك قائد جنود لولاية الغال وولاية إيطاليا وولاية إليريكم وولاية الشرق وكذلك في أبرشية ثراسيا وأحيانا أبرشية أفريقيا. وفي الأيام المتأخرة للرومان بدأوا بخسارة مقاطعاتهم الشرقية أمام الفتوحات الإسلامية بمنتصف القرن السابع الميلادي، مما أدى إلى تجمع القادة العسكريين للجيوش الرومانية المتبقية بتلك المناطق واتحادها بمؤسسات سميت مقاطعات الثيمات.

ولعل من أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية هو ما درجت عليه في الأيام الأخيرة للإمبراطورية من تنصيب قائد عسكري أعلى Magister utriusquare militiae ، حيث يكتسب هذا القائد نفوذاً هائلاً في الدولة يجعل منه السلطة الحقيقية بالإمبراطورية عوضاً عن الإمبراطور ذاته، وما من حقبة هيمنت فيها الجيوش إلا كانت . هي مرحلة الشيخوخة في عمر الدولة والتي يعقبها الوفاة والنهاية.

وهنا نسأل من حكم العالم ، وكان مؤمنا بديانة سماوية وموحدا لله عز وجل ، ورافضا لأي صورة من صور الشرك به ، ونصيرا للمؤمنين وسيفا على الظالمين ، يحكم بالعدل ، ويقضي كل وقته للقضاء على الفتن بين رعيته والتي شملت أجناس وأديان ولغات ومعتقدات مختلفة ، وينفق ببذخ على رفاهية الناس ويكفل لهم الحياة الآمنة المستقرة وغير ذلك كثير مما بستدعي قراءة كتاب ( قسطنطين العظيم إمبراطور التوحيد الإسلامي ذو القرنين) والذي أصدرته ونشرته دار نشر كتبنا .

وقد تصادف أن يأتي نشر هذا الموضوع في يوم مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنا أستمع ـ وأثناء إعداده للنشر ـ لأصوات الأطفال والزمامير التي يعبرون بها عن سعادتهم بهذه المناسبة .

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وجميع الرسل والنبيين وعلى اله وصحبه اجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



الخميس، 12 سبتمبر 2024

قسطنطين_العظيم_هو_ذو_القرنين_الحاكم_الصالح

 #قسطنطين_العظيم_هو_ذو_القرنين_الحاكم_الصالح

قلت في كتابي ( قسطنطين العظيم إمبراطور التوحيد الإسلامي ذو القرنين ) ، تحت عنوان ( وختاما ) . 

من كل ما تقدم يتضح لنا أن قسطنطين العظيم لم يحصل على حقه في الدراسة بين المسلمين المنتشرين في كل بقاع الأرض ، أو المسلمين العرب .

كما يترجح لدينا أن قسطنطين العظيم هو ذو القرنين ، لأنه لا يوجد حاكم على مر التاريخ توفرت فيه الصفات التي أوردها الله عز وجل لذي القرنين مثلما توفرت في قسطنطين .

فإذا كان الله عز وجل قد أخبرنا أن ذي القرنين عبد صالح مؤمن بالله عز وجل إيمانا صحيحا قائما على توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به ، فهكذا كان شأن قسطنطين ، كان مسيحيا على مذهب آريوس التوحيدي ، عاش عليه ومات عليه ، وحسبه دليلا على صدق إيمانه هو أن ينتقل من أقصى غرب تركيا ( القسطنطينية ) إلى أقصى شرق تركيا من جهة الجنوب ليصل إلى أنطاكية في سوريا ويتعمد على قبر لوكيانوس كبير الموحدين في زمنه ومعلم آريوس ورفاقه عقيدة التوحيد الصحيح ، ويتعمد على يدي يوسابيوس النيقوميدي وهو آريوسي ، ثم يعود إلى مدينة القسطنطينية ليموت في ذات الملابس البيضاء التي تعمد بها .

وإذا كان الله عز وجل قد أخبرنا في سورة الكهف أنه جل شأنه قد مكن لذي القرنين في الأرض ، فهكذا كان قسطنطين ممكنا في الأرض يحكم مشارقها ومغاربها ، وإذا كان الله عز وجل قد أسماه ذي القرنين ، فهكذا كان قسطنطين يحكم الإمبراطورية الرومانية الشرقية والإمبراطورية الرومانية الغربية وهما القرنان ، وكان من قبل يحكم جزءً من الإمبراطورية ، لكنه ولكونه عبدا صالحا أبت نفسه أن يتخلى عن المسيحيين المؤمنين الموحدين، وغيرهم من مواطني الإمبراطورية الذي يتعرضون للاضطهاد ، لذلك حارب مكسيمينوس حاكم الشرق وانتصر عليه بجيش جعل على رأسه ليسينيوس زوج أخته ، كما حارب قسطنطين بنفسه ماكسنتيوس حاكم الغرب ( روما ) وانتصر عليه ودخل روما في ظل فرحة غالبية مواطني الإمبراطورية الرومانية ، لأن الوثنيين بالطبع كانوا مع فكرة اضطهاد المسيحيين ، وبعد هذه الانتصارات أصبح قسطنطين هو الحاكم الأوحد للإمبراطورية بإرادة الله عز وجل ، وأصدر بعدها مباشرة مرسوم ميلانو لمنع اضطهاد الرومان الوثنيين للمسيحيين ، وقرر حرية العبادة للجميع ، وفعل غير ذلك كثير كما قرأتم .

وإذا كان الله عز وجل قد أخبرنا أن ذي القرنين كان حاكما عادلا ، فهكذا كان قسطنطين ، منذ تولى القيادة مع والده سار على نهج أبيه ولم يضطهد أحدا من المسيحيين أو من غيرهم ، وعامل الناس معاملة طيبة ، ونظر في شكاواهم ومشاكلهم ، وخاض الحروب الطاحنة على حدود الإمبراطورية الشمالية ضد القبائل التي كانت تهاجم الإمبراطورية من جهة الشمال ، كما حارب مع جاليريوس ومكسيميانوس على الحدود الشرقية ضد الفرس وغيرهم من القبائل التي تهاجم الإمبراطورية من جهة الشرق .

وإذا كان ذو القرنين حاكما عادلا ، فإنه حتما ولابد أن يكون رحيما ، وهكذا كان قسطنطين رحيما، أوقف الرومان الوثنيين عن اضطهاد المسيحيين بمرسوم ميلانو ، بل وكانت حروب قسطنطين لهذا السبب ، وهو التخلص من مكسيميانوس ومكسنتيوس الحاكمين الذين أذاقا المسيحيين أشد أنواع العذاب على نحو لم يسبقهما فيه أحد اللهم إلا دقلديانوس أشهر المستبدين المضطهدين في التاريخ المسيحي ، وعندما بنى مدينته القسطنطينية منع فيها السلوكيات الرومانية الشاذة التي كان يمارسها الرومان الوثنيين حين يجتمعوا في ملاعبهم ويفرضوا على العبيد أن يتقاتلوا حتى الموت ليستمتعوا برؤية دمائهم وهي تسيل على الأرض .

وإذا كان ذو القرنين قد بنى سد يأجوج ومأجوج ، فإن قسطنطين قد بنى مدينة القسطنطينية على سبعة تلال ( جبال ) ليحصن المدينة وكامل الإمبراطورية الرومانية الشرقية من هجمات القبائل الشمالية ، ولربما كان سد يأجوج ومأجوج مبنيا بين التلال السبعة المقام عليها القسطنطينية .

وإذا كان سد يأجوج ومأجوج يقع بين جبلين على الحدود بين دولتي قيرغستان وأوزبكستان - حسب الباحث الأردني عبد الله الشوربجي - وهما مجاورتان للحدود الشرقية لتركيا ، فإنه يترجح أيضا أن قسطنطين هو من بنى هذا السد للعديد من الأسباب ، منها أن قسطنطين قد اتبع استراتيجية إقامة الحواجز القوية في طريق القبائل المعتدية ، وقد فعلها حين بنى القسطنطينية وأحاطها بالأسوار القوية والمجاري المائية ما بين هذه الأسوار ، وجعل من المستحيل على هذه القبائل دخول المدينة أو حتى العبور من أوربا إلى آسيا والهجوم على باقي الإمبراطورية الرومانية الشرقية وهي منطقة الأناضول في تركيا ثم ولايات آسيا مثل فلسطين وسوريا والأردن أو ولايات أفريقيا مثل مصر ، ومن ثم يترجح أنه استكمل استراتيجيته بالبحث عن طرق مرور القبائل التي تهاجم الإمبراطورية من جهة الشرق حتى عثر على أضيق مكان يمكن له ردمه لمنع هذه القبائل من المرور والوصول إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية . 

ومن هذه المُرجحات أيضا أن الرومان كانوا متفوقين في استخراج المعادن والصناعات التعدينية ، كما ثبت من مبانيهم التي استمرت قرابة ألفي عام، أنهم بنوا الطوابق المتعددة واستخدموا الخرسانة في البناء ، وقد أثبت فريق من العلماء أن الخرسانة الرومانية أقوى من الخرسانة الأسمنتية ، وأن المباني الرومانية أطول عمرا من المباني الحديثة بسبب هذه الخرسانة القوية التي صممت بطريقة تجعلها قادرة على معالجة آثار عوامل التعرية ذاتيا من خلال تفاعلات كيميائية ، بل وأثبت العلماء أن طريقة تصنيع هذه الخرسانة مشابهة تماما للوصف القرآني للطريقة التي صنع بها ذو القرنين الخرسانة التي ردم بها ما بين السدين ، وقد سبق أن عرضنا ذلك ، وقد أحسن الإمام الطبري رحمه الله عز وجل حين جمع في تاريخه وفي تفسيره للقرآن الكريم كافة الروايات التي كانت متداولة بين الناس منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم وترك للأجيال القادمة أن تبحث عن الروايات الصحيحة من الموضوعة بما عسى أن يستجد لديهم من أدلة من مصادر أخرى ، وقد ترك لنا حديثا في تفسيره يفيد أن ذو القرنين كان شابا رومانيا ، وأنه كان مدعوما بملاك من السماء ، وأن الملاك أرشده على مكان السد ليقوم ببنائه وغلق الطريق في مواجهة قوم يأجوج ومأجوج ، هذا فضلا عما صرح به الباحث الأردني عبد الله الشوربجي من أن الهدف من السد كان حماية القبائل التركية ، وهو ما يرجح أن قسطنطين هو من بنى السد لأنه كان الحاكم في هذه المنطقة وكان يهدف لحماية الشعوب الخاضعة لحكمه من هجمات القبائل الشمالية الشرسة ومن بينها الشعوب التركية .

ومن المرجحات أيضا أن قسطنطين العظيم هو ذو القرنين أن الله عز وجل جمع ( قصة ذي القرنين ) مع ( قصة أهل الكهف ) في سورة واحدة هي سورة الكهف ، وقال جل وعلا في بداية السورة : (  ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ (١) قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا (٢) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا (٣) وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا (٤) مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا( (٥) ، .....

أي بدأت السورة بتحذير لمن قالوا اتخذوا الله ولدا ، والتحذير هنا ليس لكافة المسيحيين ، حيث يُستثني منه آريوس ومن سار على نهجه الذين رفضوا القول بأن عيسى عليه السلام ابن الله عز وجل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإنما كان التحذير لمن اعتنقوا قانون إيمان نيقيا وتركوا آريوس القس المسيحي الخالص الذي تعلم على أيدي عظام الآباء أمثال لوكيانوس الموحد ، وأخذوا بأقوال أثناسيوس الذي أثبت الأنبا تكلا هيمانوت وكافة المصادر التاريخية الرومانية والمسيحية أنه كان وثني الأصل ، ثم يلي آيات التحذير لمن قالوا اتخذ الله ولدا قصة أهل الكهف ، حيث ترد في سورة الكهف قبل الحديث عن قصة ذي القرنين ، وهذا يوافق التسلسل الزمني ، لأن الراجح كما قلنا وبالدلائل أن أهل الكهف هم فتية من المسيحيين الموحدين ( إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (١٣) وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا (١٤) هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا (١٥) وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا )  ، لجأوا إلى أحد الكهوف للهروب من اضطهاد حاكم ظالم يريد إعادتهم إلى ملة الحاكم الطاغية وأتباعه ( إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ) ، وهو نفس ما أثبته التاريخ الروماني والمسيحي من أن المسيحيين كانوا يلجأون في زمن الاضطهاد للكهوف ، وكانوا يقيمون كنائس ( وقد أخبرنا الله عز وجل أنهم يقيمون مساجد ) ، وكانوا يموتون من طول فترات الهروب ويتم دفنهم بجوار هذه الكهوف ، وأن سبب الاضطهاد إما من الوثنيين للمسيحيين ليعيدوهم من المسيحية إلى الوثنية أو من النيقيين الذين أشركوا عيسى مع الله عز وجل في جوهره وأزليته وصفاته تجاه الآريوسيين الذين صمموا على وحدانية الله عز وجل وعدم الإشراك به لا في ذاته ولا في طبيعته وجوهره ولا في أزليته ولا في صفاته ، .....

ولاشك أن مرحلة الاضطهاد سابقة لظهور قسطنطين العظيم وحدوث الانفراجة الكبرى للمسيحيين ، لاسيما الموحدين من أنصار آريوس والذين أصبحت لهم الكلمة العليا لزمن طويل إلى أن تمكنت الكنيسة المصرية من القضاء عليهم ، ليحل محلهم المسلمون  بعد قرابة الألفي عام ، وكأن الله عز وجل قد بعثهم من الموت وأخرجهم من القبور لتعود أقوالهم ومعتقداتهم الصحيحة لتملأ الدينا من جديد ، وتصبح أسماء مثل قسطنطين ولوكيانوس وآريوس ويوسابيوس النيقوميدي ويوسابيوس القيصري متداولة بكل لغات العالم ، ......

ثم أوردت سورة الكهف قصة ذي القرنين بعد قصة أهل الكهف لترجح لنا أن ذو القرنين هو قسطنطين العظيم الذي رفع الاضطهاد عن المسيحيين ليخرجوا من الكهوف ويعيشوا حياة طبيعية آمنة ، بل وتتحول الإمبراطورية الرومانية بالكامل من الوثنية إلى المسيحية على أيدي قسطنطين ذاته ، ويكتشف الناس المعجزة التي حدثت لهؤلاء الفتية من خلال العملة القديمة التي حاولوا استخدامها في الشراء ، في الوقت الذي تخبرنا فيه المراجع الرومانية والمسيحية أن قسطنطين هو أيضا من غير العملة ، وألغى كل العملات التي كانت تحمل صورا وثنية أو صورا للأباطرة السابقين الوثنيين الذين غالوا في اضطهاد المسيحيين .

ومن المرجحات أيضا أن قسطنطين العظيم هو ذو القرنين ارتباط مجموعة من الأحداث المتجانسة معا بطريقة تستحث العقل على إعمال الفكر لمحاولة إيجاد الرابط المشترك الذي يجمع هذه الأحداث ، على سبيل المثال ما ذكرناه من ورود قصة أهل الكهف مع قصة ذي القرنين في سورة الكهف ، وبدء سورة الكهف بتحذير لمن قالوا اتخذ الله ولدا ( وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا * مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا )  ، ثم تأتي الآية الأخيرة من السورة لتؤكد على وحدانية الله عز وجل ، والنهي عن الشرك به : (  قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا  ) ، وكأن الله عز وجل يخبرنا أن سورة الكهف مخصصة في الأصل للحديث عن هذه الحقبة ، حقبة اضطهاد المسيحيين على يد الرومان الوثنيين وأباطرتهم ، ومعاناة المسيحيين وهروبهم إلى الكهوف ، ثم ظهور قسطنطين العظيم لينهي هذه المأساة التي استمرت قبل ظهوره قرابة مائتي وخمسين عاما أو يزيد ، ثم تدخل قسطنطين في النزاع الذي حدث بين المسيحيين بشأن طبيعة المسيح ، لينضم في بداية الأمر – ولم يكن ساعتها قد اعتنق المسيحية وأحاط بها علما - إلى فريق التثليث بقيادة أثناسيوس وثني الأصل ، ثم وبعد أن تفهم حقيقة النزاع وآراء الطرفين يتحول من النقيض إلى النقيض ، يتحول إلى مناصرة آريوس الموحد ويعتنق مذهبه ويعيده من المنفى ، ثم يطرد الأساقفة النيقيين ، ويعلن قبول قانون إيمان آريوس واعتناق مذهبه في أهم مناسبة في حياة قسطنطين وربما في تاريخ المسيحية وهي افتتاح كنيسة القيامة ، ويأمر بعدها كافة الكنائس بإعادة آريوس وأتباعه لأماكنهم بكافة الكنائس ، وحين رفض أثناسيوس إعادة آريوس ، قام قسطنطين بنفي أثناسيوس نفسه ، واستدعى آريوس إلى القسطنطينية ليقوم بتعيينه أسقفا على كنيسة القسطنطينية مدينته الجديدة .

وكما قلت لكم من قبل مات آريوس الموحد شهيدا – بالسم حسب آراء العديد من المؤرخين والباحثين – قبل أن يتسلم قيادة كنيسة القسطنطينية بيوم واحد ، وهنا نجد أحداث أخرى يُخبئها المستقبل ويسترها الغيب مئات السنين ، فرغم سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام ٤٧٦م ، استمرت الإمبراطورية الرومانية الشرقية قائمة لقرابة الألف عام بعد سقوط الغربية ، حيث سقطت على يد العثمانيين بقيادة السلطان محمد الفاتح عام ١٤٥٣م ، وكان من أهم أسباب صمود الإمبراطورية الشرقية هو أسوار القسطنطينية التي بناها قسطنطين بالتحصينات التي سبق أن عرضناها ، وكأن قسطنطين رحمه الله عز وجل كان يُعد القسطنطينية حتى يتسلمها المسلمون بعد قرابة الألف عام ، وكأن المقادير تخبر من قتلوا آريوس ، أنكم وإن قتلتم آريوس المسلم الموحد وحرمتموه من البقاء في القسطنطينية لأنه كان موحدا لله عز وجل ، فإن القسطنطينية تنتظر الملايين من ( المسلمين الموحدين ) سوف يأتون إليها يوما ما ولو كان في نظركم بعيدا ويفتحونها ويتولون الحكم فيها وإدارتها وتحسين أحوال أهلها حتى يدخلون في دين الله أفواجا.

هل يمكن أن نجد حاكما على مر التاريخ أنجز من الانجازات الإيمانية ما أنجزه قسطنطين العظيم ، الذي قضى على الوثنية التي كانت لها السيادة على العالم في الوقت الذي كانت تضم فيه عمالقة الحضارات كالفراعنة والإغريق والرومان ، ورفع الاضطهاد عن المسيحيين والذي استمر قرابة مائتي وخمسين عاما قبل أن يصل قسطنطين للحكم ، وبنى لهم الكنائس وأغدق عليهم بالأموال والعطايا حتى من قبل أن يعتنق المسيحية ، ثم أدت إجراءاته إلى تحويل الإمبراطورية الرومانية من الوثنية إلى المسيحية وهو تحول ضخم في تاريخ البشرية كان له ما بعده من نتائج حتى زمننا هذا .

ثم وبعد أن فهم الديانة المسيحية تحول عن قانون إيمان نيقيا الذي جعل المسيح عليه السلام إلها ، واعتنق مذهب آريوس الموحد ، وبذل قصارى جهده ليعيد الناس إلى الإيمان الصحيح .

وبنى مدينة القسطنطينية والتي حافظت على جميع المسيحيين الموحدين ، والذين كانوا هم الأغلبية في الإمبراطورية الشرقية ، وهؤلاء المسيحيين الموحدين هم من وجدوا في الإسلام ضالتهم عندما فتح عمرو بن العاص مصر عام 641م ودخل الإسكندرية عام 642م لاسيما في ظل الصراعات التي كانت سائدة بين هرقل والمسحيين المصريين حول طبيعة المسيح ، وهل هو ذو طبيعة واحدة إلهية أم ذو طبيعتين ،....

 " فعلى الرغم من اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية ، فإن ذلك لم يُخَلِّص مصر من براثن الانحطاط والبؤس والشقاء ، فقد امتدَّت الخلافات العميقة داخل الدولة الرومانية الأرثوذكسية بين طائفة الملكانية - التي كانت تعتقد بازدواجية طبيعة المسيح ، وكانت تمثِّلها السُّلطة السياسية في القسطنطينية - وطائفة المنوفيسية ( اليعقوبية ) ، وهم أهل مصر والحبشة الذين كانوا يعتقدون بطبيعة إلهية واحدة للمسيح ، لذلك فكَّر الإمبراطور هرقل بعد انتصاره على الفرس في توحيد المذاهب المسيحية كلها، وعقد لهذا مَجْمَع خلقدونية، فأقرَّ البطارقة الذين يمثِّلون شتى المذاهب المسيحية مذهبًا واحدًا في ذلك المجمع ، وهو الإقرار بألوهية المسيح وبشريته في آنٍ واحد، ومساواة الابن مع الأب في الذات والجوهر، وأراد فرض هذا المذهب على المسيحيين في مصر عن طريق أحد البطارقة ويُدعى قيرس."

" لكن أهل مصر كانوا شديدي الحب لبنيامين -كبير أساقفة مصر- الذي كان شديد التعصب لمذهب اليعاقبة المخالف لما دان به هرقل، وما كاد قيرس يحطُّ رحاله في الإسكندرية في عام 631م إلاَّ وقد فرَّ بنيامين - خوفًا من بطشه ، لذلك رأى المصريون أن ما يدعو إليه قيرس ما هو إلاَّ بدعة وكفر وضلال لأن بنيامين أنكره ولم يدعمه ، 

الأمر الذي جعل قيرس يلجأ إلى الشدَّة والبطش والتعذيب، ووقع الاضطهاد الأعظم الذي استمرَّ على الأقلية المسيحية المصرية مدَّة عشر سنوات كاملة، حتى جاء الفتح الإسلامي مخلِّصًا للمصريين من ذلك البطش والتنكيل ، فاتحا بصائرهم على عقيدة التوحيد الصحيحة التي تقبلها الفطرة ، ويعجز العقل عن النيل من منطقيتها ، ناهيك عن أن المسلمين لم يفرضوا الإسلام بالقوة على مواطني البلاد المفتوحة وتركوهم وما يرتضون لأنفسهم من معتقدات."

وكأن قسطنطين العبد الصالح والحاكم الصالح قد أراد من بناء أسوار القسطنطينية حمايتها حتى يُسلم الأمانة للمسلمين خير أمة أخرجت للناس . 

إن تتبع سيرة قسطنطين يكشف لنا أنه أدى أدوارا عظيمة لصالح المسيحية والمسيحيين ، ولصالح الإسلام والمسلمين ، ولصالح البشرية أجمعين ، على نحو يرجح بشكل كبير أن قسطنطين العظيم هو العبد الصالح والحاكم الصالح "ذو القرنين" الذي أخبرنا المولى عز وجل قصته في سورة الكهف .

لن يخبرنا الله عز وجل عن ذي القرنين أنه مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سببا ، وكلفه بمهام لنشر العدل ومواجهة الطغاة وإغاثة المعذبين في الأرض إلا إذا كان ذو القرنين مسلما مؤمنا إيمانا صحيحا قائما على التوحيد الخالص ، مجاهدا لنصرة المؤمنين الموحدين ، وهذا ما عاش عليه قسطنطين ما تبقى من حياته بعد أن مكنه الله عز وجل في الأرض وأصبح الحاكم الأوحد للإمبراطوريتين الرومانية الغربية والبيزنطية الشرقية .

دار نشر ( كتبنا ) .



الأحد، 18 أغسطس 2024

القطار المدمر ذو القضبان ابمتحركة

 نشر صديقي على صفحته قائلا :

في ناس زي القطر ، لو داستك مش حا تحس بيك ، ولو حست بيك مش حتوقف لك .

قلت له:

وليس مثل أي قطر ، دا قطر قضبانة متحركة حسب رغبة السواق ، ممكن يحود على أي بيت أو غيط ، ولا يوقف قصاده جبل ولا حيط ، ولا بيحتاج بنزين ولا موتوره بيعوز زيت ، لا أحد سوف يوقفه إلا الله عز وجل رب الناس ورب البيت .


الجمعة، 16 أغسطس 2024

أنا لست حزينا على أمي

 


ردا على أخي الذي نشر على صفحته: أنه يسعى للاتصال بوالدته لاحتاجه لها، فيتذكر أنها توفيت فيشعر بالحزن والاختناق ، قمت بالرد عليه بالرد التالي:

أنا لا أشعر بالاختناق حين أذكرها لأن حالها مع الله عز وجل والذي نراه بأعيننا منذ أن ولدنا يبث في نفسي الطمأنينة عليها ، أشعر أنها في مكان أحسن من الأماكن ومع ناس أفضل مننا ، فيغلب اطمئناني عليها حزني على فراقها واحتياجي لها . هنيئا لك يا أمي ، هكذا أرجو ولا أزكيكي على الله جل وعلا.

الخميس، 1 أغسطس 2024

الذباب الإلكتروني يسبون غزة ويجتنون إسرائيل

 يا حاج منصور ، في ناس مستفيدة من حماية إسرائيل وتحقق من وراء هذه الحماية مليارات من الدولارات ، علشان كدة ، كان حتما تغيير العدو التقليدي الحقيقي لمصر والعالم العربي وهو ( إسرائيل ) ، والاستعاضة عنه بعدو آخر ، وكان هذا هو الغرض من إعلان أمريكا وأذرعها الحرب العالمية على الإرهاب .

وعلى ضوء هذه الحرب أصبحت إسرائيل الدولة الجارة الصديقة التي ينبغي أن نحميها بعيوننا ودمائنا . وأصبح العدو الجديد هم الإرهابيين من مواطني الدول العربية ! .

ولذلك تجد هذا الذباب الإلكتروني يشتم ويسب مجاهدي غزة الذين يسعون لتحرير أرضهم ، أما إسرائيل أفجر كيان محتل عرفه التاريخ فلا يتحدثون عنها نهائيا . وإذا سألت حد منهم على جنب : لماذا لا تتحدثون عن إسرائيل بينما تكيلون الاتهامات لعدو جديد من داخل فلسطين ومن داخل مصر ، سيرد عليك : يا عم اسكت الله يصلح حالك ، دا لحم أكتافنا من إسرائيل ومهمتنا أن نقول أن إسرائيل صديقة وأن العدو هم الإرهابيون من أولادنا وأخوتنا .

يا ريت تسمع فيديو  ( الحرب على الإرهاب ) محاضرة نعوم تشومسكي على موقع يوتيوب سوف تجد فيها تفسير لكل الألغاز داخل كل الدول العربية .

الثلاثاء، 30 يوليو 2024

الأرواح جنود مجندة

أحسنت وأصبت يا أبا مالك ، ما أحوجنا إلى هؤلاء ، فلكل إنسان فكر وقيم وطبيعة نفسية تختلف من إنسان لآخر كاختلاف بصمات الأصابع لا تتطابق أبدا . ربما تتشابه . وإذا تشابهت القلوب في التواضع و النقاء والصفاء وحب الخير للآخرين ارتاحت إلى بعضها البعض ، واطمأنت كلما تلاقت ، وربما هذا تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ )

صحيح البخاري

الخميس، 25 يوليو 2024

حربان لاسترداد السيادة على تيران وصنافير

حربان_لاسترداد_سيادة_مصر_على_تيران_وصنافير
هل يعلم أحد من المصريين أن الشعب المصري خاض حربين لاسترداد سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير ؟
هل يعلم أحد أن مصر واجهت عدوان إسرائيل على سيناء واحتلالها عام ١٩٦٧م عندما مارست مصر سيادتها على مدخل خليج العقبة وأغلقت مضيق تيران في وجه السفن الإسرائيلية ؟
وهل يذكر أحد أن حرب أكتوبر ١٩٧٣م كانت لاسترداد سيناء ، أي بسبب الحرب السابقة لها ؟
كم خسرت مصر في حربي يونيو١٩٦٧م و أكتوبر ١٩٧٣م من أبنائها وأسلحتها وثرواتها ؟
وما هي الأضرار التي تحملتها مصر نتيجة معاهدة كامب ديفيد ١٩٧٨م واتفاقية السلام التي ترتبت عليها عام ١٩٧٩م والتي تعاني منها مصر والعالم العربي والإسلامي حتى الآن ؟

يجيب عن هذه الأسئلة محمد رياض أحد عظماء الوطنيين المصريين والذي شغل العديد من المناصب منذ تخرجه من الكلية الحربية عام ١٩٣٦م ، منها وزير خارجية ، وأمين عام لجامعة الدول العربية ، وقبل ذلك تولى مناصب في غزة أثناء إدارة مصر لها ، وهو رحمه الله عز وجل أفضل من كتب عن تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي بدءا من حرب ١٩٤٨م وحتى معاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام التي ترتبت عليها عام ١٩٧٩م ، ولذا فهو من الشخصيات التي يتم التعتيم عليها وعلى مؤلفاتها .

يقول محمد رياض في الجزء الأول من مذكراته ص ٤٢ :
" وبدأت سنة ١٩٦٦م ، وكل جسور التفاهم التي بناها دوايت أيزنهاور وجون كينيدي مع مصر تُقطع واحدا بعد الآخر . وعبد الناصر من جانبه قد يئس تماما من تحسين العلاقات مع الرئيس الأمريكي جونسون في ظل انحيازه المسبق لإسرائيل ...........
ثم تحدث رياض عن هجوم إسرائيل بريا وجويا على قرية " السموع الأردنية " في ١٣ نوفمبر ١٩٦٦م ...

تهديد_إسرائيل_لسوريا_في_مايو_١٩٦٧
ويتابع محمد رياض : وواصلت إسرائيل تهديداتها لسوريا ، ففي ١٢ مايو ١٩٦٧م أعلن اسحاق رابين رئيس أركان حرب القوات الإسرائيلية : " أنهم سوف يشنون هجوما خاطفا على سوريا ، وسيحتلون دمشق لإسقاط الحكم فيها ثم يعودون " .....
ثم توالت التقارير عن الحشود العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية ....

عامر_يطالب_قوات_الطوارئ_الدولية_بالانسحاب_من_سيناء

وفي ١٦ مايو رأى عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة المصرية أن يتخذ خطوة أخرى  للضغط على إسرائيل ، فطلب من الفريق فوزي أركان الحرب أن يرسل خطابا إلى قائد قوات الطوارئ الدولية في قطاع غزة وشرم الشيخ الجنرال ريكي ، مفاده أنه أصدر أوامره للقوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة بأن تكون مستعدة لأي عمل ضد إسرائيل في نفس اللحظة التي ترتكب فيها أي عمل عدواني ضد أي دولة عربية ، وأن القوات المصرية تحتشد الآن في سيناء على حدود مصر الشرقية ، وأنه حرصا على القوات الدولية يطالب الجنرال ريكي بسحب هذه القوات من مراكزها فورا ....
فطلب الجنرال ريكي أن يتم توجيه هذا الطلب للأمم المتحدة ، وبالفعل وافق الرئيس عبد الناصر على توجيه هذا الخطاب إلى الأمم المتحدة .
وعندما رفض يوثانت إجراء انسحاب جزئي لقوات الطواري ( أي من سيناء فقط ) ، لم يعد في استطاعة مصر التراجع عن طلبها ، ولم يكن أمام مصر سوى أن تطلب الانسحاب الكلي لقوات الأمم المتحدة ، وهذا يتضمن بالطبع القوات الموجودة في غزة وشرم الشيخ .

دخول_القوات_المصرية_شرم_الشيخ

ويضيف محمد رياض : وقد أدى انسحاب قوات الأمم المتحدة من شرم الشيخ إلى دخول قواتنا العسكرية إليها ، وهذه الخطوة بدورها فرضت علينا العودة إلى المشكلة القديمة الخاصة بملاحة إسرائيل في خليج العقبة ( أي مرور السفن الإسرائيلية في مضيق تيران الذي تنحصر مياهه ما بين جزيرتي تيران وصنافير من جهة وشرم الشيخ  من الجهة المقابلة ).

يقول رياض : لقد كان قرار عبد الحكيم عامر بسحب قوات الطواري قرارا متسرعا يفتقد أية قيمة عسكرية ولا يشكل أي ضغط عسكري على إسرائيل .

وتلقفت إسرائيل هذا التطور الجديد لكي تحول الأزمة والتي بدأتها بتهديداتها لسوريا بالغزو العسكري واحتلال دمشق إلى قضية أخرى تماما ، وهي حرية الملاحة في خليج العقبة ، وبدأت الأزمة الجديدة تحتل مكان الصدارة في عواصم عديدة ، وفي مقدمتها واشنطن بالطبع .

ويضيف رياض : ولقد زعمت إسرائيل أن لديها التزام أمريكي منذ سنة ١٩٥٧م بضمان حرية الملاحة لسفنها في خليج العقبة ، وهو التزام حتى لو كان صحيحا فإن مصر لم تكن طرفا فيه ولم أسمع به على الاطلاق .

عبد_الناصر_يُغلق_مضيق_تيران_في_وجه_السفن_الإسرائيلية

ويتابع محمد رياض : ولما كان هدف عبد الناصر من الأزمة كلها هو امتصاص التهديد الإسرائيلي ضد سوريا ، فإنه قرر أن يعلن إغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية وذلك في يوم ٢٣ مايو .

تهديد_أمريكي_بسبب_غلق_المضيق_في_وجه_إسرائيل

ثم تحدث رياض عن الرسالة المطولة التي أرسلها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون إلى الرئيس عبد الناصر ليحثه فيها على تجنب القتال ، وكان من بين ما قاله الرئيس الأمريكي :

" ونحن ننتهز هذه الفرصة لنعيد تأكيدنا بالتزامنا المستمر لمبدأ حرية المرور إلى خليج العقبة لسفن جميع الدول ، فإن حق المرور الحر والبريء إلى هذه المياه يعد جزءا من المصلحة الحيوية للمجتمع الدولي ، ونحن موقنون بأن التدخل في هذه الحقوق الدولية قد تكون له عواقب دولية خطيرة .

ثم أوضح رياض الحوار الذي دار بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر عن تقييم رسالة الرئيس الأمريكي ، وأن عبد الناصر كان متشككا في مصداقيته في الوقوف موقفا عادلا منصفا بين مصر وإسرائيل ، حيث قال عبد الناصر لرياض : " أنا ما زلت أشعر بعدم الاطمئنان ، بل إنني أشك في صدق هذه الرسالة من جونسون ، فإذا كانت لديه كل تلك النوايا في الانحياز الكامل لإسرائيل ، ومعاداتنا لحسابها طول السنوات السابقة ، فهل سيتنكر فجأة لكل ذلك ويتخذ موقفا عادلا بيننا وبين إسرائيل ؟ ...

المقترح_الأمريكي_لحل_أزمة_غلق_مضيق_تيران

ثم جاء يوثانت ، وعندما استقبلته في مطار القاهرة شعرت بأنه مع هدوئه يشعر بالانزعاج الشديد . وقد أخطرتنا سفارتنا في واشنطن بأن الولايات المتحدة تساند مهمة يوثانت ، الأمر الذي أعطى جدية إضافية للمشروع الذي أخطرني به يوثانت كبداية لحل الأزمة .
كان مشروع يوثانت يعتمد على أفكار لتهدئة الموقف وهي تتلخص في نقاط ثلاثة :
أولا: يطلب من إسرائيل ألا تُرسل أي سفينة عبر خليج العقبة .
ثانيا: يطلب من الدول التي ترسل سفنها إلى ميناء إيلات ألا تحمل موادا استراتيجية لإسرائيل .
ثالثا: يطلب من مصر عدم مزاولة حق التفتيش على السفن التي تمر عبر مضيق العقبة ( مضيق تيران ) .
ويضيف رياض : ولقد عرضت تلك النقاط على عبد الناصر مع تأييدي بقبولها .
مضيفا بأن يوثانت حصل على موافقة الرئيس عبد الناصر على النقاط سالفة الذكر ، ووعد بعدم الهجوم على إسرائيل ، ثم غادر القاهرة مسرعا يوم ٢٥ مايو ١٩٦٧م ، .......

إسرائيل_وأمريكا_تعتزمان_ضرب_مصر

ويضيف رياض : إلا أنه تبين بعد ذلك أن الرئيس الأمريكي جونسون وكبار مستشاريه اجتمعوا مع وزير الخارجية الإسرائيلي "أبا إيبان" في مساء السادس والعشرين من مايو ، وذلك لبحث احتمالات الموقف في المنطقة ، وبعد الاجتماع قال جونسون لمساعديه : إن إسرائيل سوف تضربهم ، أي تضرب المصريين .

عامر_وبدران_يطمئنان_عبد_الناصر_على_جاهزية_الجيش

وكشف رياض كيف أن عبد الحكيم عامر كان يطمئن عبد الناصر على قدرات مصر العسكرية حيث قال له ضاحكا : اسمع لو حدث وقامت إسرائيل بأي عمل ضدنا فإننا نستطيع بثلث قواتنا فقط أن نصل بير سبع ، ولكي تتأكد بنفسك ، ما رأيك أن تزورني في القيادة لكي تطلع على الموقف العسكري ؟
وأضاف محمد رياض بأن شمس بدران وزير الحربية وفي اجتماع لمجلس الوزراء قال : حتى لو تدخلت أمريكا بأسطولها السادس لمساندة إسرائيل ، فإن القوات المصرية كفيلة بمواجهة الموقف .

عبد_الناصر_يؤكد_للرئيس_الأمريكي_مصرية_المضيق
وأحقية_مصر_في_منع_مرور_السفن_الإسرائيلية_بسبب_عدوانها

وأضاف رياض : بأن عبد الناصر قام بالرد على الرئيس الأمريكي جونسون برسالة مطولة يوم ٦/٢ ، كرر فيها موقفنا بالنسبة لموضوع شرم الشيخ ، مشيرا إلى أن إسرائيل ترفض العمل باتفاقات الهدنة مؤكدا من جديد على أن مصر لن تكون هي البادئة بالعدوان .
وعرض جزءا مما جاء في الرسالة ، والذي يقول فيه الرئيس جمال عبد الناصر :

كان منطقيا بعد انسحاب قوات الطوارئ الدولية أن تتقدم القوات المسلحة العربية لاحتلال مواقعها ، واحتلت من بين هذه المواقع منطقة شرم الشيخ المطلة على مضيق تيران ، وكان منطقيا أيضا أن نمارس حقوق سيادتنا الثابتة على المضيق وعلى مياهنا الإقليمية في الخليج .

ويضيف الرئيس عبد الناصر في خطابه للرئيس الأمريكي :
وهنا أيضا أود أن أعود بك بضعة سنين إلى الوراء ، إلى العدوان الثلاثي ضد الجمهورية العربية المتحدة وهو العدوان الذي ما زلنا نذكر بالتقدير الموقف العادل الذي اتخذته بلادكم إزاءه .

ولقد مارست الجمهورية العربية المتحدة قبل العدوان حقوقها القانونية الثابتة إزاء الملاحة الإسرائيلية في المضيق وفي الخليج ، وهي حقوق لا تحتمل التشكيك ، وبعد رحيل قوات الطوارئ وحلول القوات المسلحة العربية محلها في هذه المنطقة ، لم يكن من المتصور أن يُسمح بمرور السفن الإسرائيلية أو المواد الاستراتيجية المرسلة لها ، وموقفنا فوق ذلك ثابت شرعا ، فهو يستهدف في الواقع إزالة آخر أثر للعدوان الثلاثي إعمالا لهذا المبدأ الأخلاقي الذي يقضي بعدم مكافأة المعتدي على عدوانه.
وفي كل ما اتخذناه من إجراءات دفاعا عن أراضينا وحقوقنا أوضحنا أمرين : أولهما : أننا سندافع ضد أي عدوان يقع علينا بكافة ما نملك من قدرات وإمكانيات . وثانيهما : أننا سنظل نسمح بالمرور البريء للسفن الأجنبية في مياهنا الإقليمية .

ويضيف رياض : أرسلنا تلك الرسالة إلى الرئيس الأمريكي جونسون في ٢ يونيو وكنا قد استقبلنا قبلها مبعوثا من جانبه بشكل رسمي ، ومبعوثا آخر بصفة غير رسمية .

كان المبعوث الرسمي هو السفير تشارلز يوست ، .. والذي أجاب عن سؤالي بشأن احتمالية أن تشن إسرائيل حربا على مصر ، بأن ذلك وارد بنسبة ٥٠%  ، وهو ما جعلنا نتشكك في الموقف الأمريكي ....

بداية_المشكلة_احتلال_إسرائيل_أم_رشراش( إيلات )
وهو_ما_رأته_القيادة_المصرية_خطرا_على_مصر_والعرب

ويضيف محمد رياض : والواقع أن جذور هذه المشكلة الأخيرة بالذات بدأت عندما قامت إسرائيل في ١٠ مارس ١٩٤٩م باحتلال أم رشراش ( إيلات ) على خليج العقبة وذلك بعد توقيع اتفاقية الهدنة مع مصر عام ١٩٤٩م ، وفي ظل قرار مجلس الأمن بوقف أي عمليات عسكرية من جميع الأطراف .

وقد تبين لنا في مصر في ذلك الوقت خطورة هذا الإجراء على سلامة مصر ، لأن وصول إسرائيل إلى خليج العقبة أصبح يهدد ساحل سيناء الجنوبي ، بل يهدد سواحل مصر والسعودية على البحر الأحمر . وكإجراء مضاد صدر قانون عام ١٩٥٠م يحرم مرور السفن الإسرائيلية في الممر المائي والذي يبعد ١٥٠٠ ياردة من الساحل المصري ، كما يحرم وصول أي مواد استراتيجية إلى إيلات عن طريق الممر المائي .
وأصبح الأمر منذ ذلك الوقت يتعلق بأمن مصر والدول العربية في منطقة البحر الأحمر .

إسرائيل_تبدأ_حرب١٩٦٧_بسبب_غلق_مضيق_تيران

ويضيف رياض : استيقظت في صباح الخامس من يونيو على صوت انفجارات شديدة وكانت الأصوات تأتي من شرق وغرب القاهرة ، وأدركت أن إسرائيل قد بدأت هجومها .

وهكذا يتضح لنا من حديث محمد رياض أن إسرائيل احتلت أم رشراش في فترة هدنة مع مصر عام ١٩٤٩م ، وحولتها بعد ذلك إلى ميناء ( إيلات ) الإسرائيلي ، ليصبح لها منفذ على خليج العقبة الذي تستطيع أن تخرج منه بعد ذلك إلى البحر الأحمر ، ومنه إلى المحيط الهندي ،  ومن المحيط الهندي إلى الشرق وجنوب شرق آسيا ثم إلى المحيط الهادئ.

كما كشف لنا محمد رياض وزير خارجية مصر و أمين عام جامعة الدول العربية سابقا : أن حرب أو نكسة يونيو ١٩٦٧م والتي احتلت إسرائيل خلالها سيناء كانت بسبب قيام مصر بغلق ( مضيق تيران ) ، وتصميم مصر على أن جزيرتي تيران وصنافير مصريتان ، وأن مضيق تيران مصري ، ومياه المضيق مياه إقليمية مصرية ، وأن القيادة السياسية والعسكرية في ذلك الوقت كانت مصممة على استرداد سيادة مصر على أم رشراش التي فقدتها عام ١٩٤٩م ، واسترداد سيادتها على مضيق تيران ، الذي فُرض على مصر بعد حرب ١٩٥٦م - بتعليمات أمريكية - أن تسمح بمرور السفن الإسرائيلية فيه ، وأن مصر عام ١٩٦٧م أدخلت قواتها إلى شرم الشيخ لتحكم سيطرتها على الجزيرتين وعلى مضيق تيران ، وأن تمنع مرور السفن الإسرائيلية بسبب تهديدها بالعدوان على سوريا واستردادا لسيادة مصر على مضيق تيران.

كان هذا هو موقف القيادة السياسية والعسكرية المصرية في ذلك الوقت ، استرداد سيادة مصر على أم رشراش ومضيق تيران ، إلى أن توفى الرئيس جمال عبد الناصر أثناء حرب الاستنزاف بتاريخ ١٩٧٠/٩/٢٨م ، وتولى الرئيس السادات ليقوم بتغيير كافة السياسات المصرية تغييرا جذريا ، حيث قام بطرد الخبراء السوفيت ، وبدأ فتح العلاقات مع أمريكا ، وانتهى الأمر بمعاهدة كامب ديفيد ١٩٧٨م واتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٩م ، والتي تنازلت مصر بمقتضاها عن كل ذلك وعن أشياء أخرى كثيرة وخطيرة .

#معاهدة_كامب_ديفيد١٩٧٨_واتفاقية_السلام_عام١٩٧٩
#تفرض_مرور_السفن_الإسرائيلية_في_كافة_المياه_المصرية

فقد نصت المادة الخامسة من معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل الموقعة بتاريخ ١٩٧٩/٣/٢٦م على أن :

١- تتمتع السفن الإسرائيلية والشحنات المتجهة من إسرائيل واليها بحق المرور الحر في قناة السويس ومداخلها في كل من خليج السويس والبحر الأبيض المتوسط وفقا لأحكام اتفاقية القسطنطينية لعام 1888م المنطبقة على جميع الدول ، كما يعامل رعايا إسرائيل وسفنها وشحناتها ، وكذلك الأشخاص والسفن والشحنات المتجهة من إسرائيل وإليها معاملة لا تتسم بالتمييز في كافة الشئون المتعلقة باستخدام القناة

٢- يعتبر الطرفان أن مضيق تيران وخليج العقبة من الممرات المائية الدولية المفتوحة لكافة الدول دون عائق أو إيقاف لحرية الملاحة أو العبور الجوى، كما يحترم الطرفان حق كل مهما في الملاحة والعبور الجوى من أجل الوصول إلى أراضيه عبر مضيق تيران وخليج العقبة .

#اتفاق_ضمنت_به_أمريكا_حق_مرور_السفن_الإسرائيلية

وقد وقعت الولايات المتحدة وإسرائيل في كامب ديفيد ضمن نقاط أخرى - في غفلة من مصر - اتفاقا على أن :
" الولايات المتحدة ستقدم الدعم الذي تراه مناسبا للأعمال التي تتخذها إسرائيل ردا على مثل هذه الانتهاكات لمعاهدة السلام ، وبوجه خاص لو أن انتهاكا لمعاهدة السلام اعتبر تهديدا لأمن إسرائيل بما في ذلك عرقلة استخدام إسرائيل للمرات المائية الدولية ، وانتهاك نصوص المعاهدة الخاصة بتحديد عدد القوات ، أو وقوع هجوم مسلح ضد إسرائيل ، فإن الولايات المتحدة ستكون على استعداد لأن تنظر وعلى وجه السرعة في الإجراءات العملية اللازمة : مثل تعزيز وجود الولايات المتحدة في المنطقة ، وتزويد إسرائيل بإمدادات طوارئ وممارسة الحقوق البحرية لوضع حد للانتهاك " .
وقد اعترضت مصر على الاتفاق سالف الذكر ، وارفق اعتراضها بالأوراق ، وأغلق الملف .

خلاصة_القول : تمسك القيادة السياسية والعسكرية عام ١٩٦٧م بمصرية تيران وصنافير وسيادة مصر على مضيق تيران - لاستشعارها بخطورة وصول إسرائيل إلى خليج العقبة وأم رشراش ومضيق تيران - أدى بمصر والمصريين إلى خوض حربي يونيو ١٩٦٧م وحرب أكتوبر ١٩٧٣م .

وبعد كل الخسائر التي خسرتها مصر وخسرها المصريون من أرواح وأموال وثروات ، وقع الرئيس السادات على إطار السلام في  كامب ديفيد عام ١٩٧٨م ، ثم وقع على معاهدة السلام مع إسرائيل عام ١٩٧٩م ليتنازل عن كل ما سبق ، ويبرم اتفاقا على أن كل الممرات المصرية ممرات دولية لا تملك مصر منع إسرائيل من المرور فيها.

ثم وبعد خسائر حربين متتاليتين في الأرواح والعتاد والأموال  نستيقظ ذات يوم لنكتشف أن جزيرتي تيران وصنافير سعوديتان ، وأن مياه مضيق تيران مياه دولية .

رحم الله عز وجل من استشهدوا في نكسة يونيو ١٩٦٧م ، ورحم من استشهدوا في حرب أكتوبر ١٩٧٣م ، ورفع الله عز وجل عن مصر والمصريين الأضرار التي لحقت بهم من جراء معاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام التي تم توقيعها مع إسرائيل .
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا ...