يقول المقريزي في كتابه : الخِطط
المقريزية المسمى بـ ( المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار( عن حريق الفسطاط أو مدينة مصر – كما يسميها - في
عهد الدولة الفاطمية :
فكان سببه : أن
الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام واستولوا على الساحل صار بأيديهم ما بين ملطية إلى بلبيس إلا
مدينة دمشق فقط .
وصار أمر الوزارة
بديار مصر: ل ( شاور بن مجير السعدي ) والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد
الله بن يوسف اسم لا معنى له وقام في منصب الوزارة بالقوة في صفر سنة ثمان
وخمسين وخمسمائة وتلقب بأمير الجيوش وأخذ آل بني رزيك وزراء مصر وملوكها من قبله ، فلما
استبد بالإمرة حسده ( ضرغام )
صاحب الباب وجمع جموعًا كثيرة وغلب ( شاور ) على الوزارة في شهر رمضان منها فسار
( شاور) إلى الشام واستقل ( ضرغام ) بسلطنة مصر فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة
وزراء هم :
- العادل بن رزيك
بن طلائع بن رزيك .
- شاور بن مجير .
- ضرغام .
فأساء ( ضرغام )
السيرة في قتل أمراء الدولة وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها
الأكابر ثم إن ( شاور ) استنجد بالسلطان : ( نور الدين محمود بن زنكي ) صاحب
الشام فانجده وبعث معه عسكرًا كثيرًا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وقدم عليه (
أسد الدين شيركوه ) على أن يكون ل ( نور الدين ) إذا عاد ( شاور) إلى منصب
الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر وأن يكون ( شيركوه ) عنده بعساكره في
مصر ولا يتصرف إلا بأمر ( نور الدين ) .
فخرج ( ضرغام )
بالعسكر وحاربه في بلبيس فانهزم وعاد إلى مصر ، فنزل ( شاور) بمن معه عند التاج
خارج القاهرة وانتشر عسكره في البلاد ، وبعث ( ضرغام ) إلى أهل البلاد فأتوه
خوفًا من الترك القادمين معه ، وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية
فامتنعوا بالقاهرة وتطاردوا مع طلائع (شاور) بأرض الطبالة ، فنزل ( شاور) في
المقس وحارب أهل القاهرة فغلبوه حتى ارتفع إلى بركة الحبش فنزل على الرصد
واستولى على مدينة مصر وأقام أيامًا فمال الناس إليه وانحرفوا عن ( ضرغام )
لأمور فنزل (شاور) باللوق وكانت بينه وبين ( ضرغام ) حروب آل إلى إحراق الدور من
باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة ، وقتل كثير من الفريقين واختل أمر
ضرغام وانهزم فملك ( شاور) القاهرة وقُتل ( ضرغام ) آخر جمادى الآخرة سنة تسع
وخمسين فأخلف (شيركوه) ما وعد به السلطان ( نور الدين ) وأمر بالخروج عن مصر
فأبى عليه واقتتلا.
وكان ( شيركوه ) قد
بعث بابن أخيه ( صلاح الدين يوسف بن أيوب ) إلى بلبيس ليجمع له الغلال وغيرها من
الأموال فحشد ( شاور ) وقاتل الشاميين فجرت وقائع واحترق وجه الخليج خارج
القاهرة بأسره وقطعة من حارة زويلة ، فبعث ( شاور ) إلى ( الفرنج ) واستنجد بهم
فطمعوا في البلاد ، وخرج ملكهم ( مري ) من عسقلان بجموعه فبلغ ذلك ( شيركوه )
فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها ( شاور ) و( ملك
الفرنج ) وحصروه بها وكانت إذ ذاك حصينة ذات أسوار فأقام محصورًا مدة ثلاثة أشهر
وبلغ ذلك ( نور الدين ) فأغار على ما قرب منه من بلاد (الفرنج ) وأخذها من
أيديهم فخافوه ، ووقع الصلح مع ( شيركوه ) على عوده إلى الشام فخرج في ذي الحجة
ولحق ( بنور الدين ) فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين
وستين فجهزه ( نور الدين ) إلى مصر في جيش قوي في ربيع الأول وسيره فبلغ ذلك ( شاور)
فبعث إلى ( مري ) ملك الفرنج مستنجدًا به فسار بجموع الفرنج حتى نزل بلبيس
فوافاه ( شاور ) وأقام حتى قدم ( شيركوه ) إلى أطراف مصر فلم يطق لقاء القوم
فسار حتى خرج من إطفيح إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم فبلغ ( شاور) أن
( شيركوه) قد ملك بلاد الصعيد فسقط في يده ونهض للفور من بلبيس ومعه ( الفرنج )
فكان من حروبه مع ( شيركوه ) ما كان حتى انهزم بالإشمونين وسار منها بعد الهزيمة
إلى الإسكندرية فملكها وأقر بها ابن أخيه ( صلاح الدين ) وخرج إلى الصعيد فخرج (شاور)
بالفرنج وحصر الإسكندرية أشد حصار فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة وحاصرها
فرحل إليه ( شاور ) وكانت أمور آلت إلى الصلح .
وسار ( شيركوه )
بمن معه إلى الشام في شوال فطمع ( مري ) في البلاد وجعل له شحنة بالقاهرة وصارت
أسوارها بيد فرسان ( الفرنج ) وتقرر لهم في كل سنة مائة ألف دينار ثم رحل إلى
بلاده وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج ، وسار ( شيركوه ) إلى الشام فتحكم ( الفرنج
) في القاهرة حكمًا جائرًا وركبوا المسلمين بالأذى العظيم وتيقنوا عجز الدولة عن
مقاومتهم وانكشفت لهم عورات الناس إلى أن تدخلت سنة أربع وستين فجمع ( مري )
جمعًا عظيمًا من أجناس الفرنج وأقطعهم بلاد مصر وسار يريد أخذ مصر فبعث إليه ( شاور
) يسأله عن سبب مسيره فاعتل بأن الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر وأنه يريد ألفي
ألف دينار يرضيهم بها وسار فنزل على بلبيس وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر فسبي
أهلها وقصد القاهرة فسير العاضد كتبه إلى ( نور الدين ) وفيها شعور نسائه وبناته
يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج وسار ( مري ) من بلبيس فنزل على بركة الحبش وقد
انضم من الأعمال إلى القاهرة فنادى ( شاور ) بمصر أن لا يقيم بها أحد وأزعج
الناس في النقلة منها فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم وأولادهم وقد ماج
الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده ولا يلتفت
أخ إلى أخيه وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارًا وكراء الحمل
إلى ثلاثين دينارًا ونزلوا بالقاهرة في المساجد والحمامات والأزقة وعلى الطرقات
فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم وقد سلبوا سائر أموالهم وينتظرون هجوم العدو
على القاهرة بالسيف كما فعل بمدينة بلبيس وبعث ( شاور ) إلى مصر بعشرين ألف
قارورة نفط وعشرة آلاف مشعل نار فرق ذلك فيها فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى
السماء فصار منظرًا مهولًا فاستمرت النار بأتي على مسكن مصر من اليوم التاسع
والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يومًا والنهابة من العبيد ورجال الأسطول
وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا فلما وقع الحريق بمصر رحل ( مري ) من بركة
الحبش ونزل بظاهر القاهرة مما يلي باب البرقية وقاتل أهلها قتالًا كثيرًا حتى
زلزلوا زلزالًا شديدًا وضعفت نفوسهم وكادوا يؤخذون عنوة فعاد ( شاور ) إلى
مقاتلة ( الفرنج ) وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال فبينا هم في جبايته إذ بلغ
الفرنج مجيء ( أسد الدين شيركوه ) بعساكر الشام من عند السلطان ( نور الدين محمود
) فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس وساروا منها إلى فاقوس فصاروا إلى بلادهم
بالساحل ونزل ( شيركوه ) بالمقس خارج القاهرة وكان من قتل شاور واستيلاء شيركوه
على مصر ما كان فمن حينئذ خربت مصر ( الفسطاط) هذا الخراب الذي هو الآن : هوان
مصر وتلاشى أمرها وافتقر أهلها وذهبت أموالهم وزالت نعمهم فلما استبد (شيركوه)
بوزارة العاضد أمر بإحضار أعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة وصاروا
بالقاهرة وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة وأمرهم بالعود إليها
فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل وقالوا : إلى أي مكان نرجع
وفي أي مكان ننزل ونأوي وقد صارت كما ترى وبكوا وأبكوا فوعدهم جميلًا وترفق بهم
وأمر فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر فتراجع إليها الناس قليلًا وعمروا ما حول
الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي
بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير ثم تحايا الناس بها
وأكثروا من العمارة بجانب مصر الغربي على شاطئ النيل لما عمر الملك الصالح نجم
الدين أيوب قلعة الروضة وصار بمصر عدة ديار جلية وأسواق ضخمة فلما كان غلاء مصر
والوباء الكائن في سلطنة الملك العادل : كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير
من مساكن مصر وتراجع الناس بعد ذلك في العمارة إلى سنة تسع وأربعين وسبعمائة
فحدث الفناء الكبير الذي أقفر منه معظم دور مصر وخربت ثم تحايا الناس من بعد
الوباء وصار ما يحيط بالجامع العتيق وما على شط النيل عامرًا إلى سنة ست وسبعين
وسبعمائة فشرقت بلاد مصر وحدث الوباء بعد الغلاء فخرب كثير من عامر مصر ولم يزل
يخرب شيئًا بعد شيء إلى سنة تسعين وسبعمائة فعظم الخراب في خط زقاق القناديل وخط
النحاسين وشرع الناس في هدم دور مصرن وبيع أنقاضها حتى صارت على ما هي عليه الآن
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا.
انتهي ما نقلناه عن
المقريزي ، وهنا ينبغي أن نلاحظ شخصية الوزير ( شاور ) وأفعاله لعلنا نستفيد من
هذا الدرس من دروس التاريخ في الخروج مما نحن فيه من واقع أليم في مصر .
- الوزير ( شاور )
يستولي علي الوزارة في مصر بالقوة في عهد الخليفة الفاطمي / العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف .
- ضرغام ينازع الوزير
( شاور ) ويستولي علي الوزارة منه .
- الوزير ( شاور )
يأبي الاستسلام ويصمم علي استرداد الوزارة بأية طريقة ، فيستعين بالسلطان : ( نور
الدين محمود بن زنكي ) صاحب الشام ليعيد له وزارة مصر بشروط اتفقا عليها ،
وبالفعل ساعده في استرداد الوزارة بأن أرسل إليه قائده ( شيركوه ) وابن أخيه (
صلاح الدين بن يوسف بن أيوب ) إلا أن شاور نكل عن تنفيذ الشروط ، بل ودخل في
معارك مع شيركوه وصلاح الدين ، واستعان عليهما بالفرنج .
- وترتب علي
استعانة ( شاور ) بالفرنج أن وقعت مصر فريسة لجنود الفرنج نكلوا بأهلها ، بل
وزادت مطامع ( مري ) ملك الفرنج لاحتلال مصر بالكامل ، فتحرك نحوها بجيوشه ،
فإذا ب ( شاور ) يطلب من المصريين الخروج من مدينة مصر إلي القاهرة ، ويقوم بحرق
دور المصريين بالكامل حتي يمنع الفرنج من احتلالها ، وقامت بينه وبين الفرنج
معركة كبيرة ، وعاد ( شيركوه ) إلي مصر بجيش كبير وطرد الفرنج ، وقتل ( شاور ) ،
وأعاد المصريين إلي مدينة مصر ، إلا أن ما فعله ( شاور ) كان إيذانا بخراب كبير
لدور مصر وبلاء شديد لأهلها أدي إلي زوال الدولة الفاطمية ، وبداية للدولة
الأيوبية .
لن أصادر حقك أخي
القارئ وسأترك لك رصد التشابه بين الوزير ( شاور ) والوزير ( السيسي ) ، وما
فعله كل منهما بمصر ، بل وسأترك لك الإجابة علي السؤال الهام :
- هل سيؤدي حريق
القاهرة إلي زوال دولة العسكر ، كما أدي حريق مدينة مصر ( الفسطاط ) إلي زوال الدولة
الفاطمية ؟
وكيل لجنة الشئون
الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .
|
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق