السبت، 15 أغسطس 2015

السيسي يستلهم مذبحة رابعة من مذبحة القلعة .

 
إنها نفس الفكرة مع فارق جوهري ، حاكم مستبد يستأثر بالحكم لا يريد أن ينازعه فيه أحد أو حتي يشاركه ، ولو قام مجرد احتمال أن زيدا من الناس يفكر في المنازعة أو المشاركة قام الحاكم علي الفور بالتخلص من زيد وكل من يمت له بصلة .
العسكر يحكمون مصر منذ عام 1952 لم يسمحوا طوال هذه المدة بأي قدر من الديمقراطية ، أي مظاهر للديمقراطية في مصر في ظل العسكر كانت شكلية ، فالبرلمان هم من يعينوه بانتخابات مزورة ، هم من يعينوا مجالس النقابات واتحادات الطلاب ، هم من يعينوا قيادات كل المؤسسات القضائية أوالرقابية علي أساس الموالاة وليس الكفاءة ، وسائل الإعلام هم من يختاروا العاملين فيها ، وظلت هذه الأوضاع حتي قيام ثورة يناير المجيدة والتي استرد الشعب بمقتضاها إرادته ووضع دستوره واختار ممثليه في مجلسي الشعب والشوري والرئاسة ، فقام العسكر بهدم المعبد بعد مؤامرة شاركت فيها قوي خارجية وعناصر داخلية منها من يبغض الإسلام والإسلاميين والمرجعية الإسلامية ، ومنهم من له مصالح مع حكم العسكر ، واستردوا الحكم ، وأعادوا حكم العسكر من جديد في نموذج نازي ليس له مثيل ، ولم تشاهده مصر علي مر تاريخها حتي في عهود الاحتلال .
بعد الانقلاب أصبحت كل الفصائل والحركات السياسية التي شاركت في ثورة يناير عدوا للعسكر لأنها طالبت بالديمقراطية ومن ثم نازعتهم علي الحكم ، فاتخذ العسكر قراره بالتخلص من كل هذه الفصائل ، ولكن كيف يتخلصوا منهم ، كان لابد أن يعود السيسي والعسكر إلي ذاكرة التاريخ ، أن يعودوا إلي محمد علي باشا الذي يعتبرونه كبيرهم الذي علمهم السحر باعتباره مؤسس جيش مصر الحديثة ، محمد علي باشا الذي قال عنه السيسي أنه قدوته ، محمد علي باشا الذي يسعي مؤرخو العسكر دائما إلي تجميل صورته ، وتبرير جرائمه ، وتحويلها إلي إنجازات ، زاعمين أن ارتكابها كان ضرورة من ضرورات نهضة مصر .
كل إنسان حاكما كان أو محكوما له حسناته وسيئاته ، له مزاياه وعيوبه ، له انجازاته أو جرائمه ، ومن الإنصاف أن يذكر المؤرخ والمحلل هذا وذاك ، لا أن يغالط لتحقيق مكاسب لهذا الفصيل أو ذاك.
كان الخصم الأساسي لمحمد علي باشا هم المماليك الذين كانوا يحكمون مصر قبل ظهوره ووصوله للحكم ، وهنا يأتي الفارق الجوهري الذي أشرت إليه ، إذ لا وجه للمقارنة بين المماليك الذين هم في الأصل دخلاء علي مصر جلبهم الخلفاء والسلاطين من تركيا وألبانيا وغيرها من الدول ليستعينوا بهم في الجيش وسائر الدواويين ، ثم استولوا علي حكم مصر بعد أن زادت أعدادهم واشتد عودهم وبين فصائل المعارضة وعلي رأسهم الإخوان المسلمين الفصيل الأكبر عددا والأقوي تنظيما ، والذين هم مصريون وطنيون يضمون علية القوم تعليما وثقافة وأصحاب فكر ولهم مطالب سياسية علي رأسها التحول الديمقراطي في مصر .
ولم يكن ما ذكرناه عن المماليك هو سبب سعي محمد علي للتخلص منهم ، لأن محمد علي نفسه كان من الوافدين علي مصر ، كما أن الممالك كانوا قد عاشوا مئات السنين في مصر وأصبحوا مصريين لغة ودينا وقيما ، كما لم يكن السبب أيضا هو فساد المماليك ، لأن محمد علي نفسه ارتكب من الفساد ما لا يقل عما ارتكبه المماليك ، ومن يقرأ تاريخ الجبرتي كاملا سوف يتأكد من ذلك .
لم يحاول محمد علي باشا في بداية حكمه التخلص من المماليك إنما تصالح معهم وأحضرهم من الصعيد إلي القاهرة ليكونوا تحت بصره وأجزل لهم العطاء وارتضوا بحكم محمد علي .
إذن لماذا رتب لهم محمد علي مذبحة القلعة ليتخلص منهم بعد أن كان قد تصالح معهم ؟.
الإجابة أن السلطان العثماني " محمود " طلب منه إرسال قواته إلى نجد للمساعدة في القضاء على الثورة الوهابية ، وعندئذ قرر محمد علي القضاء على المماليك قبل خروج الجيش بقيادة ابنه " طوسون " إلى " نجد " ؛ حتى لا يثوروا ضده بعد خروج الجيش .
إنه الإرهاب المحتمل إنه احتمال قيام المماليك بثورة ضده بعد خروج ابنه طوسون إلي نجد ومعه الجيش ، فما الحل ؟ كيف ينفذ محمد علي باشا الأمر السلطاني بإرسال جيشه إلي نجد ، وفي نفس الوقت يكون مطمئن الجانب من ناحية المماليك الذين تصالح معهم ، لكي يحقق هذه المعادلة رتب مؤامرة للخلاص منهم ، رتب لهم مذبحة القلعة .
أعد "محمد علي" مهرجانًا فخمًا بالقلعة دعا إليه كبار رجال دولته ، وجميع الأمراء والبكوات والكشاف المماليك ، فلبى المماليك تلك الدعوة وعدوها دليل رضاه عنهم ، وقبل ابتداء الحفل دخل البكوات المماليك على محمد علي فتلقاهم بالحفاوة ، ودعاهم إلى تناول القهوة معه ، وشكرهم على إجابتهم دعوته ، وألمح إلى ما يناله ابنه من التكريم إذا ما ساروا معه في الموكب ، وراح محمد علي يتجاذب معهم أطراف الحديث ؛ إمعانًا في إشعارهم بالأمن والود .
يصف الجبرتى مذبحة القلعة ويقول :
" فلما أصبح يوم الجمعة سادسه ( يقصد 6 صفر 1226هـ ــ 1 مارس 1811م ) ركب الجميع ، وطلعوا إلى القلعة وطلع المصرية ( كان الجبرتى يسمى المماليك بالأمراء المصرية ) بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم فدخل الأمراء عند الباشا وصبحوا عليه ، وجلسوا معه حصة وشربوا القهوة وتضاحك معهم .
ثم انجر الموكب على الوضع الذى رتبوه ، فلما انجر الموكب وفرغ طائفة الدلاة ومن خلفهم من الوجاقلية والألداشات المصرية وانفصلوا من باب العزب ، فعند ذلك أمر صالح قوج بغلق الباب ، وعرف طائفته بالمراد فالتفتوا ضاربين بالمصرية ، وقد انحصروا بأجمعهم فى المضيق المنحدر الحجر المقطوع فى أعلى باب العزب بمسافة ما بين الباب الأعلى الذى يتوصل منه إلى رحبة سوق القلعة إلى الباب الأسفل ، وقد أعدوا عدة من العساكر أوقفوهم على علاوى النقر الحجر والحيطان التى به فلما حصل الضرب من التحتانيين أراد الأمراء الرجوع القهقرى فلم يمكنهم ذلك لانتظام الخيول فى مضيق النقر وأخذهم ضرب البنادق والقرابين من خلفهم أيضا ، وعلم العساكر الواقفون بالأعالى المراد فضربوا أيضا فلما نظروا ما حل بهم سقط فى أيديهم ، وارتبكوا فى أنفسهم وتحيروا فى أمرهم ووقع منهم أشخاص كثيرة فنزلوا عن الخيول .
واقتحم شاهين بك وسليمان بك البواب وآخرون فى عدة من مماليكهم راجعين إلى فوق والرصاص نازل عليهم من كل ناحية ، ونزعوا ما كان عليهم من الفراوى والثياب الثقيلة ، ولم يزالوا سائرين وشاهرين سيوفهم حتى وصلوا إلى الرحبة الوسطى المواجهة لقاعة الأعمدة وقد سقط أكثرهم ، وأصيب شاهين بك وسقط إلى الأرض فقطعوا رأسه وأسرعوا بها إلى الباشا ليأخذوا عليها البقشيش ، وأما سليمان بك البواب فهرب من حلاوة الروح وصعد الى حائط البرج الكبير فتابعوه بالضرب حتى سقط وقطعوا رأسه أيضا ، وهرب كثيرا لبيت طوسون باشا يظن الالتجاء به والاحتماء فيه فقتلوهم .
وأسرف العسكر فى قتل المصريين وسلب ما عليهم من الثياب ، ولم يرحموا أحدا وأظهروا كامن حقدهم وضبعوا فيهم ، وفى من رافقهم متجملا معهم من أولاد الناس وأهالى البلد الذين تزيوا بزيهم لزينة الموكب ، وهم يصرخون ويستغيثون ومنهم من يقول أنا لست جنديا ولا مملوكا ، وآخر يقول أنا لست من قبيلتهم ، فلم يرقوا لصارخ ولا شاك ولا مستغيث ، وتتبعوا المتشتتين والهربانين فى نواحى القلعة وزواياها والذين فروا ودخلوا فى البيوت والأماكن وقبضوا على من أمسك حيا ولم يمت من الرصاص أو متخلفا عن الموكب ، فسلبوا ثيابهم وجمعوهم إلى السجن تحت مجلس كتخدا بك ، ثم أحضروا أيضا المشاعلى لرمى أعناقهم فى حوش الديوان واحدا بعد واحد من ضحوة النهار إلى أن أمضى حصة من الليل فى المشاعل حتى امتلأ الحوش من القتلى ومن مات من المشاهير المعروفين وانصرع فى طريق القلعة قطعوا رأسه وسحبوا جثته إلى باقى  الجثث حتى إنهم ربطوا فى رجلى شاهين بك ويديه حبالا وسحبوه على الأرض مثل الحمار الميت إلى حوش الديوان هذا ما حصل بالقلعة " .
وبمجرد انتشار خبر المجزرة فى القاهرة حتى هاجم الجنود بيوت الأمراء المماليك واندفعوا يبحثون عنهم فى كل مكان ، ونهبوا بيوتهم ولم يتركوا كبير أو صغير من المماليك إلا وقتلوه ، وانتشر النهب والقتل فى المدينة ، وفى صباح اليوم التالى نزل محمد على باشا إلى القاهرة فى موكبه محاطا بحاشيته ورجاله ، وأمر بوقف القتل والنهب ، ومثل بمن لم يمتثل فتوقف النهب ، وأرسلوا بعدها إلى الأقاليم والصعيد يطلبون رءوس المماليك ، ولم يقبلوا شفاعة فى مملوك من كائن كان ، واستمر وصول رءوس المماليك من الأقاليم عدة أيام ، ولم ينجوا منها إلا أمين بك الذى كان متأخرا عن الموكب ، فلما سمع صوت الرصاص قفز بحصانة من فوق سور القلعة وفر إلى الشام .
ويقدر الجبرتى عدد من قتل فى القلعة بأكثر من 500 مملوك ، وحوالى 2000 آخرين فى عمليات القتل التى تبعتها فى طول مصر وعرضها ، ونصب جنود محمد على مصطبة أمام باب زويلة وعلقوا عليها رءوس القتلى ".
وأقول إن مذبحة القلعة جريمة بشعة ارتكبها محمد علي باشا لا يُقدم عليها حاكم مسلم في قلبه مثقال ذرة من خشية الله ، يقوم بقتل الآلاف من المصريين المسلمين سبق وأن تصالح معهم وارتضوا بحكمه ، وأمنوا جانبه ، لكنه قتلهم خشية الإرهاب المحتمل ، خشية أن يثوروا عليه بعد خروج الجيش .
لم يكتف بقتل المماليك الذي حضروا الحفل ، وإنما قتل كل المصريين الذين حضروا معهم ، ولم يشفع لهم صراخهم بأنهم ليسوا مماليك ولا جنود ، إنها جريمة إبادة جماعية .
لقد صدق السيسي حين صرح ذات مرة بأن محمد علي باشا قدوته ، إنه ليس قدوة السيسي فقط ، إنه قدوة جميع العسكر الذين حكموا مصر منذ عام 1952 ، لقد تعلموا منه الاستئثار بالسلطة ، ومن يقرأ تاريخ الجبرتي سيري ماذا كان يفعل محمد علي باشا لكي يحصل علي رضا السلطان العثماني ليستمر حاكما واحدا وحيدا لا شريك له ، كما تعلموا منه أن القتل مباح لكي تستمر حاكما ، بل إن مؤرخي العسكر يجعلون مذبحة القلعة من حسناته ، لقد تعلموا منه كيف ينهبون الشعب ليوفروا الأموال التي تكفل لهم رغد العيش أو التي تمكنهم من الانفاق علي مشروعاتهم الخاصة التي يقومون بها لتحقيق منافع لهم دون أدني نفع للشعب .
إن كافة حسنات محمد علي باشا في تحديث مصر ، أهدرها بقواعد الاستبداد التي أورثها للعسكر المصري ، فجميعهم ساروا علي نفس النهج ، أصبح شعارهم السلطة لنا الثروة لنا ومن نازعنا فيهما قتلناه ، هذه هي السلوكيات التي سار عليها الرئيس جمال عبد الناصر والسادات ومبارك وأسرف السيسي في استعمالها .
لقد  تخلص محمد علي باشا من كافة قيادات المماليك الذين ينافسوه علي الحكم في مذبحة القلعة من خلال جريمة إبادة جماعية واستولي علي منازلهم وأموالهم ، وهكذا ابنه وتلميذه الذي اقتدي به السيسي يرتكب جريمة إبادة جماعية ضد الإخوان المسلمين الذين ينافسوا العسكر علي السلطة ، وكما أدرج محمد علي كل المصريين الذين توجهوا لمهرجان القلعة ضمن قائمة المماليك وقتلهم ، كذلك أدرج السيسي والعسكر كل المعارضين ضمن الإخوان وقتلوهم واعتقلوهم .
لا بديل عن تحديد وضعية المؤسسة العسكرية في الدستور المصري ، وقصر دورها علي وظيفة الجيوش في كل الدول المدنية الديمقراطية الحديثة وهي حماية الحدود ، لابد من رقابة الشعب علي موازنة الجيش مثل كافة الدول المدنية الحديثة ، لابد من حظر تدخل الجيش في السياسة أو الاقتصاد ، لابد من منع الجيش من وضع السياسات الخارجية لمصر أو التعامل مع دول أو منظمات أجنبية بعيدا عن رقابة الشعب كما يحدث الآن ، حيث يتولي قيادات جيشنا شئون السياسية الخارجية لاسيما علاقتهم مع وزارة الدفاع الأمريكية ، وتلقيهم لمساعدات عسكرية لا يعلم عنها أحد شيئا ، ما لم يحدث ذلك ستظل المؤمرات ويظل الفساد الذي أوصل ديون مصر إلي اثني تريليون جنيه ، وأوصل عجز موازنتها خمسمائة مليار جنيه ، وعم الفساد كل القطاعات ، فساد إعلامي ، فساد أخلاقي ، فساد اجتماعي .
لقد أدخل محمد علي باشا بعض مظاهر الحداثة لمصر ، ولكنه أيضا وضع حجر أساس استبداد العسكر ، وفعل مثله جمال عبد الناصر أنشأ مشروعات قومية كبري ، ولكنه أضاف علي أسس الاستبداد أعمدة جديدة ، والنتيجة ، لم ينفعنا حداثة محمد علي ولا مشروعات عبد الناصر ، بعد أن أصبحنا نعيش في مستنقع الاستبداد الذي بناه الأول وقام الثاني بتوسعته ، وجاء السيسي ليجعل مستنقع الاستبداد علي كامل أرض مصر .
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة . 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق