يقول الأستاذ / هيثم الكسواني :
تعود بداية صلاح الدين مع الدولة العبيدية الفاطمية إلى سنة 559هـ ،
وهو العام الذي خرج فيه صلاح الدين نحو مصر، حيث مقر الفاطميين ، في حملة عسكرية
يقودها عمّه "أسد الدين شيركوه" ، بأمر من الملك "نور الدين محمود
زنكي" .
كان السبب المباشر في توجيه هذه الحملة هو تقديم الدعم لوزير
الفاطميين "شاور السعدي" ، في مواجهة منافسه "ضرغام المنذري" ،
حيث كان ضرغام قد نافس شاور على المنصب وأخذه منه ، فما كان من الأخير إلاّ الالتجاء
إلى نور الدين لمساعدته في العودة إلى منصبه.
كان العبيديون الفاطميون – آنذاك - يعيشون أكثر مراحل ضعفهم وتدهور
دولتهم ، فقد كان الوزراء يفرضون أنفسهم على حكام الدولة ، بل وصل الأمر بالوزراء
إلى قتل الحكام وعزلهم وتوليتهم ، ومعظمهم كانوا من الأطفال وصغار السن ، الأمر
الذي جعل نور الدين ينظر إلى مصر بأهمية بالغة ، لا سيّما وأن الصليبيين الذين
كانت حملاتهم تتوالى على المنطقة وضعوا – هُم - أيضا مصر في حسبانهم وسعوا إلى
السيطرة عليها.
والحقيقة فإن طلب شاور مساعدة نور الدين له في العودة إلى الوزارة كان
بمثابة "الشرارة" التي حرّكت رغبته القديمة بالسيطرة على مصر ، وثمة
أسباب كثيرة دفعت نور الدين لذلك ، منها :
1- أن الدولة العبيدية الفاطمية ، صاحبة المذهب الشيعي
الإسماعيلي ، والعقائد المنحرفة ، شكلت عامل ضعف وانقسام في الأمة ، لا سيما مع
وقوفها المتكرر مع أعداء الأمة ، ومؤامراتها على أمة الإسلام ومذهب أهل السنة ،
فرأى نور الدين أن إعادة مصر إلى منهج أهل السنة والدولة العباسية يشكل عامل قوة
ووحدة في الأمة.
2- أن ضعف الفاطميين ، والفوضى التي عمّت دولتهم ، من شأنها أن
تسهّل سقوط مصر بيد الصليبيين ، الأمر الذي سيضعف من جبهة الشام المقاومة
للصليبيين ، والتي كان نور الدين يتزعمها في ذلك الوقت ، وفي المقابل فإن سيطرة
نور الدين على مصر سيجعل الصليبيين الذين كانوا مسيطرين على جزء من بلاد الشام بين
فكّي كماشة.
3- حصول نور الدين على عهد من الخليفة العباسي بإطلاق يده في بلاد
الشام ومصر ، الأمر الذي قوّى من عزيمته.
4- الاستفادة من خيرات مصر ، ومواردها الاقتصادية والبشرية ، في
دعم جبهة الشام في الجهاد ضد الصليبيين .
وعلى كلّ حال ، رأى نور الدين أن إرسال حملة برئاسة القائد المحنك
شيركوه من شأنه الوقوف على حقيقة الأوضاع في مصر ، رغم شكوكه في حقيقة نوايا شاور،
والتزامه بما اتفقا عليه ، ومنها بأن يتحمل شاور تكاليف الحملة العسكرية التي ستعيده إلى
منصبه ، ورواتب الجند ، ويدفع لنور الدين ثلث خراج مصر ، وإقامة عدد من أمراء بلاد
الشام معه في مصر ، إضافة إلى اعترافه بسيادة نور الدين وتنفيذ أوامره.
شارك صلاح الدين في هذه الحملة وعمره 27 سنة ، لكن السيطرة على مصر لم
تتم لنور الدين زنكي إلاّ بعد ثلاث حملات عسكرية ، عانى فيها أسد الدين وصلاح
الدين ( الذي كان الساعد الأيمن لعمّه ) والجند الأمرّين من القتال والحصار ،
وحنْث شاور بعهوده ، وتآمره مع الصليبيين ، كما بذل فيها نور الدين غاية إمكانياته
من توفير الجند والمال والسلاح ، وتأمين الطريق من الصليبيين ، وغير ذلك من
المتاعب والصعوبات والمهالك التي استمرت مدة خمس سنوات ، وتحديدا حتى سنة 564هـ ،
عندما تمكن أسد الدين شيركوه من دخول القاهرة ، عاصمة العبيديين الفاطميين ، وقتل
شاور لخياناته المتكررة.
وكما جرت العادة بتولي المنتصر الوزارة ، عيّن خليفة الفاطميين
آنذاك ، "العاضدُ" أسدَ الدين شيركوه وزيرا ، لكنّ شيركوه توفي بعد
شهرين فقط ، ليعيِّن العاضدُ صلاحَ الدين وزيرا ، خلفاً لعمّه ، ويبدو أن صغر سن
صلاح الدين في ذلك الوقت (32 سنة تقريبا )
هو مما شجع العاضد على توزيره لاعتقاده بإمكانية السيطرة عليه وتوجيهه.
تولى صلاح الدين الوزارةَ في شهر جمادى الآخرة من سنة 564هـ (1169م) ،
ومنصب الوزير – آنذاك - هو المنصب الأهم في الدولة ، وهو صاحب السلطات الفعلية .
لكنّ الأمر لم يكن بتلك السهولة على الإطلاق ، فصلاح الدين كان أشبه بِمَن يسير
وسط حقل من الأشواك ، إذ أن هدف نور الدين بالقضاء على الدولة العبيدية الفاطمية
وإعادة مصر إلى مذهب أهل السنة والدولة العباسية تمهيدا لأن تكون جبهة موحدة في
مواجهة الصليبيين يواجه تحقيقه على الأرض صعوبات جمّة خبرها صلاح الدين أكثر من أي
شخص آخر.
رأى صلاح الدين أن اقتلاع دولة الفاطميين ، وهي التي دامت قرابة ثلاثة
قرون من الزمان ( قرنان منها في مصر ) ، واحتلت مساحة واسعة من العالم الإسلامي ،
لا يكون بقرار ، وكان يرى التريّث باتخاذ خطوة كهذه ، لا سيّما وأنها دولة عقائدية
لها الكثير من المؤيدين ( وبعضهم سنة ) ، على عكس رغبة نور الدين الذي كان يعتقد
استحالة توحيد الجبهة الإسلامية طالما ظلت دولة الفاطميين ، وبقي معهم مذهبهم
الفاسد ، ويلحّ على صلاح الدين باتخاذ هذه الخطوة.
هذا الاختلاف في وجهات نظر كلٍّ من صلاح الدين وسيدِه نور الدين جعل
البعض من أصحاب الفكر الشيعي وغيرهم من الموالين للبيت الزنكي ، وحديثا من
العلمانيين ، يضخّمون من أمر الخلاف ويصوّرونه على أنه غدر من صلاح الدين واستئثار
بأمر مصر ، على الرغم من أنه نائب لنور الدين فيها ، وبالغ هؤلاء عندما تحدثوا عن
حربٍ كادت تقع بين الرجلين ، وغير ذلك ممّا يتمنونه.
وغاية الأمر – كما قلنا - أن صلاح الدين رأى أن إسقاط دولة الفاطميين
أمر صعب ، لذلك أخذ يعدّ العدة له ، ويبذل في سبيل تحقيقه جهودا كبيرة ومتنوعة ،
سياسية وعسكرية ، بل وحتى ثقافية وفكرية ، إذ أن الدولة التي قامت على الفكر
والعقيدة لا بد أن يكون للفكر والعقيدة دور في إسقاطها.
اتخّذ صلاح الدين منذ توليه الوزارة في مصر جملةً من القرارات
والإجراءات لإسقاط دولة العبيديين الفاطميين ، وإعادة مصر إلى مذهب أهل السنة
وممتلكات دولة الخلافة العباسية كما كانت قبل قدوم العبيديين الفاطميين إليها في
سنة 358هـ (969م) ، ومن هذه الإجراءات:
- الإكثار مِن الجند الموالين له ، وخاصة مِن الأتراك ، بدلاً من
الجند الفاطميين ، أي بناء الجيش الخاص به ، كما طلب من نور الدين أن يرسل إليه
والدَه ، نجمَ الدين أيوب ، وأفراد أسرته ، ليساعدوه في إدارة الدولة الجديدة ،
والاستغناء عن الكوادر الفاطمية ، وقد عيّن صلاح الدين والدَه وزيرا للخزانة مما
أتاح له السيطرة على أموال الدولة.
- التقليل من مكانة خليفة الفاطميين العاضد ، لتحطيم فكرة قداسة
الإمام الموجودة لدى فرق الشيعة كلّها ، إذ ألزمه – مثلاً - على الخروج على
استقبال والده نجم الدين ، وكان ذلك أمرا مستغربا ، إضافة إلى استيلاء صلاح الدين
على ممتلكاته وخيوله بحجة الحاجة لها للجهاد ، كما عمل صلاح الدين من التقليل من
مكانة قصر الخلافة الفاطمية، بأن أسكن فيه أمراء دولته.
- عزل جميع قضاة مصر الشيعة ، وحصر مهمة القضاء في أهل السنة.
- إحراق كتب الشيعة الإسماعيلية ، التي كان يستخدمها العبيديون
الفاطميون للترويج لمذهبهم.
- إزالة الطقوس والبدع التي أدخلها العبيديون الفاطميون على الدين ،
فقد منع صلاح الدين إدخال عبارة ( أشهد أن عليّاً ولي الله ) على الأذان ، أو
السلام على خليفة الفاطميين فيه ، كما ألغى أعيادهم المذهبية ، وفي المقابل أمر
الخطباءَ بالتراضي على الخلفاء الراشدين والصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم.
- أنه عطّل خطبة الجمعة من الجامع الأزهر ، الذي كان أهم مراكز نشر
الدعوة الإسماعيلية ، وعطّل الدراسة فيه . كما سرّح دعاتهم ، وألغى مجالس الدعوة.
- الحفاظ على أفراد الأسرة المالكة ، ومراقبتهم ، والتفريق بين الرجال
والنساء ليكون أسرع إلى انقراضهم.
- إحياء صلاح الدين والأيوبيين لقضية النسب الفاطمي ، حيث استقر المسلمون
على التشكيك بانتساب العبيديين إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وإطلاق اسم
"فاطمة" على دولتهم ، وصدرت مؤلفات عدة في تلك الفترة تشكك بنسبهم ،
وأنهم في الحقيقة من نسب يهودي أو مجوسي ، تستروا بالانتساب للإسلام وآل البيت.
- بناء المدارس المخصصة لنشر علوم أهل السنة ، وتخصيص الأوقاف
لها.
- عمله على استمالة المصريين من خلال تحسين أوضاعهم الاقتصادية ،
وإبطال الضرائب والمكوس التي كانت مفروضة عليهم ، وإطلاق حرية التجارة.
- إبطال التعامل بالعملات الفاطمية ، لأنها كانت تحمل عقائد شيعية من
قبيل عبارة ( عليٌّ ولي الله ).
- الاستمرار في ملاحقة بقايا التشيع في الشام واليمن.
- فتح القاهرة ، عاصمة الفاطميين ، أمام الناس يدخلون ويخرجون منها
ويبنون حولها كما يشاءون ، وقد كانت قبل ذلك مدينةً خاصة بخلفائهم ، والقادة والمسئولين
، في حين كان معظم المصريين يسكنون في مدينة الفسطاط ، التي بُنيت القاهرة بجوارها
، والهدف من ذلك ابتذال عاصمتهم ومقرّ ملكهم.
استغرق الأمر من صلاح الدين حوالي ثلاث سنوات لاتخاذ الخطوة الحاسمة
بقطع الخطبة عن العبيديين الفاطميين ، وإعادتها إلى العباسيين ، والإعلان رسميّاً
عن عودة مصر إلى مذهب أهل السنة ، وهو ما تمّ فعلاً في بداية سنة 567هـ (1171م)
عندما قطع صلاح الدين الخطبة بمصر للعاضد الفاطمي ، في شهر المحرم من هذا العام ،
وأقامها للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله ، وأعاد السواد شعار العباسيين.
وما هي إلاّ أيام قليلة حتى مات العاضد ، وطُويت بذلك صفحة مؤلمة من
صفحات التاريخ الإسلامي ، وطُويت بموته هذه الدولة التي حكمت مصر والشمال الإفريقي
والحجاز واليمن وأنحاء من بلاد الشام حوالي 300 سنة ، ونشرت فيها الزندقة والبدعة ،
وتآمرت على الإسلام وأهله ، وتحالفت مع أعدائه ، وقد عمّ الفرح بسقوط هذه الدولة العالَم
الإسلامي .
انتهي كلام الأستاذ / هيثم الكسواني ، وهو يدعونا للتساؤل :
- بماذا يشعر صلاح الدين الأيوبي في قبره إذا وصلته أنباء دعم السيسي
للحكم الشيعي في العراق ، ودعم ميليشيات الحشد الشعبي الشيعي التي تُمثل بجثث أهل
السنة بعد قتلهم ، وإرساله للفنانين والفنانات المصريين للعراق ليرتدوا أزياء جنود
الحشد الشيعي دعما لهم بحجة محاربة الإرهاب علي ضوء الأجندة الأمريكية الصهيونية
من أمثال محمود الجندي وحنان شوقي وأحمد بدير وفاروق الفيشاوي وأحمد ماهر ؟ .
- وبماذا يشعر صلاح الدين الأيوبي في قبره إذا وصلته أنباء دعم السيسي
لبشار الأسد والشيعة في سوريا ضد الشعب السوري عامة وأهل السنة خاصة ؟.
- وبماذا يشعر صلاح الدين الأيوبي في قبره إذا وصلته أنباء رفع صورة
الخامنئي المرشد الأعلى لإيران علي أحد جانبي طريق من أهم طرق القاهرة .
- وبماذا يشعر إذا بلغه أن الأذرع الإعلامية للسيسي تبشر المصريين بأن
الشيعة سوف يؤدون فريضة الحج في مصر لتعويض توقف الأرز القادم لها من المملكة
العربية السعودية ؟
اللهم احفظ مصر من الانتكاسات المتتالية علي يد السيسي وأنصاره ،
واكتب لها النجاة من مكائد لا تحصي ولا تعد يا أرحم الراحمين .
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .