قلت في مقدمة المقال الأول تحت ذات العنوان
" عندما اتحد المسلمون ضد الصليبيين في هرقلة " :
جميعنا يعلم أن المسلمين فتحوا القدس عام 637 م ، وتسلمها الخليفة /
عمر بن الخطاب بنفسه ، وظلت تحت هيمنة المسلمين حتي أطلق البابا " أوربان
الثاني " عام 1095م خطبته النارية التي وضعت حجر أساس بدء الحروب
الصليبية الأوربية علي العالم الإسلامي وأراضيه ومقدساته ( القدس ) بذريعة أنها
هبة الله عز وجل لبني إسرائيل ، وأنها أرض مقدسات المسيحيين بها قبر المسيح
عليه السلام وكنيسة القيامة ، وأن المسيحيين يتعرضون فيها لاضطهاد مروع ، ومن أراد
أن يقرأ هذه الخطبة فليقرأ مقالي " الخطبة التي أشعلت الحروب الصليبية ألف
عام " .
وعلي ضوء خطبة البابا " أوربان الثاني
" بدأت الحروب الصليبية والتي استطاعت أن تستولي في طريقها علي العديد من
المدن التي كانت تحت يد الأتراك السلاجقة المسلمين مثل ( نيقية – قونية – أنطاكية –
الرها ) وغيرهم حتي تمكنوا من احتلال القدس عام 1099م .
تعرض المسلمون لهزائم مفجعة ، ومات منهم
أعداد لا يعلمها إلا الله عز وجل طوال الحروب الصليبية ، وكان السبب الرئيس هو
تفرقهم وتنازعهم علي السلطة والهيمنة علي الثروات .
رغم ذلك تمكن المسلمون من كسب العديد من
المعارك مع الصليبيين ، بل إنهم تمكنوا من استرداد القدس عدة مرات ، كما استردوا
غيرها من مدن الشام ، ولم تتحقق هذه الانتصارات إلا في الأوقات التي استطاعوا أن
يتوحدوا فيها ويطرحوا خلافاتهم وصراعاتهم جانبا .
من هذه المعارك التي انتصر فيها المسلمون علي
الصليبيين معركة " مرسيفان " و معركة " هرقلة " .
ثم عرضنا في المقال السابق ما كتبه الدكتور /
راغب السرجاني عن المعركتين ، في سلسلة مقالاته عن " الحروب الصليبية "
، وأنه أرجع انتصار المسلمين فيهما لتوحدهم بعد فرقة طويلة أدت إلي سقوط العديد من
المدن الإسلامية من بينها القدس .
ونستكمل في هذا المقال ما كتبه الدكتور /
راغب السرجاني عن معركة " هرقلة الثانية " وما ترتب عليها من آثار عظيمة
بالنسبة للمسلمين ، وكذلك ما ترتب عليها من نتائج سلبية ينبغي علي المسلمين
تلافيها في كل الأزمان ، حيث يقول :
" أما قصة معركة هرقلة الثانية فتبدأ بوصول المجموعة
الثانية من هذه النجدة الصليبية التعيسة ، حيث وصل إلى القسطنطينية ستون ألف
مقاتل من فرنسا وألمانيا ، على رأسهم "وليم التاسع" دوق "أكوتيين" و
"ولف الرابع" دوق "بافاريا" واتجهت هذه المجموعة مباشرة إلى هرقلة عبر قونية ، ومارس معها
المسلمون نفس الأسلوب الذي مارسوه مع الحملة الأولى ، حيث استدرجوهم إلى هرقلة بعد
إتلاف المزروعات وطَمْر الآبار ، فوصل الجيش الصليبي إلى هرقلة في أوائل سبتمبر من
سنة 1101م في حالة مأساوية من الجوع والعطش والإنهاك ، وما لبثت المعركة أن بدأت لتصل في خلال ساعات إلى نفس النتيجة حيث
أُبيد الجيش الصليبي بكامله ، ولم ينجُ إلا الأمراء الذي هربوا إلى أنطاكية !!
ولعله من الملاحظ في المعارك الثلاثة أن أمراء الجيش الصليبي كانوا
يفتحون لأنفسهم طريقًا للهرب تاركين الجموع المسكينة لمصيرهم المشئوم !
وهكذا دائمًا طبيعة الجيوش التي تفتقر إلى قضية ، ولا يحرك القائد
فيها إلا شهوته للتملُّك ورغبته في التوسع !
لقد كانت ثلاث معارك هائلة في أقل من شهرين فَقَد فيها الصليبيون
قرابة ربع مليون مقاتل ، إضافةً إلى الغنائم والسبي ، ولا شك أن حدثًا كبيرًا كهذا
كان له من الآثار ما لا يحصى ، ولعله من المناسب أن نقف وقفة لنتدبر في نتائج هذه
المعارك المهمة ، وأثرها على سير الأحداث :
أولاً: ارتفعت معنويات المسلمين في كل مكان ، ليس في آسيا الصغرى فقط
ولكن في كل العالم الإسلامي ، فالمسلمون كانوا يفتقرون إلى نصر يعيد لهم ثقتهم
بأنفسهم ، ويُهوِّن عندهم قوة الصليبيين ، وهذه المعنويات المرتفعة - وإن لم يكن
لها مردود سريع - فقد رسَّختْ في الأذهان فشل الادِّعاء القائل بأن الصليبيين قوة
لا تقهر ، وهذه خطوة مهمة في بداية التغيير.
ثانيًا: من المفترض أن المسلمين فهموا بعد هذه المعارك الثلاث بعض أسباب النصر،
ولعل من أبرز هذه الأسباب وضوحًا الجهاد والوحدة.
فالحقوق لا تعود إلى أصحابها عن طريق إقناع المعتدين بالعدول عن
اعتدائهم ، ولا عن طريق طاولة مفاوضات ، ولا عن طريق وساطة غربية ولا شرقية ، إنما
تعود الحقوق بالدفاع الجريء عنها ، وبالصمود الطويل ، وبالصبر الجميل ، وبالإعداد
والتجهيز ، وبذل الوسع والطاقة ؛ وهو ما وَضَح لنا جميعًا في خطوات سير المعارك
الثلاث.
كما أن الوَحْدة بين "قلج أرسلان" و "كمشتكين" ضاعفت
القوة ، وسددت الرمية ، وأزعجت الأعداء ، وأرهبت صدورهم ؛ مما قاد إلى النصر بشكل
طبيعي مفهوم.
ثالثًا : للأسف
الشديد ، وللمرة الثانية في حروب "السلاجقة" و "الدانشمنديين"
، لم نر التوجه الإسلامي واضحًا في الحرب التي خاضوها ، ولم تنقل المصادر إلينا
اشتياقًا إلى الشهادة ، أو رغبة في دخول الجنة ، إنما أخذت المعارك الطابع القومي
والوطني ، وطابع الحفاظ على الأراضي والديار والأملاك ، وهذا وإن كان من الممكن أن
يحقق نصرًا كما رأينا ، إلا أن هذا النصر يكون مرحليًّا غير ممتد ؛ لأن الله
لا يتم نصره إلا لمن قاتل في سبيله ، ووحَّد وجهته كلها لله.
ومما يؤكد قومية التوجه عند الأتراك في هذه
المعارك أنهم لم يسعوا إلى استغلال هذا النصر والتفوق في تحرير المدن الإسلامية
المحتلة ، مع قربها الشديد من أرضهم ، وخاصةً
أنطاكية والرها.
رابعًا: مع حلاوة
هذا النصر وبريقه فإنَّ قادة المسلمين في الشام كانت على أعينهم غشاوة سميكة
جدًّا ، فلم يفهموا هذا النصر ، ولم يعلموا أسبابه ، بل لم يفكروا في استغلال أزمة
الصليبيين بفقدان هذا العدد الهائل من الجنود ، ومن ثَمَّ لم يسعوا إلى تحرير
أوطانهم وديارهم .
خامسًا: تفرغ
الأتراك في آسيا الصغرى بعد هذه المعارك إلى بسط سيطرتهم على المدن هناك ،
فسيطر "قلج أرسلان" على وسط آسيا الصغرى ، واتخذ قونية عاصمة له ، بينما ركَّز "كمشتكين بن الدانشمند" جهوده في الشرق ،
وأسقط ملطية تحت سيطرته.
سادسًا : أغلقت هذه المعارك
الطريق البري من القسطنطينية إلى أرض الشام أمام القوات الصليبية ، وظل
هذا الطريق مغلقًا قرابة قرن كامل من الزمان حتى زمان الإمبراطور الألماني "فردريك
باربروسا" في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي ؛ مما يشير إلى مدى الرهبة التي تُلقى في قلوب أعداء الأمة إذا رُفعت
راية الجهاد والمقاومة.
سابعًا : أدى انغلاق الطريق
البري لأرض الشام أن نشطت جدًّا حركة السفن في البحر الأبيض المتوسط للوصول
بالإمدادات والمؤن والجيوش إلى الموانئ الشامية والقسطنطينية ، ولما كانت معظم هذه السفن مملوكة للجمهوريات الإيطالية فإنَّ دور
هذه الجمهوريات أصبح مؤثرًا جدًّا في أحداث الحروب الصليبية ، ولعشرات السنوات المقبلة.
ثامنًا: أدت هذه
الانتصارات الإسلامية إلى قلق الصليبيين في الشام ، وهذا أدى بدوره إلى توقف
حركاتهم التوسعية ، وقناعتهم بالاكتفاء بالحفاظ على ما بأيديهم ، خاصةً أن هزيمة
الصليبيين كان لها وقع سيِّئ جدًّا على الغرب الأوربي مما عوَّق جهود الكنيسة في
جمع المقاتلين.
تاسعًا : أدت هذه
الانتصارات إلى اقتناع الدولة البيزنطية أن قوتها أضعف من أن تخوض قتالاً مباشرًا
مع الأتراك في داخل آسيا الصغرى ، ومن
ثَمَّ لم تحاول أن تدخل جيوشها إلى هذه المناطق إلا بعد وفاة قلج أرسلان بعد
ذلك بست سنوات.
عاشرًا: نتيجة سلبية خطيرة لهذا النصر ، وهي أن البيتين التركيين الكبيرين :
البيت "السلجوقي" ، والبيت "الدانشمندي" دخلا في صراع محتدم
بعد هذا الانتصار، فقد تفرَّغ كل منهما للآخر ، ولم يفهما قيمة الوحدة التي أنعم
الله بها عليهما في وقت من الأوقات ، ومن ثَمَّ نظر كل طرف إلى مصالحه الخاصة ،
وإلى أطماعه التوسعية ؛ ولما كانت مساحة آسيا الصغرى محدودة ، فكان لا بد من
التوسع على حساب الطرف الآخر! كما أن وفرة الغنائم وكثرة الأموال كانت من العوامل
التي أغرت الطائفتين بنسيان الأصول الإسلامية ، والتفرُّغ لجمع الدنيا!!
لكن على العموم فإن هذه المعارك التي حدثت أدت إلى خروج آسيا
الصغرى تقريبًا من موازنات الحروب الصليبية ، حيث أخرجها الصليبيون من حساباتهم لفترة طويلة ، كما أخرج سكانها
المسلمون بقيَّة القضايا الإسلامية - وعلى رأسها احتلال الشام وفلسطين - من حساباتهم
، وصارت قضية احتلال القدس وغيرها من المدن الإسلامية وكأنها من قضايا الشأن
الداخلي التي تخص الفلسطينيين والشاميين ، ولا دخل لبقية المسلمين فيها ، وهذا - لا
شك - قصور كبير في الفَهْم ، وبُعد هائل عن حقيقة الشرع وطبيعة الدين!
يعيدنا حديث الدكتور / راغب السرجاني إلي
الحقيقة التي لا مراء فيها ، ولا غني للعالم الإسلامي عن تبنيها والعمل لتحقيقها ،
وهي وحدة الشعوب الإسلامية في مواجهة العدوان الغربي المستمر الذي لم ينقطع منذ
عام 1095م بسبب تصميم الغرب علي احتلال الأراضي المقدسة الإسلامية ، وهو ما يفسر
لنا كافة صور عدوان الغرب علي العالم الإسلامي حتي هذه اللحظة .
وحدة الشعوب الإسلامية ضد أنظمة الحكم
العربية المستبدة العميلة التي يستخدمها الغرب منذ قرابة المائة عام في الصفوف
الأولي من جيوشه المحاربة للمسلمين .
وحدة الشعوب الإسلامية لانتزاع الديمقراطية
والتي تتفق مبادئها مع الإسلام ، والتخلص من نظريات فقهاء السلطان ، مثل "
الإمامة " عند الشيعة ، و"ولاية العهد" في الملكيات العربية ،
و" الإمام المتغلب " وغيرها من النظريات الفقهية السلطوية الفاسدة التي
جعلت المسلمين في ذيل الأمم بعد أن كانوا في مقدمتها .
ويجب أن يتحدث المسلمون عن مبدأ "
الوحدة الإسلامية " باعتباره فريضة إسلامية ، بدلا من الحديث عن "الخلافة"
، فالخلافة مجرد وسيلة اتبعها المسلمون بعد موت النبي ( ص ) لتحقيق وحدة الأمة ،
فهي وسيلة يمكن أن نحقق بها مبدأ الوحدة الإسلامية ، كما يمكن تحقيق الوحدة
الإسلامية بغير هذه الوسيلة ، وربما كان هناك من الوسائل ما يحقق هذه الوحدة أكثر
من نظام "الخلافة" الذي تُعزي إليه وإلي نظام "الإمامة" عند
الشيعة غالبية الحروب التي شهدها العالم
الإسلامي منذ فجر الإسلام.
ولا يعني ما تقدم أننا نقول بإمكانية بقاء
المسلمين بلا حاكم ، وإنما نتحدث عن الحالات التي يستحيل أو يصعب فيها اختيار حاكم
واحد لكافة الدول الإسلامية بسبب اتساعها ، وتعدد شعوبها وتنوعهم ، وهي الحالة
التي ينبغي معها الحديث عن نظم قانونية حديثة لتطبيق مبدأ " الوحدة الإسلامية
" علي نحو ما فعلت الولايات الأمريكية المستقلة عندما اتحدت في اتحاد
كونفدرالي بحكومة مركزية ضعيفة ، ثم طورته لاتحاد فيدرالي بحكومة مركزية قوية ، إذ
لاشك أن ذلك هو الأسلوب الأمثل بدلا من قيام حروب مستمرة بين المسلمين بين الحين
والحين ، لأن هذه الفئة أو تلك تريد فرض الخلافة بالقوة علي باقي الأمة الإسلامية
، أو كشيعة إيران الذين يقتلون المسلمين السنة في العراق وسوريا واليمن لفرض
إمامتهم الباطلة التي لا تمت للإسلام بصلة .
فالشيعة أنصار الإمامة ظلوا يخوضون الحروب
ويقتلون الآلاف أو الملايين من المسلمين لفرض إمامتهم الباطلة ، وأنصار الخلافة
يقتلون الآلاف أو الملايين لفرض خلافتهم ما بين الخلافة العباسية والأموية
والفاطمية وغير ذلك كثير .
الخلافة نظام حكم قابل للتغيير بحسب الظروف
والأحوال والممكن وغير الممكن ، أما المبادئ الإسلامية الثابتة من الدين بالضرورة
مثل مبدأ " الوحدة الإسلامية " فهي التي يجب أن نرسخها في نفوس المسلمين
، ونسعي لإيجاد الوسائل المناسبة والسلمية لتطبيقها ، حتي لا يظل اختيار الحكام
المسلمين أهم أسباب اقتتالهم إلي يوم القيامة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق