السبت، 15 أكتوبر 2016

الاحتلال الأول للقدس بين خيانة الشيعة وحكام المسلمين.



تحت عنوان " قصة الحروب الصليبية " كتب الأستاذ الدكتور / راغب السرجاني ما يزيد عن الأربعين مقالا شرح فيها تاريخ الحروب الصليبية التي شنتها دول أوربا بقصد احتلال القدس بدءًا من استعراض أحوال العالم الإسلامي قبل بدء هذه الحروب ومرورا بدوافعها الدينية والاقتصادية والاجتماعية .

كما استعرض المعارك التي خاضتها الحملة الصليبية الأولي مع دولة السلاجقة الأتراك المسلمين والتي انتهت بسقوط المدن الإسلامية ( نيقية وقونية والرها وأنطاكية ) وغيرهم كثير ، ثم خط سير الحملة بعد تحقيق أكبر انجازاتها والمتمثل في سقوط أنطاكية والذي أعقبه التحرك نحو القدس وهو الهدف الأساسي الذي تحركت الحملة من أجله .

وفي المقال الرابع والعشرين من السلسلة وتحت عنوان " الخيانة العبيدية الشيعية " تعرض الدكتور / راغب السرجاني لخيانة الشيعة العبيديين الذي أطلقوا علي أنفسهم الفاطميين ، والذين كانوا يحكمون مصر والقدس في وقت وصول الحملة الصليبية للقدس ، كما تحدث عن خيانة الحكام المسلمين الذين كانوا يحكمون الإمارات التي تمر بها الحملة في طريقها من أنطاكية إلي القدس ، حيث قال عن ذلك :

وصلت السفارة العبيدية الشيعية المصرية إلى الصليبيين محمَّلة بالأموال الغزيرة والهدايا الثمينة لكل قائد من قوَّاد الحملة الصليبية ، وبعرضٍ من الدولة العبيدية أن تسهِّل حجَّ الصليبيين وكل النصارى إلى بيت المقدس ( المحكوم حتى هذه اللحظة بالدولة العبيدية ) ، على أن يدخل الحجاج إلى القدس غير مسلَّحين ، وسوف تقرُّ الدولة العبيدية الصليبيين على ما تحت أيديهم من بلاد ، سواء في آسيا الصغرى أو سوريا أو لبنان .

هكذا!!

فاجأ الصليبييون السفارة العبيدية بالردِّ الساخر ، أنهم سيتمكَّنون من أداء الحج كما يريدون ولكن ليس بمساعدة الدولة العبيدية ، وهذا يعني إعلانًا مباشرًا للحرب ، إذ كيف سيدخلون البلد دون سماح حُكَّامها ؟!

الحقُّ أن موقف الدولة العبيدية ( الشيعية ) يحتاج إلى نظرة وتدبُّر، وعودة للوراء قليلاً لنعرف شيئًا عن الدولة العبيدية، وعن تاريخ بيت لمقدس في هذه الفترة.

إن بعض المؤرِّخين -سواء من القدامى أو من المحدثين- يتعجَّبون من ردِّ فعل الدولة العبيدية تجاه الحملة الصليبية ، ومن حالة المعاملة الفجَّة التي ظهرت في أقوالهم وأفعالهم ، ومن بعض المواقف التي لا تُوصَف بأقل من أنها مخزية ومشينة ، ومع ذلك فالذي يُرَاجِع التاريخ يجد أنه لا عجب مطلقًا فيما رأيناه من ردِّ فعلٍ للدولة العبيدية تجاه الحروب الصليبية.

لقد كان من أهداف الدولة العبيدية الرئيسية منذ قامت هي أن تُحَارِب المسلمين السُّنَّة في كل مكان ، فقد حاربت أهل السُّنَّة في المغرب ، وقتلت العلماء والعُبَّاد ، وكان ذلك في سنة 296هـ ، ثم جعلت من همِّها أن تحارب الدولة السُنِّيَّة في الأندلس ، بل وتعاونت مع الصليبيين في شمال الأندلس ضد دولة عبد الرحمن الناصر رحمه الله ، ثم اجتاحت شمال إفريقيا ، واحتلت مصر سنة 358هـ  969م ، وفعلت بعلمائها السُّنَّة مثلما فعلت في المغرب ، ثم توسَّعت في نفس السنة في الشام ، واحتلت بيت المقدس وكذلك دمشق ، ودام هذا الاحتلال أكثر من مائة سنة.

لقد بقِيَ العبيديون في بيت المقدس حتى حرَّرها ألب أرسلان - رحمه الله - عن طريق قائده أتسز ( الأقسيس ) ، وذلك في سنة 463هـ / 1071م ، ثم دخل بيت المقدس في مُلْكِ "تتش بن ألب أرسلان" سنة 471هـ / 1079م ، وتولَّى الإمارة حينئذ "أرتق بن أكسب" ، ثم ابنه "سكمان بن أرتق" سنة 485هـ / 1091م تحت ولاية "دقاق بن تتش" مَلِكِ دمشق .

ولكن العبيديين لم يُسَلِّموا بضياع بيت المقدس وفلسطين من أيديهم ؛ ولذلك رحبوا بقدوم الصليبيين إلى آسيا الصغرى والشام لكي يشغلوا الأتراك السُّنَّة وينفردوا هم ببيت لمقدس وفلسطين ؛ ولذلك فقد استغلَّ العبيديون فرصة انشغال الأتراك في حرب الصليبيين ، ووجَّهوا قوتهم لغزو بيت المقدس سنة 490هـ / 1097م ، واستولَوْا عليه بالفعل ، بل ولم يتورَّعوا عن القيام بمفاوضات مع الصليبيين لإقرارهم على الشام في مقابل إقرار الصليبيين لهم على فلسطين كما وضَّحْنَا.

إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة .

أمَّا الصليبيون فقد أخذوا قرار احتلال فلسطين ، وخاصَّةً بيت المقدس ، فلا مجال عندهم الآن للتفاوض مع العبيديين ، ومن ثَمَّ كان ردُّهم الساخر على سفارتهم.

ترك الصليبيون طرابلس ووصلوا إلى بيروت فصيدا ثم صور ، والمسلمون في كل ذلك يتجنَّبونهم بالهدايا والأموال لكيلا يتعرضوا للإيذاء ، ثم اخترقوا لبنان إلى فلسطين ، وعبروا نهر الكلب ، وهو الحدُّ الفاصل آنذاك بين أملاك السلاجقة وأملاك الدولة العبيدية ، فمرُّوا بعكا فقام أميرها العبيديّ بتمويلهم بالطعام والمؤن ، ووعد بالدخول في طاعتهم بعد سقوط بيت المقدس!

نعمثم مرَّ الصليبيون بقَيْسَارِيَة ثم أُرْسُوف ، ثم غيَّروا طريق الساحل ، وشقُّوا البلاد شرقًا إلى الداخل صوب بيت المقدس ، واحتلُّوا في طريقهم الرَّمْلَة ، وهي مدينة صغيرة ، ولكنها تسيطر على الطريق الواصل من بيت المقدس إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فسيطر عليها الصليبيون ليؤمِّنوا طريقهم بعد ذلك إلى البحر ، حفاظًا على إمدادات السفن والأساطيل الأوربية ، وفي هذه المدينة "الرملة "توقَّف الصليبيون ليعقدوا اجتماعًا مهمًّا لتحديد خطوات الغزو ، وكان ذلك في 492هـ/ أوائل يونيو 1099م.

بحث الصليبيون في هذا اجتماع الرملة نقطة مهمة تُفَسِّر خطوات مستقبليَّة في الحملات الصليبيَّة ، لقد ناقشوا قضيَّة غزو القاهرة وإسقاط مصر!!

لقد فهم الصليبيون في ذلك الوقت المتقدِّم أن مفاتيح بيت المقدس موجودة في القاهرة ، ولم يكن هذا فقط لأن العبيديين يُسيطرون على بيت المقدس الآن ؛ فقد اتضح للصليبيين مدى هلع العبيديين من قوَّة الصليبيين ، ولكن للبُعْدِ الإستراتيجي المهمِّ لهذا البلد الكبير مصر، والذي يحدُّ فلسطين من جنوبها وغربها ، والذي به طاقة بشريَّة ضخمة ، وإمكانيات اقتصاديَّة عالية ، وشعور فطريّ بالتقارب مع فلسطين ، وخاصَّة فيما يتعلق ببيت المقدس ، وبه المسجد الأقصى ؛ لذلك فكَّر الصليبيون في هذا الاجتماع في قضية غزو مصر ، غير أنهم وجدوا أن قوتهم غير كافية لهذه الخطوة الجريئة ، خاصة أن عليهم إذا فعلوا ذلك أن يجتازوا حاجزًا صحراويًّا صعبًا وهو صحراء سيناء ، وقد تهلك فيه القوة الصليبية.

ولذلك عدلوا عن هذا الرأي ، وقرَّروا التوجُّه مباشرة إلى بيت المقدس ، لكن هذا الاجتماع أظهر فكرة ظلَّت مسيطرة على عقول قادة الحروب الصليبية وخلفائهم ، والتي وُضِعت بعد ذلك موضع التنفيذ في الحملتين الخامسة والسابعة من الحملات الصليبية ، حيث تمَّ غزو مصر غزوًا صريحًا  .

سؤال لا بد منه : أين الجيوش الإسلاميَّة في طول هذه المسافة التي قطعها الجيش الصليبي من أنطاكية إلى بيت المقدس ، وهي مسافة تزيد على ستمائة كيلو متر؟!

لقد افتقد المسلمون في هذه الآونة لمقوِّمات رئيسية من مقومات قيام الأُمَّة ؛ لذلك قَبِلَتْ جموع المسلمين أن تَحُثَّ هذه الأقدام النجسة على طريقها إلى مسرى رسول الله ، وأُولَى القبلتين وثالث الحرمين ، وإلى الأرض المباركة ، دون أن يتحرَّك لهم ساكن ؛ ولذلك حُصِر المسلمون في بيت المقدس!

لقد عانى المسلمون في هذا الوقت من أمراضٍ شتَّى.

لقد عانَوْا من بُعْدٍ عن الدين ، وغياب للحميَّة الإسلاميَّة ، وافتقاد للنخوة المستندة إلى عقيدة قويَّة صحيحة.

وعانوا كذلك من فُرقة مؤلمة ، وتشتُّت فاضح ، حتى صارت كل مدينة إمارة مستقلة ، ودويلة منفصلة ، بل ومتصارعة مع جيرانها المسلمين.

وعانوا أيضًا من افتقار لزعامة مخلصة متجرِّدة ، تجمع الشتات في كيان واحد ، وترغب في رفعة هذه الأمة دون نظر إلى مصالح الذات ورغبات النفس.

كما عانى المسلمون فوق ذلك من رؤية واضحة للواقع الذي يعيشونه ، وللأخطار المحدقة بهم ، وعانوا أيضًا من نقص حادٍّ في الدراية السياسية أو الكفاءة العسكريَّة.

لقد كانت الأُمَّة تمرُّ فعلاً بأزمة مركَّبة معقدة!

لكن إن كنا نتعجب من موقف الأمة وتخاذلها ، فإن العجب يأخذنا وبشكل أكبر من موقف الصليبيين ! كيف أَمِنُوا على أنفسهم أن يخوضوا كل هذه المسافات في عمق العالم الإسلامي، وهم لا يشعرون بخوفٍ ولا وَجَلٍ ؟! إنهم يتوغلون في كثافة بشريَّة عالية جدًّا ، ومحصورون بين عدة إمارات تحوي عدَّة جيوش مسلمة ، والمسافة بينهم وبين أوطانهم بعيدة هائلة ، فلو هُزِمُوا سُحِقُوا ، وليس لهم مهرب ولا منجى!

كيف استطاعوا أن يتغلَّبوا على الخوف الفطريّ للبشر، وقَبِلُوا بهذه المغامرة الخطيرة ؟!

إن الإجابة بأنهم خرجوا من ظروف صعبة جدًّا في أوربا ، جَعَلَت الحياة هناك أقرب إلى الموت ، وجعلت طموحهم في ترك واقعهم الأليم يطغى على أية رغبة أخرى ، وجعلت الموت في أرض فلسطين لا يفترق كثيرًا عن الحياة في أوربا الفقيرة آنذاك. إن هذه الإجابة فقط لا تشفي الغليل ، ولا تفسِّر عدم الرهبة ، وقلَّة الاكتراث الذي رأيناه في الجيوش الصليبية ؛ فالروح عزيزة على النفس ، وخاصَّةً إن لم يكن الإيمان باليوم الآخر والجنة وازعًا قويًّا يدفع إلى الموت.

فما تفسير هذه المعادلة الصعبة ؟

ولماذا بدت الشجاعة في قلوب الصليبيين واضحة جليلة ؟!

إن هذا يفسره لنا حديث رسول الله الذي رواه ثوبان ، وبه يفسِّر الأوضاع وكأنه يراها رأي العين ؛ قال رسول الله  ":

" يوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا. قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : " أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. قَالَ: قُلْنَا : وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".

إن الأمم الغربيَّة التي تداعت من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا لم تأتِ بهذه القوة والشجاعة إلاَّ لأنَّ الله نزع الرهبة من قلوبها من جموع المسلمين ، فصاروا لا يكترثون بهم ولا بأعدادهم وحصونهم وسلاحهم ، ورأينا اجتماعات الصليبيين لا تُعَبِّر أبدًا عن خوف في صدورهم ، أو عن قلق من مقاومة المسلمين ، إنما يتحرَّكون هنا وهناك بحرية تامَّة ، وباطمئنان كامل !!

والمسلمون على الجانب الآخر أُلقى في قلوبهم الوَهْن والضعف والخَوَر، فيرتعبون لرؤية الجنود الصليبيين ، ولو كان الصليبيون أقلَّ منهم في العدد ، وأضعف منهم في العُدَّة.

ولنا مع الحديث وقفتان ، وإن كانت وقفاته كثيرة:

أمَّا الوقفة الأولى:  فهي أن الله هو الذي ينزع الرهبة مِنَّا من قلوب أعدائنا ، وهو الذي يلقي في قلوبنا الوهن ! وقد يقول قائل : ولماذا يفعل ربنا ذلك ، مع أننا في النهاية مؤمنون ، وهم كافرون ؟! فنقول : إن الله أَبَى أن يُعِزَّ المسلمين إلا إذا ارتبطوا بالإسلام ، والتزموا بالقرآن والسُّنَّة ، ولو نَصَرَهُم وهم يُفْرِطون في الشرع لصارت فتنة عظيمة ؛ إذ سيقول الناس : إننا لسنا في حاجة للإسلام ، فقد نُصِرْنَا بغيره ؛ لذلك تحدث مثل هذه المواقف العجيبة ليلتفت المسلمون إلى دينهم ، وليضع المسلمون أيديهم على مفاتيح النصر الحقيقيَّة.

أما الوقفة الثانية:  فإنها مع السبب الذي من أجله حدثت كل هذه التداعيات المؤلمة ، إنَّ وصف الحدث والمأساة أخذ كلمات كثيرة ، ولكن السبب وراء كل ذلك لم يأتِ إلاَّ في جُمْلَتين قصيرتين : حُبّ الدنيا ، وكراهية الموت.

إن المسلمين تعلَّقوا بالدنيا تعلُّقًا غير مقبول ، حتى صاروا يكرهون الموت في سبيل الله ، وأُمَّة ترهب الموت لا بُدَّ أن تُقْهَر ، وأُمَّة تعشق الدنيا لا بُدَّ أن تذلَّ ، والدنيا ملعونة كما ذكر رسولنا   ، والمتمسِّك بها يهلك ، ليس هذا فقط بل وتضيع منه الآخرة.

إن هذا السبب يُفَسِّر لنا التخاذل الرهيب الذي رأيناه من جموع المسلمين التي كانت تخرج إلى الصليبيين وهي تحمل الهدايا النفيسة ، والأموال الطائلة ، لكي يتركونهم "يعيشون" ! مجرَّد حياة ، أيًّا كانت هذه الحياة ، وهذا -والله- هو الهوان بعينه.

هكذا حُصِرَ المسلمون المتمسِّكون بدُنياهم في بيت المقدس ، وراقب المسلمون البعيدون عن القدس الموقف في سكون ، ينتظرون اليوم الذي ستدور عليهم فيه الدوائر!!

ويستكمل الدكتور / راغب السرجاني في المقال الخامس والعشرين من سلسلة " الحروب الصليبية " علي موقعه " قصة الإسلام " حديثه عن خيانة الشيعة ، وكذلك خيانة الحكام المسلمين ، بل والشعوب الإسلامية معهم ، فيقول :

غادر الصليبيون الرملة في 492هـ / 6 من يونيو 1099م ، ووصلوا حول أسوار بيت المقدس في 492هـ / 7 من يونيو 1099م . لقد وصلوا إلى المحطَّة الأخيرة في الخُطَّة التي وضعها البابا أوربان الثاني في كليرمون بفرنسا قبل هذا الموقف بأكثر من ثلاث سنوات ونصف.

ويفيض هنا المؤرخون الأوربيون في وصف مشاعر الصليبيين عندما رأوا المدينة المقدسة ! وليس هذا إلاَّ لتجميل الوجه القبيح للغزو الصليبي البشع ، فهذه الجموع كثيرًا ما تردَّدت في الوصول إلى هذا المكان ؛ لأنهم قَنَعُوا في الطريق بممالك أخرى ، وهذه الجموع تنازعت كل أنواع الدنيا من مال وأسلاب وأملاك وزعامة ، وهذه الجموع أقسمت الأَيْمان ثم غدرت ، وهذه الجموع سترتكب في داخل المدينة المقدسة ما تخجل منه الإنسانية جميعًا !!

بدأ حصار الجيوش الصليبية المحكم حول المدينة في يوم 7 من يونيو 1099م .

ولم يُضَيِّع الصليبيون وقتًا ، بل أخذوا يقصفون المدينة معتمدين على عدد كبير من آلات الحصار كانوا يصحبونها معهم ، ولم يمْلِك المسلمون في داخل المدينة إلاَّ محاولة المقاومة اليائسة ، والمطاولة قَدْرَ ما يستطيعون .

وفي يوم 15 من يونيو 1099م ، وبعد أسبوع من الحصار وصلت إلى ميناء يافا بعض السفن الجنويّة تحمل المؤن والسلاح وبعض الجنود ، واستطاعت هذه السفن القليلة أن تُسيطر على ميناء يافا بسهولة ؛ لأن السكان هجروا المدينة بعد أن اقترب الصليبيون من أُرْسُوف ! وكان لهذه الإمدادات أكبر الأثر في تثبيت أقدام الصليبيين ، ومن ثَمَّ ازداد الحصار ضراوة وقوة .

ومرَّت الأيام الصعبة ، والعالم الإسلامي يُشاهِد الجريمة في صمت ، ومرَّ شهر كامل والمدينة محاصَرة ، وأصبح الموقف صعبًا على الفريقين ؛ إذ بدأت حرارة الصيف تُلهب رءوس الصليبيين ، فهذا شهر يوليو بشمسه الملهبة وترامت بعض الأخبار أن العبيديين أخرجوا جيشًا من مصر لإنقاذ المدينة المحاصَرة ، فأسرع الصليبيون الخطوات لكي يُسقطوا المدينة المقدسة قبل أن يتعرضوا للمشاكل التي عانوا منها في حصار أنطاكية ، وصنع الصليبيون بُرجين خشبيين للارتفاع فوق أسوار المدينة ، وقد تم صنع هذين البرجين باستخدام خشب الأسقف من المنازل ببيت لحم بعد هدمها ، وبدأ الهجوم باستخدام الأبراج ، وأحرق المسلمون البرج الأول باستخدام السهام المشتعلة ، غير أن الصليبيين استطاعوا الضغط على المدينة باستخدام البرج الثاني ، وعبر الجنود الصليبيون فوق الأسوار إلى داخل المدينة.

سقوط بيت المقدس استطاع الصليبييون فتح أبواب المدينة من الداخل ، ومن ثَمَّ تدفَّق الصليبيون بغزارة داخل المدينة المقدسة !! وكان ذلك في يوم الجمعة 22 من شعبان سنة 492هـ الموافق  15 من يوليو سنة 1099م ، وهو من الأيام المحزنة التي لا تُنْسَى في تاريخ الأُمَّة .

ولم يكن للمسلمين المحاصرين في داخل القدس من هَمٍّ إلاَّ الفِرار من وجه الجنود الصليبيين الذين كانت تبدو عليهم علامات الوحشيَّة والبربريَّة.

وتساؤل مهمٌّ : أين كانت الحامية العسكريَّة العبيديَّة ، وقائد المدينة العبيديّ افتخار الدولة ؟

لقد تركوا الشعب وذهبوا إلى محراب داود واعتصموا به ثلاثة أيام ، ثم في ظروف غامضة تم إخراجهم بواسطة الصليبيين في أمان تامٍّ ، حيث نُقلوا إلى عسقلان ومنها إلى مصر دون أن يلحقهم أذى !! مما يؤكِّد أنهم اتفقوا مع الصليبيين على تسليم المدينة مقابل الأمان لهم !

وتُرِكَت المدينة بلا جيش !

انطلق الصليبيون الهمج ليستبيحوا المدينة المستسلمة ، ولم يجد السكان المذعورون أملاً في النجاة إلا في الاعتصام بالمسجد الأقصى ؛ لعل الصليبيين يحترمون قدسيَّة المكان ، أو حُرمة دُور العبادة ، لكن هذه المعاني لا تشغل عقول الصليبيين ، لا من قريب ولا من بعيد !

وذُبح في المسجد الأقصى سبعون ألف مسلم ، ما بين رجل وامرأة وطفل!! وهؤلاء هم كل سكان المدينة تقريبًا ، فقد صُفِّيَتْ تمامًا ، ولم ينجُ منها إلا الحامية العسكريَّة العبيديَّة !

هذه هي الحملة الدينيَّة التي جاءت من أجل الربِّ ، وخدمة للمسيح !

وصمة عار حقيقية في جبين أوربا لا تُنْسَى على مرِّ العصور!

لقد ذكر وليم الصوري - وهو أحد مؤرِّخي الحرب الصليبية - أن بيت المقدس شهد عند دخول الصليبيين مذبحة رهيبة ، حتى أصبح البلد مَخَاضَة واسعة من دماء المسلمين ، أثارت الرعب والاشمئزاز .

بل وذكر مؤرِّخ معاصر للحروب الصليبية أنه عندما زار الحرم الشريف غداة المذبحة الرهيبة التي أحدثها الصليبيون فيه ، لم يستطع أن يشقَّ طريقه وسط أشلاء المسلمين إلاَّ في صعوبة بالغة ، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه !

والجدير بالذكر أن القتل في هذا اليوم لم يكن خاصًّا بالمسلمين فقط ، بل عانى منه اليهود أيضًا ، فلقد جمع الصليبيون اليهودَ في الكَنِيسِ ثم أحرقوه عليهم !

لقد كانت مجزرة تَطَهُّر عرقيّ بمعنى الكلمة.

مع وصول الخبر إلى كل بقاع العالم الإسلامي سادت موجة كئيبة من الحزن والكمد ، ولكنه – للأسف - كان حزنًا سلبيًّا ، بل كان حزنًا مُقعِدًا شلَّ المسلمين عن الحركة ، فلم نسمع عن حركة جيش لتحرير الأقصى والقدس وفلسطين ، كما لم نسمع آنذاك نداءً شعبيًّا يُطالِب الحكام بحمل المسئولية .

لقد كانت أزمة دينيَّة أخلاقية ، شملت الشعوب جميعًا بحكَّامها ومحكوميها.

انتهي ما اقتبسناه مما كتب الدكتور / راغب السرجاني عن خيانة الشيعة والحكام المسلمين التي أسفرت عن احتلال الحملة الصليبية الأولي للقدس .

وإذا ألقينا نظرة علي الحرب الصليبية اليهودية الدائرة الآن علي كل أرض الإسلام في سوريا والعراق وليبيا ومصر وغزة وغيرهم ، سنجد أن التاريخ يعيد نفسه ، فها هم شيعة إيران وحزب الله يتحالفون مع الغرب وينطلقون مثل قوم يأجوج ومأجوج في العراق وسوريا ليقتلوا المسلمين السنة ويمثلوا بهم ويوقعوا بمن تركوه حيا أشد أنواع التعذيب .

وها هم الحكام العرب الذين يحكمون الدول الإسلامية بغير سند من الشرع أو القانون يتواطئون مع أسيادهم من الغرب اليهودي المسيحي ويرفعون راية الحرب علي الإرهاب وهم يعلمون أن هدفها تدمير الشعوب الإسلامية ، لكن ذلك لا يعنيهم إنما يعنيهم شيئ واحد أن يظلوا جاثمين علي صدور الشعوب الإسلامية بدعم الغرب الصليبي الصهيوني .

لم يختلف شئ والتاريخ يعيد نفسه ، فكما فرط الشيعة والحكام المسلمون في دماء المسلمين وأرضهم وأعراضهم ، وساندوا الحملات الصليبية التي جاءت لاحتلال القدس وباقي بلاد المسلمين ، يقومون الآن ( الشيعة والحكام المسلمون ) بمساندة أشد الحملات الصليبية الصهيونية التي يتعرض لها العالم الإسلامي علي مر تاريخه كله .

فهل من صلاح الدين الأيوبي جديد يطهر العالم الإسلامي من عناصر الخيانة ، ويبدأ في الزود عن دماء المسلمين وديارهم وأموالهم وأعراضهم .

وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة . 




ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق