المقدمة الثابتة لهذه السلسلة من المقالات :
" شهادات لا تحصي ولا تعد تكشف وتؤكد أن
الإخوان المسلمين هم من أنشئوا تنظيما سريا بين ضباط الجيش المصري هو نفسه ما سُمي
فيما بعد " تنظيم الضباط الأحرار " ، وحددوا أهدافه في الخلاص من
الملكية المستبدة الفاسدة والاحتلال الانجليزي ، وتحقيق مبدأ الوحدة الإسلامية بين
الدول الإسلامية من خلال التعاون وليس من خلال حكومة مركزية واحدة ، كما تكشف هذه
الشهادات كيف تحالف العسكر والإخوان المسلمون وأفراد من الشعب من أجل مصر وتحريرها
ونهضتها ، وسرعان ما تفكك التحالف بعد أن وصل العسكر للسلطة ، فاستبدلوا حب الوطن
بحب الدنيا ، واستبدلوا المودة مع شركاء العمل الوطني بالعداء السافر الذي لم
يظهروه تجاه إسرائيل نفسها ".
سبعة وعشرون : خالد محيي الدين يكشف العلاقة
الوطيدة بين عبد الناصر وضابط الإخوان / عبد المنعم عبد الرؤوف .
تحدث خالد محيي الدين عما أسماه ( الثالوث
الغريب : عبد الناصر – عبد الرؤوف – يوسف رشاد ) وقال :
" هكذا أضيف سببا جديدا لينسج مساحة التباعد بيني وبين "أيسكرا "( التنظيم الشيوعي الذي انضم إليه ) ، ولعل هذه العوامل التي أسرعت ودون تأن لتلاحق علاقتي بالشيوعيين هي
التي دفعتني إلى عدم مفاتحة زميل البحث الدائب عن طريق لنا ولمصر جمال عبد الناصر في مشاركتي في
الانضمام لأيسكرا ، ربما لهذا السبب ، وربما
لأنني كنت قد عدت للاتصال بعبد الناصر بعد فترة
انقطاع طويلة وكانت المناسبة أننا دعينا كضباط لحضور مباراة في الملاكمة بين الجيش
المصري والجيش البريطاني في قشلاق قصر النيل ، وهناك التقيت بعبد الناصر وطلب إلي أن أزوره دون انتظار لاتصال من عبد المنعم عبد الرؤوف أو غيره ، وبالفعل بدأت أزوره من حين لآخر لنتداول في ذات الموضوع
الذي يلاحقنا جمعا : ماذا يجب أن نفعل وكيف ومتى ومع من ؟
وأصبحت العلاقة مع جمال متصلة ولما علم بنقلي إلى سلاح الحدود فوجئت
به يزورني هو وعبد المنعم عبد الرؤوف وفاجأني
مفاجأة لم تزل تحيرني حتى الآن ،
قال جمال وعبد المنعم عبد الرؤوف أنهما
يستطيعان تدبير عملية إلغاء نقلي لسلاح الحدود وإعادتي إلى الفرسان وبأسرع ما يمكن.
وعندما أبديت دهشتي ، قالا إن النقل سيلغى بواسطة القصر الملكي
وتحديدا بواسطة يوسف رشاد ، وقد كان يوسف رشاد هو يد الملك التي يحركها وسط ضباط الجيش.
وأبديت المزيد من الدهشة وشرح لي جمال الأمر بهدوئه المعتاد ، وقال :
لقد تلقيت رسالة من يوسف رشاد يقول فيها إنه على
استعداد للتعامل معنا ، وفهمت أن الرسالة جاءت عن طريق عبد المنعم عبد الرؤوف ، وبهذه المناسبة أقرر أن عبد الناصر لم يلتق أبدا بيوسف رشاد ، وإن كان قد تعامل معه عن طريق آخرين منهم عبد
المنعم والسادات ومصطفى كمال صدقي وواصل جمال حديثه قائلا : لم أبد اعتراضا وقلت إننا على استعداد
للتعامل أيضا فقال يوسف رشاد: بإمكانكم
أن ترشحوا لنا ضباطا يمكن الاعتماد عليهم لنقلهم إلى أماكن مهمة فقد نحتاج إليهم
في المستقبل ، وقال جمال : وبما أنك منقول إلى الحدود فقد قدمنا أسمك بأمل أن
يعيدوك إلى الفرسان لتكون معنا ونحن بهذا لن نخسر شيئا فأنت كنت مبعدا فعلا فإن
رجعت كان خير وإن لم ترجع فأنت فعلا مبعد إلى الحدود..
وقد ناقشت الأمر طويلا مع جمال وعبد الرؤوف ولم أصدق أن بالإمكان نقلي
من الحدود وتصورت أن الأمر مجرد خدعة للتعرف على اسم ضابط أو أكثر من الضباط
الوطنيين.
ولم تزل هذه الواقعة تحيرني حتى الآن ، وتحيرني معها ظاهرة عبد المنعم
عبد الرؤوف فقد كان وثيق الصلة بالإخوان ووثيق الصلة بعبد الناصر حتى بعد
أن تركنا معا جماعة الإخوان ووثيق الصلة بعزيز
المصري ثم هو همزة الوصل مع القصر الملكي وتحديدا مع يوسف رشاد.
ولكن وحتى لا أكون متجنيا فإنني ومع اعتقادي بأن عبد الرؤوف هو الذي
نقل الرسائل بين عبد الناصر ويوسف رشاد ، فإن هناك احتمالا أن يكون صاحب العلاقة
المباشرة مع يوسف رشاد هو الضابط مصطفى كمال
صدقي الذي كان يؤسس في ذلك الحين مجموعة «الحرس الحديدي» والتي كانت على
علاقة وثيقة بيوسف رشاد.
المهم هو أن المعجزة قد تحققت وعلى غير المألوف وغير المتوقع لم أبق
في سلاح الحدود سوى شهرين أو ثلاثة ، وتقرر نقلي من جديد إلى الفرسان وكان الضابط
الذي حضر للتسليم مني في الحدود قبل العودة للفرسان لطفي واكد ، وبقينا سويا لمدة
أسبوع للتسلم ، وطرحت عليه ما يمر برأسي من أفكار ففوجئت به يقول إنه مسلم اشتراكي
فأعجبني الكلام ، وبعد أن بدأنا تأسيس الضباط الأحرار علمت من عبد
الناصر أنه عضو معنا وقد لعب لطفي واكد دورا
هاما في الثورة وتشاء الصدف أننا أسسنا سويا حزب التجمع الوطني
التقدمي الوحدوي في عام 1976 .
وعدت من الحدود مندهشا لألتقي بعبد الناصر الذي طلب
مني أن أكف عن أي نشاط سياسي أو أي اتصالات غير عادية بالضباط لفترة طويلة وقال :
لقد عرفوا اسمك ولابد أنهم سيراقبونك ويتتبعون حركاتك لأننا نحن الذين رشحناك وإن
كنا قلنا لهم ونحن نقدم لهم اسمك إنك مجرد ضابط جدع ويمكن الاعتماد عليك..
وأذكر أنني وبعد فترة كنت عائدا من مهمة في الصعيد بالقطار مع أحد
الضباط ذوي العلاقة بالقصر الملكي وهو الملازم سيد جاد وخلال
الرحلة أفرط هذا الضابط في شرب الخمر حتى سكر بعض الشيء وقال لي إن يوسف رشاد يعتقد أنك ضابط يساري لكنه لا يملك شيئا ضدك.
المهم عدت من الحدود وإلى الإسكندرية توجهت
إلى بيت خالتي لأخطب سميرة ابنتها ، وبعد قليل تزوجنا وكان هذا الزواج واحدا من
أهم العوامل التي دفعتني لمواصلة طريقي نحو الهدف الذي أنشد أن أقدم شيئا لوطني ، فقد
كانت زوجتي مصرية ومخلصة بكل ما تحمل
هذه الكلمات من معنى ، لم تكن تقف في طريقي على الإطلاق ، وكانت تعتبر أن محبتها
لي وإخلاصها كزوجة يحتمان عليها ألا تعرقل مسيرتي نحو هدفي الذي رسمته لنفسي لأكون
دوما في خدمة الوطن ، وكم مر على وعليها لحظات صعبة وفترات مليئة بالخطر ومع ذلك
لم تشعرني في أي لحظة بأنها غير راضية عما أفعل أو حتى خائفة مما أفعل إن توفيق من
الله ليهيئ لي مسيرتي نحو هدفي.
وبعد عودتي من الحدود كانت الأمور قد بدأت في التبلور في ذهني على
الأقل كنا في نهايات عام 1947 وبدايات
عام 1948 وكانت مصر تعيش فترة غليان شديدة ، إضرابات عديدة منها الأخطر والأكثر إثارة وهو
إضراب ضباط البوليس وإضراب الممرضين والمعلمين إلخ ، والقضية الوطنية لم تحل صحيح
أن الإنجليز قد رحلوا من المدن تحت ضغط الحركة الوطنية المظاهرات الصاخبة التي
قادتها اللجنة الوطنية للطلبة والعمال إلا أنهم لم يزالوا في مدن القناة ، بل لم
يزالوا بنفوذهم وسيطرتهم في القاهرة ، وفي مجلس
الوزراء وفي القصر الملكي وحتى عرض قضية مصر في مجلس
الأمن لم يحقق سوى المزيد من الصلف الإنجليزي والتشدد إزاء المطالب الوطنية مما
زاد من التهاب مشاعرنا الوطنية والقضية الفلسطينية تتفجر هي
الأخرى لتثير معها مشاعري ومشاعر المصريين جميعا.
وأحسست أنني مقبل لا محالة على مواجهة صعبة ، وقلت لنفسي إذا فصلوني
من الجيش لأي سبب كيف أعيش أنا وزوجتي ، ولأول مرة في حياتي بدأت أشعر بمسئولية رب
الأسرة الذي يتعين عليه أن يضع مستقبلها في حساباته ، وبدأت أفكر في الالتحاق
بكلية التجارة لأحصل على البكالوريوس كضمان لمستقبل ضابط مؤهل في أية لحظة للتصادم
الذي قد يقود إلى مخاطر لعل أقلها هو الفصل من الخدمة العسكرية.
وكان الضابط صلاح هدايت دفعتي في الكلية
الحربية تساوره نفس الرغبة فقد كان يطمح الالتحاق بكلية العلوم لتطوير معارفه
العسكرية كضباط مدفعية ، وكان والده أحمد بك هدايت سكرتيرا عاما لجامعة فؤاد الأول
سابقا ( جامعة القاهرة حاليا ) فأكد لنا أن
التوجيهية العسكرية يمكن معادلتها بالتوجيهية العادية ، وبالفعل تقدمنا إلى مجلس
الجامعة بطلبنا مرفقا به شهادات من الكلية الحربية بالعلوم التي درسناها في
التوجيهية العسكرية وتمت الموافقة على طلبنا.
لكن المشكلة الأصعب هي كيف ننتظم في الدارسة ؟ ، صلاح هدايت وجد واسطة ما ونجح في الانتقال إلى إدارة التدريب الجامعي حيث يعمل
عدد من ضباط الجيش في تدريب الطلاب الجامعيين على الخدمة العسكرية كضباط احتياط
أثناء الدراسة كبديل للتجنيد بعد التخرج.
ونجحت أنا أيضا في الانتقال من الفرسان إلى التدريب الجامعي ، وكانت
المسألة صعبة للغاية لكنني كنت على صداقة في نادي التجديف بشخص اسمه عمر شيرين وكان زوج عمته حيدر باشا وزير الحربية آنذاك ، وعمر شرين هذا كان
زميلي في فريق التجديف وكان زميلي في القارب في بطولة التجديف ونجح فعلا في ترتيب
نقلي.
وهكذا كنت موجودا وبشكل دائم في مبنى الجامعة كان طابور التدرب لمدة
ساعتين فقط من 7 إلى 9 صباحا وطوال اليوم أتفرغ للدراسة ، أخلع السترة العسكرية
وأدخل كطالب عادي إلى المدرج وقد ساعدتني فترة الدارسة هذه من أكتوبر 1947 وحتى 1951 على
الاندماج مع الطلاب ومتابعة مناقشاتهم الصاخبة دون أن أشارك فيها بالطبع فأنا في
نهاية الأمر ضابط في القوات المسلحة ، كذلك أفادتني دراستي في كلية التجارة في
توسيع معارفي ، فقد درست الاقتصاد والمحاسبة وإدارة الأعمال دراسة منهجية ، وفي
عام 1951 حصلت على
البكالوريوس شعبة محاسبة وهكذا.
ومع تصاعد الأحداث الفلسطينية بدأنا
أيضا في تدريب عدد من المتطوعين العرب بناء على طلب من جامعة الدول العربية وكان
عدد هؤلاء المتطوعين حوالي 3000 متطوع من مختلف البلدان العربية.
وفي هذه المرحلة التقيت بياسر عرفات كان يحضر طوابير التدريب ، وكان
عرفات الطالب آنذاك بكلية الهندسة نموذجا للجندي الجاد الملتزم الراغب في لتعرف
وبأسرع ما يمكن على مختلف الفنون العسكرية ، فتقاربنا من بعضنا البعض وأذكر أنني
أركبته معي في السيارة لأوصله إلى مكان ما وتحدثنا معا في مختلف الشئون وفجأة قال
لي : تعرف يا حضرة الضابط أنت تتكلم مثل التقدميين وسألته في دهشة إزاي ؟ فقال :
نحن نتناقش مع الطلاب ونعرف اتجاهاتهم من أسلوبهم في الكلام ولهذا يمكنني أن أعرف
من طرقة مناقشتك أنك تقدمي.
واستوعبت الدرس وعرفت كيف يمكن أن أدير حوارا دون أن أكشف عن اتجاهي .
ثمانية وعشرون : خالد محيي الدين يكشف
العلاقة الوطيدة بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين .
يقول خالد محيي الدين :
وذات يوم جاءني ثروت عكاشة ليبلغني
رسالة خطيرة من جمال عبد الناصر كنا تحديدا في يونيو 1949 ،
وكنت منهمكا في امتحانات السنة الثانية بكلية التجارة وكانت الرسالة خطيرة فعلا
فقد ضبط لدي الجهاز السري للإخوان كتاب من كتب الجيش
الممنوع تداولها للأفراد المدنيين والتي يقتصر توزيعها على ضباط الجيش وهو كتاب عن
كيفية استخدام القنابل اليدوية ، وفي أعلى الصفحة الأولى للكتاب وجد اسم « اليوزباشي جمال عبد الناصر « .
وأثارت هذه الواقعة مخاوف الحكم من أن يكون للإخوان امتدادا داخل القوات المسلحة ، وبالفعل ولفرط اهتمام الحكم بهذا
الموضوع تولى التحقيق فيه إبراهيم عبد الهادي رئيس
الوزراء بنفسه ، وهكذا اُستدعي جمال عبد الناصر ومعه
الفريق عثمان المهدي رئيس أركان حرب الجيش
لمقابلة رئيس الوزراء ، وسأله عبد الهادي : هل هذا الكتاب لك ؟
فقال : نعم .
وسأله : هل لك علاقة بالإخوان ؟
فقال : كنت أعرف ضابطا منهم اسمه أنور الصيحي .
وقال عبد الهادي : ولمن سلمت هذا الكتاب ؟
فقال عبد الناصر : استعاره
مني أنور الصيحي وسأله عبد الهادي .
فسأله : وأين هو ؟
فقال جمال : استشهد في حرب فلسطين .
وهنا ثار عبد الهادي ودق المكتب بيده غاضبا وصاح :
- أنت يا أفندي بتضحك عليا ..
- أنتو عايزين تخربوا البلد ..
- أنتو فاهمين إيه ..
- البلد دي لا تحتمل إن واحد جريجي ببنطلون مزيت تحصل له أي حاجة ، وإلا
كان الأجانب يبهدلونا ...
- انتم لا تعرفون مدى الخطورة في أن ضابط جيش يشتغل مع الإخوان ..
ووسط هذه الثورة تذكر جمال أن في جيب بنطلونه ورقة خطيرة أعتقد أنها
كانت الأصل الخطي لبيان سياسي ، وفي أثناء هذه الثورة أيضا دق التليفون وأنشغل عبد
الهادي بالمكالمة ، واستأذن جمال في الذهاب إلى دورة المياه ليتخلص من الورطة التي
في جيبه ويعود ليجد عبد الهادي وقد هدأ قليلا ، وإن كان قد واصل تهديده وقال في
النهاية : إن سيادة الفريق عثمان المهدي قال عنك
كلام كويس ، ولولا هذا أنا كنت وديتك في داهية ، ومن الآن فصاعد أنت ضابط جيش وبس
لا علاقة لك بأحد.
واعتبر عبد الناصر أن هذه المقابلة
بمثابة إنذار وقرر أن نبدأ عملا جادا حتى لا نؤخذ على غرة دون أن نكون مستعدين أو
حتى دون أن نفعل شيئا جادا من أجل الوطن. ....