صورة أمير الشعراء أحمد شوقي |
استمرت حالة الصمت دقيقة أو دقيقتين ، فقام رجل مسن في مظهر وقور ، وقال للحاج مصطفي دعه يا مصطفي ، تفضل يا أستاذ وقل ما شئت ، بدأ أمير الشعراء في الحديث بعد أن ألقي السلام علي الحضور ، ثم قال :
الأرواح لا تموت وقد اضطررتموني للمجيئ لأُذكر شعب مصر كله من خلالكم برسائل سبق أن كررتها علي آذانكم ولكنكم نسيتموها ، لقد سمحتم للمستبد أن يستخف بكم ، ويبعدكم عما ينفع ، وينقلكم لما يضر ، فلم يعد يقرأ منكم إلا قليل لا يُذكر ، فاستخف بكم فأطعتموه ، فاستطاع أن يسيطر عليكم ويتحكم فيكم بعد أن فرّقكم وشتت شملكم ، لدرجة أن بعضكم أصبح يري في قيود الاستبداد نعمة وهي أشد البلاء ، وبعد أن تمكن منكم الوهن أساء إلي شريعتكم فلم يعترض منكم إلا القليل ، بل من بينكم ومن أصحاب العمائم من صفق له ، نعم صفقوا له حين قال أن المسلمين يريدون أن يفتكوا بسكان العالم حتي يعيشوا هم ، بينما الحقيقة أن المسلمين هم المضطهدون من العالم ، وصفقوا له حين تركوه يدعو لثورة دينية لتصحيح مفاهيم الإسلام وهم يرونه جاهلاً بأبسط تعاليم الإسلام ، لقد ظلمتم أنفسكم حين تفرقتكم ، وظلمتم شريعتكم حين تركتم البُلًهاء يسيئون لتعاليم دينكم وهي سبب وجودكم وقوتكم رغم أن العالم يحاربكم منذ بعثة النبي صلي الله عليه وسلم ، وللأسف أنني قلت لكم كل هذا الكلام منذ ما يقرب من نصف قرن في قصيدتي " ولد الهدي " ، وأعيد علي آذانكم وعقولكم وقلوبكم ما نسيتموه ، وربما كثير منكم لم يقرأه ، ثم بدأ يعيد علي آذاننا الآبيات الأخيرة من قصيدة " ولد الهدي " بصوت جميل وكأنه يغنيها غناءً ، وسادت حالة من الصمت والانصات له وهو يقول :
أَنتَ الَّــــذي نَظًّــمَ البَرِيَّـــةً دينُــــــهُ
ماذا يَقولُ وَيَنظُــمُ الشُعَـــراءُ
المُصلِحــونَ أَصابِعٌ جُمِـعَت يَـــــدًا
هِيَ أَنتَ بَل أَنتَ اليَدُ البَيضاءُ
ما جِئتُ بابَـكَ مادِحًا بَـل داعِيًــــــا
وَمِنَ المَديحِ تَضَرُّعٌ وَدُعـــاءُ
أَدعوكَ عَن قَومي الضِعافِ لِأَزمَةٍ
في مِثلِها يُلقى عَلَيكَ رَجـــاءُ
أَدْرى رَســولُ اللهِ أَنَّ نُفوسَـــــــهُمْ
رَكِبَت هَواها وَالقُلوبُ هَــواءُ
مُتَفَكِّكـــونَ فَما تَضُــمُّ نُفوسَــــــهُمْ
ثِقَةٌ وَلا جَمَعَ القُلوبَ صَفـــاءُ
رَقَـــدوا وَغَـرَّهُمُ نَعيــمٌ باطِـــــــلٌ
وَنَعيـــمُ قَومٍ في القُيـــودِ بَلاءُ
ظَلَمـــوا شَريعَتَــكَ الَّتي نِلنـا بِهـــا
ما لَم يَنَل في رومَةَ الفُقَهاءُ
مَشَتِ الحَضارَةُ في سَناها وَاهتَدى
في الدينِ وَالدُنيا بِها السُعَداءُ
صَلّى عَلَيكَ اللهُ ما صَحِبَ الدُجى
حَــادٍ وَحَنَّت بِالفَــلا وَجنــاءُ
وَاستَقبَـلَ الرِضــوانَ في غُرُفاتِهِمْ
بِجِنانِ عَــدنٍ آلُكَ السُمَحــــاءُ
خَيرُ الوَسائِـلِ مَن يَقَع مِنهُم عَلــى
سَبَبٍ إِلَيكَ فَحَسبِيَ الزَهــراءُ
وبعد أن أنهي هذه الأبيات ألقي السلام علي الحضور ، ثم استأذن وخرج مسرعا من باب السرادق ، حاول البعض اللحاق به ، و خرجوا من مدخل السرادق ونظروا يمينا ويسارا ولكنهم لم يجدوه .
الحقيقة أن حالة الدهشة لم تفارقني منذ الأمس ، هل كان هذا الرجل شبيها بأمير الشعراء أحمد شوقي ، هل كان ما حدث رؤية منامية ولم يكن هناك عزاء ولا شيئ مما حدث ، أم هل كنت في العزاء ولكن الخيال شرد ونسج هذه القصة القصيرة ، لست أدري أي شيئ من ذلك هو الذي حدث .
لقد افسدت السياسة الاديب لديك ، و لكن يسعدنا السياسى و الاديب .
ردحذفتحياتى ..