الأحد، 11 سبتمبر 2016

رسائل عمر بن الخطاب للقضاء الظالم .



في الحلقة الثامنة والعشرين من " برنامج فقه التقاضي " للدكتور / عبد المجيد عبد العزيز ، يقول فضيلته :


وفي هذه الحلقة أعرض لكم - مستمعي الأفاضل - وثيقة عُمَرية وميثاقًا قضائيًّا صدر من الخليفة الراشد والملهم المحدَّث ، وهي وثيقة نفيسة تلقتها الأمة بالقبول ، وتناقلها المحدثون والفقهاء والأدباء والمؤرخون ، وأوردوها في مصنفاتهم ، وشرحها الإمام ابن القيم شرحًا مطولًا في كتابه النفيس : ( إعلام الموقعين ) ، كما تُرجمت هذه الوثيقة إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية.


إنها الوثيقة التي بعثها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى قاضيه أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - الذي ولي القضاء لعمر في الكوفة والبصرة سنة إحدى وعشرين للهجرة ، وقد سطَّر فيها عمر - رضي الله عنه - وصايا جامعة وقواعد شاملة ، ترسم للقاضي مسيرة عدله ، وتعينه على نفسه ، وتنبهه إلى أمور إجرائية في التعامل مع الخصوم و البينات.

 وإليكم - مستمعي الأفاضل - نصَّ هذه الوثيقة التي بعثها عمر - رضي الله عنه - إلى قاضيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.


كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -:


" إن القضاء فريضةٌ محكمةٌ ، وسنةٌ متبعةٌ ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلمٌ بحق لا نفاذ له ، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ؛ حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك ، ولا ييئَس ضعيفٌ من عدلك ، البينة على مَن ادعى ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائزٌ بين المسلمين ، إلا صلحًا أحل حرامًا ، أو حرم حلالًا ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينةً ، فاضرب له أمدًا ينتهي إليه ، فإن جاء ببينةٍ أعطيته بحقه ، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية ، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى ، ولا يمنعك من قضاءٍ قضيته اليوم فراجعت فيه لرأيك وهديت فيه لرشدك - أن تراجع الحق ؛ لأن الحق قديمٌ ، لا يبطل الحق شيء ، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، والمسلمون عدولٌ ، بعضهم على بعضٍ في الشهادة ، إلا مجلودٌ في حدٍّ أو مجربٌ عليه شهادة الزور، أو ظنينٌ في ولاءٍ أو قرابةٍ ، فإن الله - عز وجل - تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآنٍ ولا سنةٍ ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال والأشباه ، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى ، وأشبهها بالحق ، وإياك والغضب والقلق ، والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر ، فإنَّ القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر ، ويحسن به الذخر ، فمن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزيَّن لهم بما ليس في قلبه شانه الله ، فإن الله - تبارك وتعالى - لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا".

ويتابع الدكتور / عبد المجيد عبد العزيز :

ونلحظ - مستمعي الأفاضل - في هذه الوثيقة العمرية تأصيلًا لفقه التقاضي ، وبيانًا لجملة من الإجراءات التي يأخذ بها القاضي فيما يُعرض عليه من مرافعات ومخاصمات ، وفيما يلي تذكير بأبرزها :

1- المرجع في الأحكام في القضاء الإسلامي إلى الكتاب والسنة والاجتهاد في أدلتهما ، والاستعانة بآراء العلماء واجتهاداتهم ومشورتهم .

 2- تمكين الخصمين من الإدلاء بحجتهما واستيفاء ما لديهما من دعوى وإجابة و دفوع وطعن في البينات.

 3- الصبر على الخصوم ، وتحمل ضجرهم وأذاهم ، وعدم التأذي بهم ؛ ففي رسالة عمر - رضي الله عنه : " وإياك والغضب والقلق ، والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة ".

 4- المساواة بين الخصمين في جميع إجراءات التعامل خلال الخصومة.

 5- أهمية اعتدال حال القاضي عند نظر الخصومة ، بأن يكون على حال معتدلة وحضور قلب ، غيرَ منزعج بما يكدر الحال والخاطر من المؤثرات التي ترِد على البشر.

 6- طلب البينة من المدعي وسماعها ، وجعْل اليمين على المنكر ، وهذا أصل الأصول في التقاضي ؛ لأن عبء الإثبات يقع على المدعي لا على المدعى عليه ؛ لأن الأصل براءة ذمة المدعى عليه ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم – لمدَّعٍ :

 ( بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمينُهُ ) ؛ متفق عليه.

7- الإمهال لسماع حجة أو بينة ونحوهما.

 8- سعي القاضي للإصلاح بين المتخاصمين قبل الحكم عند الاقتضاء ، والصلح مشروع بين المتخاصمين ، ويتأكَّد عند الإشكال في الحكم بسبب عدم وضوح الواقعة ، أو تعارض البينات ، أو كانت الخصومة بين الأقارب.

 9- المبادَرة بالحكم بعد الظهور والبيان ، فإذا تبيَّنت القضية للقاضي ، واتضح له الحكم فيها وجب على القاضي المبادرة بإصدار الحكم ؛ لأن التعجيل بفصل الخصومة مقصد شرعي ، لما فيه من إزالة الظلم عن المظلوم ، ورفع الإثم عن الظالم ، وفيه أيضًا رفع التهمة عن القاضي بأن له مصلحة أو هوى في تأخير الحكم.

 10- حث القاضي على الإخلاص في عمله ، وقصد وجه الله تعالى ، وألا يكون رضا الناس مطلبَ القاضي على حساب الحق ، لأنَّ وظيفة القضاء وظيفة شريفة ، وكما أن لها خطْرَها فإن أجرها عظيم ، لما فيها من إنصاف الناس وإحقاق الحق ؛ جاء في رسالة عمر - رضي الله عنه : " فإنَّ القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر ، ويحسن به الذخر ، فمَن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزين لهم بما ليس في قلبه شانه الله ، فإن الله - تبارك وتعالى - لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا " ، و قال - صلى الله عليه وسلم :

 ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلوا ) ؛ رواه مسلم.


وفي الحلقة الخامسة عشر يتحدث الدكتور / عبد المجيد عبد العزيز عن العدالة والمساواة كأحد مبادئ وأصول القضاء مسترشدا بتصريحات وأحكام قضائية للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، يقول الدكتور عبد المجيد :

ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذكر الأصل الثالث من هذه الأصول والمبادئ :

وهو " مبدأ المساواة والعدالة في القضاء الشرعي ":

فمن الأصول المقرَّرة في الشريعة الإسلامية أن التشريع لله - سبحانه وتعالى - بما ورد في كتابه الكريم ، وبما ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - والناس مهما علتْ مقاماتهم ، أو سَمَت منازلهم ، فهم أمام شرع الله متساوون ، لا امتياز لأحد على أحد بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين.

وهذا مقتضى ما تدل عليه عمومات الشريعة المحكمة من تقرير قاعدة العدل المطلق الشامل ؛ قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [ النحل: 90 ] ،

وقال سبحانه :

﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ المائدة : 8 ]

وفي السُّنَّة أحاديثُ كثيرةٌ تنصُّ على وُجُوب العدل في جميع الأمور ، ومنها ما هو في خصوص القضاء ، ومن ذلك ما رواه " بريدة بن الحصيب " - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

 ( القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذى في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) ؛ أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما .

وفي رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة يقول :

" آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييئس ضعيف من عدلك " ،...........

وإليكم مستمعي الأفاضل صورًا تبرز مظاهر المساواة أمام القضاء الإسلامي :

1- فمن ذلك حادثة المرأة من "بني مخزوم" التي سرقت حليًّا وقطيفة ، فبعث قومها "أسامة بن زيد بن حارثة" ليشفع فيها ، فرده الرسول - صلى الله عليه وسلم – قائلًا : ( يا أسامة ، أتشفع في حد من حدود الله ؟ وأيم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) ؛ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

2- وأنفذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حد شرب المسكر في " قدامة بن مظعون الجمحي" ، وكان صهر "عمر بن الخطاب" على أخته ، وكان أميرًا على البحرين.

3- وفي حادثة "جبلة بن الأيهم" الذي داس على ردائه "أعرابي" وهو يطوف حول الكعبة ، فكبر ذلك عليه وهو أمير في قومه ، فلطم الأعرابيَّ ، فشكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقضى بلَطْم الأمير على الملأ .


والناظر في القواعِد والمسائل التي قررها فقهاء الإسلام في نظر القاضي للخصومات يجدها منطلقة من قاعدة تحقيق المساواة ، وأن على القاضي أن يكون حياديًّا ، فلا ينحاز لأحد دون أحد ، وأن يعتبر طرفي الخصومة على قدَم المساواة ، وأن يتجرَّد عنْ كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما ؛ ولذا وجب على القاضي أن يُساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء ، بالجلوس والسلام والنظر والمخاطبة ، ويمنع القاضي من النظر في دعوى أقاربه ، ممن لا تقبل شهادته لهم ، ويحرم على القاضي مُسارة أحد الخصمين دون الآخر ، أو تلقينه حجته ، أو تعليمه كيف يدعي ، إلا أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى ؛ ليتضح للقاضي تحرير الدعوى ، ويحرم على القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته ، أو ممن كانت له حكومة مطلقًا ؛ لأن قبولها ممن لم تجرِ عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته.

ثم تحدث الدكتور / عبد المجيد عبد العزيز عن المبدأ الخامس من مبادئ القضاء وهو " مبدأ استقلال القضاء في الإسلام " فقال :

إذ يُعد استقلال القضاء ركيزة أساسية لحياده وبُعده عن المؤثرات المُخِلة بمسيرته ، وبقدر ما تكون العناية بترسيخ هذا المبدأ وتطبيقه ، تتحقَّق غايته المقصودة منه ، وهي إقامة العدل والقسط بين الناس في سائر الحكومات والخصومات ؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].

وقد شَهِد تاريخ الأمة الإسلامية شواهدَ كثيرة ، تَحاكَم فيها أمراء وذَوُو سلطة وجاهٍ مع أناس من عامة الناس ، وربما حُكِم على الأمير والوجيه وصاحب السلطة ، ويَكفينا من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:

 ( وأيم الله ، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرَقت ، لقَطَعت يدها )  

أخرجه البخاري ، ومسلم .



ويتحدث الدكتور / راغب السرجاني في موقع قصة الإسلام عن عدل عمر بن الخطاب فيقول :


" إذا ذُكِر عمر ذُكر العدل ، وإذا ذُكر العدل ذُكر عمر.

روى الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ ".

من دلائل اتصاف الفاروق بالعدل أنه لا يخاف في الله لومة لائم ، ويقيم الحدود على القريب والبعيد ، الحبيب والغريب حتى إنه ليضرب به المثل في ذلك الأمر.

يقول "عبد الله بن عمر بن الخطاب " رضي الله عنهما :

شرب أخي " عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب " ، وشرب معه " أبو سروعة عقبة بن الحارث " ، ونحن بمصر في خلافة عمر بن الخطاب  فسكرا.



فلما صحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا : طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه .

قال عبد الله بن عمر : فلم أشعر أنهما أتيا عمرو بن العاص ، قال : فذكر لي أخي أنه قد سكر فقلت له : ادخل الدار أطهرك ، قال : إنه قد حدث الأمير.

قال عبد الله : فقلت : والله لا تحلق اليوم على رءوس الناس ، ادخل أحلقك وكانوا إذا ذاك يحلقون مع الحد ، فدخل معي الدار . قال عبد الله : فحلقت أخي بيدي ، ثم جلدهما عمرو بن العاص ، فسمع عمر بن الخطاب  بذلك فكتب إلى عمرو : أن ابعث إليّ عبد الرحمن بن عمر على قتب.

ففعل ذلك عمرو ، فلما قدم عبد الرحمن المدينة على أبيه الفاروق عمر  جلده ، وعاقبه من أجل مكانه منه ، ثم أرسله فلبث أشهرًا صحيحًا ، ثم أصابه قدره ، فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر ، ولم يمت من جلده .

ويتابع الدكتور / راغب السرجاني :

ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة ، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور ، غير أن "عمرو بن العاص" أقام الحد على ابن الخليفة في البيت ، فلما بلغ الخبر "عمر بن الخطاب" كتب إلى "عمرو بن العاص" : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاص بن العاص :

عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ ، وخلاف عهدي . أما إني قد خالفت فيك أصحاب بدر عمن هو خير منك ، واخترتك لجدالك عني وإنفاذ عهدي ، فأراك تلوثت بما قد تلوثت ، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك ، تضرب عبد الرحمن في بيتك ، وقد عرفت أن هذا يخالفني ؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك ، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين . ولكن قلت : هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه ، فإذا جاءك كتابي هذا ، فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع . وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهرًا .

( روى ذلك ابن سعد ، وأشار إليه ابن الزبير ، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً ).

فالفاروق لا يبالي على من وقع الحق ، على ولده أم على غيره من الناس ، فهو رجل لا تأخذه في الله لومة لائم ، لذلك كان ينهى أهله أشد النهي حذرًا من وقوعهم في مخالفته.



وعن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال :

يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم .

قال عمر بن الخطاب : عذت معاذًا.

قال : سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته ، فجعل يضربني بالسوط ويقول : أنا ابن الأكرمين .

فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه ، فقدم فقال عمر : أين المصري ؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين .

قال أنس : فضرب ، فوالله لقد ضربه ، ونحن نحب ضربه ، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه ، ثم قال عمر للمصري : ضع السوط على صلعة عمرو.

فقال : يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه .

فقال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص :

" مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟

قال عمرو بن العاص :

يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني ".

انتهي ما اقتبسناه من مقال الدكتور / راغب السرجاني ، ونقول :


عدلٌ يكاد يتصوره من يعيش في زماننا خيال ، لكنه عين الحق والحقيقة ، فلا يفسر صعود الحضارة الإسلامية وانتشارها في زمن عمر بن الخطاب إلا عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، الذي وصل ببعض الدول مثل مصر أن تدعو المسلمين لدخولها وإنقاذ أهلها من بطش الرومان وتنكيلهم بأهل البلاد علي نحو ما ورد في العديد من المراجع التاريخية .

إن هذه الأمثلة التي قرأناها من الأحكام القضائية الجنائية التي أصدرها الخليفة / عمر بن الخطاب والتي تعكس عدلا تستريح له النفوس السوية ، عدلا يتسم بالصرامة التي لا تعرف الانحياز أو المحاباة أو المجاملة ، عدلا يتساوي فيه الناس أمام القاضي حتي ولو كان أحد أطراف الخصومة ابنه أقرب الناس إلي قلبه والذي لاشك أنه يتمني له السلامة من كل سوء والبعد عن أي أذي ، ومع ذلك يطبق عليه  حد شرب الخمر مرة ثانية وعلي الملأ لمجرد أن واليه علي مصر طبق الحد بعيدا عن أعين الناس .


إنها حقيقة ساطعة لامعة علي مر العصور ، حين يسود العدل في دولة علي نحو ما ساد في عهد الخليفة / عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه  بنسب مرتفعة تتقدم تلك الدولة ، وتزدهر أحوال أهلها ، ويعيشون في رغد من العيش ، أما حين يسود الظلم ويتربع علي النحو الحاصل في كافة الدول العربية ، يكون الانهيار هو سيد الموقف ، وتزداد ضراوته بتزايد حجم الظلم القضائي والذي يفترض أنه صمام أمان المجتمعات وضمانة أمنها واستقرارها من خلال رفع المظالم وتحقيق العدل بين الناس وبعضهم البعض من جهة ، وبين الرعية والراعي من جهة أخري .

هذه هي رسائل الخليفة / عمر بن الخطاب للقضاة الظالمين في كل مكان وزمان الذين حادوا عن طريق الحق والعدل ، وأصبحوا مجرد أذرع للحكام يبطشون لهم بالرعية وينكلون بها ، ويستبيحوا أرواحها ودمائها وأجسادها وأموالها ، حتي يتبادلوا تقسيم الغنائم مع الحكام اللصوص وأعوانهم .

هل يمكن أن تحرك رسائل الفاروق عقولهم أو تهز مشاعرهم ، هل يمكن أن تذكرهم بأن العدل طلب إلهي ، وأن الله عز وجل هو من يحاسب عن تجاهله تجاهلا عمديا أو التقصير فيه ، أم ماتت الضمائر وانغلقت الآذان وعميت القلوب التي في الصدور.

وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق