في الحلقة الثامنة والعشرين من " برنامج
فقه التقاضي " للدكتور / عبد المجيد عبد العزيز ، يقول فضيلته :
وفي هذه الحلقة
أعرض لكم - مستمعي الأفاضل - وثيقة عُمَرية وميثاقًا قضائيًّا صدر من الخليفة الراشد
والملهم المحدَّث ، وهي وثيقة نفيسة تلقتها الأمة بالقبول ، وتناقلها المحدثون والفقهاء
والأدباء والمؤرخون ، وأوردوها في مصنفاتهم ، وشرحها الإمام ابن القيم شرحًا مطولًا
في كتابه النفيس : ( إعلام الموقعين ) ، كما تُرجمت هذه الوثيقة إلى اللغات الفرنسية
والإنجليزية والألمانية.
إنها الوثيقة التي
بعثها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى قاضيه أبي موسى الأشعري -
رضي الله عنه - الذي ولي القضاء لعمر في الكوفة والبصرة سنة إحدى وعشرين للهجرة ، وقد
سطَّر فيها عمر - رضي الله عنه - وصايا جامعة وقواعد شاملة ، ترسم للقاضي مسيرة عدله
، وتعينه على نفسه ، وتنبهه إلى أمور إجرائية في التعامل مع الخصوم و البينات.
وإليكم
- مستمعي الأفاضل - نصَّ هذه الوثيقة التي بعثها عمر - رضي الله عنه - إلى قاضيه أبي
موسى الأشعري رضي الله عنه.
كتب عمر
إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -:
" إن القضاء
فريضةٌ محكمةٌ ، وسنةٌ متبعةٌ ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلمٌ بحق لا نفاذ
له ، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ؛ حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك ، ولا ييئَس
ضعيفٌ من عدلك ، البينة على مَن ادعى ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائزٌ بين المسلمين
، إلا صلحًا أحل حرامًا ، أو حرم حلالًا ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينةً ، فاضرب له
أمدًا ينتهي إليه ، فإن جاء ببينةٍ أعطيته بحقه ، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية
، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى ، ولا يمنعك من قضاءٍ قضيته اليوم فراجعت فيه
لرأيك وهديت فيه لرشدك - أن تراجع الحق ؛ لأن الحق قديمٌ ، لا يبطل الحق شيء ، ومراجعة
الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، والمسلمون عدولٌ ، بعضهم على بعضٍ في الشهادة ، إلا
مجلودٌ في حدٍّ أو مجربٌ عليه شهادة الزور، أو ظنينٌ في ولاءٍ أو قرابةٍ ، فإن الله
- عز وجل - تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ، ثم
الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآنٍ ولا سنةٍ ، ثم قايس الأمور عند ذلك ،
واعرف الأمثال والأشباه ، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى ، وأشبهها بالحق ، وإياك
والغضب والقلق ، والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر ، فإنَّ القضاء في مواطن
الحق يوجب الله له الأجر ، ويحسن به الذخر ، فمن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه
كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزيَّن لهم بما ليس في قلبه شانه الله ، فإن الله
- تبارك وتعالى - لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا".
ويتابع الدكتور / عبد المجيد عبد العزيز :
ونلحظ - مستمعي
الأفاضل - في هذه الوثيقة العمرية تأصيلًا لفقه التقاضي ، وبيانًا لجملة من الإجراءات
التي يأخذ بها القاضي فيما يُعرض عليه من مرافعات ومخاصمات ، وفيما يلي تذكير بأبرزها
:
1- المرجع في الأحكام
في القضاء الإسلامي إلى الكتاب والسنة والاجتهاد في أدلتهما ، والاستعانة بآراء العلماء
واجتهاداتهم ومشورتهم .
2- تمكين
الخصمين من الإدلاء بحجتهما واستيفاء ما لديهما من دعوى وإجابة و دفوع وطعن في البينات.
3- الصبر
على الخصوم ، وتحمل ضجرهم وأذاهم ، وعدم التأذي بهم ؛ ففي رسالة عمر - رضي الله عنه
: " وإياك والغضب والقلق ، والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة ".
4- المساواة
بين الخصمين في جميع إجراءات التعامل خلال الخصومة.
5- أهمية اعتدال حال القاضي
عند نظر الخصومة ، بأن يكون على حال معتدلة وحضور قلب ، غيرَ منزعج بما يكدر الحال
والخاطر من المؤثرات التي ترِد على البشر.
6- طلب البينة من المدعي
وسماعها ، وجعْل اليمين على المنكر ، وهذا أصل الأصول في التقاضي ؛ لأن عبء الإثبات
يقع على المدعي لا على المدعى عليه ؛ لأن الأصل براءة ذمة المدعى عليه ، وقد قال -
صلى الله عليه وسلم – لمدَّعٍ :
( بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمينُهُ ) ؛ متفق عليه.
7- الإمهال لسماع
حجة أو بينة ونحوهما.
8- سعي القاضي
للإصلاح بين المتخاصمين قبل الحكم عند الاقتضاء ، والصلح مشروع بين المتخاصمين ، ويتأكَّد
عند الإشكال في الحكم بسبب عدم وضوح الواقعة ، أو تعارض البينات ، أو كانت الخصومة
بين الأقارب.
9- المبادَرة
بالحكم بعد الظهور والبيان ، فإذا تبيَّنت القضية للقاضي ، واتضح له الحكم فيها وجب
على القاضي المبادرة بإصدار الحكم ؛ لأن التعجيل بفصل الخصومة مقصد شرعي ، لما فيه
من إزالة الظلم عن المظلوم ، ورفع الإثم عن الظالم ، وفيه أيضًا رفع التهمة عن القاضي
بأن له مصلحة أو هوى في تأخير الحكم.
10- حث القاضي
على الإخلاص في عمله ، وقصد وجه الله تعالى ، وألا يكون رضا الناس مطلبَ القاضي على
حساب الحق ، لأنَّ وظيفة القضاء وظيفة شريفة ، وكما أن لها خطْرَها فإن أجرها عظيم
، لما فيها من إنصاف الناس وإحقاق الحق ؛ جاء في رسالة عمر - رضي الله عنه :
" فإنَّ القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر ، ويحسن به الذخر ، فمَن خلصت
نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزين لهم بما ليس
في قلبه شانه الله ، فإن الله - تبارك وتعالى - لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا
" ، و قال - صلى الله عليه وسلم :
( إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين
الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلوا ) ؛ رواه مسلم.
وفي الحلقة الخامسة عشر يتحدث الدكتور / عبد
المجيد عبد العزيز عن العدالة والمساواة كأحد مبادئ وأصول القضاء مسترشدا بتصريحات
وأحكام قضائية للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، يقول الدكتور عبد
المجيد :
ونواصل الحديث
في هذه الحلقة بذكر الأصل الثالث من هذه الأصول والمبادئ :
وهو " مبدأ
المساواة والعدالة في القضاء الشرعي ":
فمن الأصول المقرَّرة
في الشريعة الإسلامية أن التشريع لله - سبحانه وتعالى - بما ورد في كتابه الكريم ،
وبما ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - والناس مهما علتْ مقاماتهم ، أو سَمَت منازلهم
، فهم أمام شرع الله متساوون ، لا امتياز لأحد على أحد بسبب الأصل أو الجنس أو اللون
أو الدين.
وهذا مقتضى ما
تدل عليه عمومات الشريعة المحكمة من تقرير قاعدة العدل المطلق الشامل ؛ قال تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [ النحل: 90 ] ،
وقال سبحانه :
﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ المائدة
: 8 ]
وفي السُّنَّة
أحاديثُ كثيرةٌ تنصُّ على وُجُوب العدل في جميع الأمور ، ومنها ما هو في خصوص القضاء
، ومن ذلك ما رواه " بريدة بن الحصيب " - رضي الله عنه - عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال :
( القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار
، فأما الذى في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في
النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) ؛ أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما
.
وفي رسالة عمر
بن الخطاب لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة يقول :
" آس بين
الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييئس ضعيف من عدلك "
،...........
وإليكم مستمعي
الأفاضل صورًا تبرز مظاهر المساواة أمام القضاء الإسلامي :
1- فمن ذلك حادثة
المرأة من "بني مخزوم" التي سرقت حليًّا وقطيفة ، فبعث قومها "أسامة
بن زيد بن حارثة" ليشفع فيها ، فرده الرسول - صلى الله عليه وسلم – قائلًا :
( يا أسامة ، أتشفع في حد من حدود الله ؟ وأيم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت
يدها ) ؛ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
2- وأنفذ عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - حد شرب المسكر في " قدامة بن مظعون الجمحي" ، وكان
صهر "عمر بن الخطاب" على أخته ، وكان أميرًا على البحرين.
3- وفي حادثة "جبلة
بن الأيهم" الذي داس على ردائه "أعرابي" وهو يطوف حول الكعبة ، فكبر
ذلك عليه وهو أمير في قومه ، فلطم الأعرابيَّ ، فشكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - فقضى بلَطْم الأمير على الملأ .
والناظر في القواعِد
والمسائل التي قررها فقهاء الإسلام في نظر القاضي للخصومات يجدها منطلقة من قاعدة تحقيق
المساواة ، وأن على القاضي أن يكون حياديًّا ، فلا ينحاز لأحد دون أحد ، وأن يعتبر
طرفي الخصومة على قدَم المساواة ، وأن يتجرَّد عنْ كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما
؛ ولذا وجب على القاضي أن يُساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء ، بالجلوس والسلام
والنظر والمخاطبة ، ويمنع القاضي من النظر في دعوى أقاربه ، ممن لا تقبل شهادته لهم
، ويحرم على القاضي مُسارة أحد الخصمين دون الآخر ، أو تلقينه حجته ، أو تعليمه كيف
يدعي ، إلا أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى ؛ ليتضح للقاضي تحرير الدعوى ، ويحرم على
القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته ، أو ممن كانت له حكومة مطلقًا
؛ لأن قبولها ممن لم تجرِ عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء
حاجته.
ثم تحدث الدكتور / عبد المجيد عبد العزيز عن
المبدأ الخامس من مبادئ القضاء وهو " مبدأ استقلال القضاء في الإسلام
" فقال :
إذ يُعد استقلال
القضاء ركيزة أساسية لحياده وبُعده عن المؤثرات المُخِلة بمسيرته ، وبقدر ما تكون العناية
بترسيخ هذا المبدأ وتطبيقه ، تتحقَّق غايته المقصودة منه ، وهي إقامة العدل والقسط
بين الناس في سائر الحكومات والخصومات ؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ
أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
وقد شَهِد تاريخ
الأمة الإسلامية شواهدَ كثيرة ، تَحاكَم فيها أمراء وذَوُو سلطة وجاهٍ مع أناس من عامة
الناس ، وربما حُكِم على الأمير والوجيه وصاحب السلطة ، ويَكفينا من ذلك قوله - صلى
الله عليه وسلم -:
( وأيم الله ، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرَقت ، لقَطَعت
يدها )
أخرجه البخاري
، ومسلم .
ويتحدث الدكتور / راغب السرجاني في موقع قصة
الإسلام عن عدل عمر بن الخطاب فيقول :
" إذا ذُكِر عمر
ذُكر العدل ، وإذا ذُكر العدل ذُكر عمر.
روى الإمام أحمد
بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " إِنَّ اللَّهَ
جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ ".
من دلائل اتصاف
الفاروق بالعدل أنه لا يخاف في الله لومة لائم ، ويقيم الحدود على القريب والبعيد ،
الحبيب والغريب حتى إنه ليضرب به المثل في ذلك الأمر.
يقول "عبد
الله بن عمر بن الخطاب " رضي الله عنهما :
شرب أخي "
عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب " ، وشرب معه " أبو سروعة عقبة بن الحارث
" ، ونحن بمصر في خلافة عمر بن الخطاب
فسكرا.
فلما صحا انطلقا
إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا : طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه .
قال عبد الله بن
عمر : فلم أشعر أنهما أتيا عمرو بن العاص ، قال : فذكر لي أخي أنه قد سكر فقلت له :
ادخل الدار أطهرك ، قال : إنه قد حدث الأمير.
قال عبد الله :
فقلت : والله لا تحلق اليوم على رءوس الناس ، ادخل أحلقك وكانوا إذا ذاك يحلقون مع
الحد ، فدخل معي الدار . قال عبد الله : فحلقت أخي بيدي ، ثم جلدهما عمرو بن العاص
، فسمع عمر بن الخطاب بذلك فكتب إلى عمرو :
أن ابعث إليّ عبد الرحمن بن عمر على قتب.
ففعل ذلك عمرو
، فلما قدم عبد الرحمن المدينة على أبيه الفاروق عمر جلده ، وعاقبه من أجل مكانه منه ، ثم أرسله فلبث
أشهرًا صحيحًا ، ثم أصابه قدره ، فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر ، ولم يمت من
جلده .
ويتابع
الدكتور / راغب السرجاني :
ومن المألوف أن
يقام الحد في الساحة العامة للمدينة ، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور ، غير أن "عمرو
بن العاص" أقام الحد على ابن الخليفة في البيت ، فلما بلغ الخبر "عمر بن
الخطاب" كتب إلى "عمرو بن العاص" : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى
العاص بن العاص :
عجبت لك يا ابن
العاص ولجرأتك عليّ ، وخلاف عهدي . أما إني قد خالفت فيك أصحاب بدر عمن هو خير منك
، واخترتك لجدالك عني وإنفاذ عهدي ، فأراك تلوثت بما قد تلوثت ، فما أراني إلا عازلك
فمسيء عزلك ، تضرب عبد الرحمن في بيتك ، وقد عرفت أن هذا يخالفني ؟ إنما عبد الرحمن
رجل من رعيتك ، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين . ولكن قلت : هو ولد أمير المؤمنين
وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه ، فإذا جاءك كتابي هذا
، فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع . وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه
الحد جهرًا .
( روى ذلك ابن
سعد ، وأشار إليه ابن الزبير ، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً ).
فالفاروق لا يبالي
على من وقع الحق ، على ولده أم على غيره من الناس ، فهو رجل لا تأخذه في الله لومة
لائم ، لذلك كان ينهى أهله أشد النهي حذرًا من وقوعهم في مخالفته.
وعن أنس أن رجلاً
من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال :
يا أمير المؤمنين
عائذ بك من الظلم .
قال عمر بن
الخطاب : عذت معاذًا.
قال : سابقت ابن
عمرو بن العاص فسبقته ، فجعل يضربني بالسوط ويقول : أنا ابن الأكرمين .
فكتب عمر بن
الخطاب إلى عمرو بن العاص يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه ، فقدم فقال عمر : أين المصري
؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين .
قال أنس : فضرب
، فوالله لقد ضربه ، ونحن نحب ضربه ، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه ، ثم قال
عمر للمصري : ضع السوط على صلعة عمرو.
فقال : يا أمير
المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه .
فقال عمر بن
الخطاب لعمرو بن العاص :
" مذ كم تعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟
قال عمرو بن
العاص :
يا أمير المؤمنين
لم أعلم ولم يأتني ".
انتهي ما اقتبسناه من مقال الدكتور / راغب
السرجاني ، ونقول :
عدلٌ يكاد يتصوره من يعيش في زماننا خيال ،
لكنه عين الحق والحقيقة ، فلا يفسر صعود الحضارة الإسلامية وانتشارها في زمن عمر
بن الخطاب إلا عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، الذي وصل ببعض الدول مثل
مصر أن تدعو المسلمين لدخولها وإنقاذ أهلها من بطش الرومان وتنكيلهم بأهل البلاد
علي نحو ما ورد في العديد من المراجع التاريخية .
إن هذه الأمثلة التي قرأناها من الأحكام
القضائية الجنائية التي أصدرها الخليفة / عمر بن الخطاب والتي تعكس عدلا تستريح له
النفوس السوية ، عدلا يتسم بالصرامة التي لا تعرف الانحياز أو المحاباة أو المجاملة
، عدلا يتساوي فيه الناس أمام القاضي حتي ولو كان أحد أطراف الخصومة ابنه أقرب
الناس إلي قلبه والذي لاشك أنه يتمني له السلامة من كل سوء والبعد عن أي أذي ، ومع
ذلك يطبق عليه حد شرب الخمر مرة ثانية
وعلي الملأ لمجرد أن واليه علي مصر طبق الحد بعيدا عن أعين الناس .
إنها حقيقة ساطعة لامعة علي مر العصور ، حين
يسود العدل في دولة علي نحو ما ساد في عهد الخليفة / عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وأرضاه بنسب مرتفعة تتقدم تلك الدولة ،
وتزدهر أحوال أهلها ، ويعيشون في رغد من العيش ، أما حين يسود الظلم ويتربع علي
النحو الحاصل في كافة الدول العربية ، يكون الانهيار هو سيد الموقف ، وتزداد
ضراوته بتزايد حجم الظلم القضائي والذي يفترض أنه صمام أمان المجتمعات وضمانة
أمنها واستقرارها من خلال رفع المظالم وتحقيق العدل بين الناس وبعضهم البعض من جهة
، وبين الرعية والراعي من جهة أخري .
هذه هي رسائل الخليفة / عمر بن الخطاب للقضاة
الظالمين في كل مكان وزمان الذين حادوا عن طريق الحق والعدل ، وأصبحوا مجرد أذرع
للحكام يبطشون لهم بالرعية وينكلون بها ، ويستبيحوا أرواحها ودمائها وأجسادها
وأموالها ، حتي يتبادلوا تقسيم الغنائم مع الحكام اللصوص وأعوانهم .
هل يمكن أن تحرك رسائل الفاروق عقولهم أو تهز
مشاعرهم ، هل يمكن أن تذكرهم بأن العدل طلب إلهي ، وأن الله عز وجل هو من يحاسب عن
تجاهله تجاهلا عمديا أو التقصير فيه ، أم ماتت الضمائر وانغلقت الآذان وعميت
القلوب التي في الصدور.
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية
ببرلمان الثورة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق