في كتابه العظيم " شخصية مصر "
وكتب أخري له تحدث المفكر المصري العظيم الدكتور / جمال حمدان عن حكم العسكر كما
تحدث عن الثورة حديثا لا يصدق أحد أنه مضي عليه أربعون عام تقريبا ، الذين عتموا
عليه وعلي مؤلفاته ، ذلك المفكر الذي مات عام 1993م شابا فقيرا قتيلا شهيدا في
جريمة قُيدت أوراقها ضد مجهول ، وجرت تحقيقاتها في سرية ، ولم تُمنح أسرته صورة
رسمية ولا ضوئية من تقرير الطب الشرعي الذي أفاد أنه قُتل بضربة آلة حادة في الرأس
، وليس كما أراد أن يوهم قاتله الآخرين بأنه مات في حريق بسبب أسطوانة البوتاجاز
في شقته .
الطبعة الأخيرة المكتملة من كتابه صدرت عام
1983م ، ومع ذلك يتحدث عن ديكتاتورية عصابة العسكر وكأنه معنا ، يتحدث عنا ، ويتحدث
إلينا ، ويتحدث عن ثورتنا مقدما لنا النصائح المطلوبة لنجاح الثورة ، وموضحا لنا
مخاطر استمرار حكم العسكر علي مصر والعالم الإسلامي كله .
يقول الدكتور / جمال حمدان :
- " ولا شئ يقينا ككلمة "
الفرعونية " يلخص ويشخص مأساة مصر السياسية المستمرة بلا انقطاع طوال التاريخ
، والمجسدة بلا حياء ، وما تزال في صميم حياتنا المعاصرة ، فلقد صارت هذه الكلمة
التعسة " سيئة السمعة " علما علي الطغيان المصري البشع البغيض في كل
مراحله ، وإن اختلفت التسميات والمسميات ، أو تطورت الأشكال والشكليات .
فالسلاطين والمماليك في العصور الوسطي هم كما
أوشك المقريزي أن يضعها فراعنة ولكن مسلمون ، مثلما كان الفراعنة أنفسهم أباطرة
وقياصرة وأكاسرة ، ولكن مصريون ، هذا بينما عد محمد علي بعد ذلك آخر المماليك
العظام وأول الفراعنة الجدد .
إن الفرعونية بوضوح مطلق الآن ، هي لاشك أبرز
، مثلما هي أسوأ مظاهر الاستمرارية في كيان مصر جميعا .
أما العلاقة بين الحاكم والمحكوم فهي تقليديا
علاقة قهر ومقت ، إكراه وكره ، استبداد وحقد ، بينما العلاقة بين الحكومة والشعب
هي الريبة والعداوة المتبادلة بكل التفاهم الصامت ، إن لم تعد الأولي ، فإنها -
لسوء الحظ أكثر – عرفت غالبا العصابة ، ولا نقول أحيانا " الحثالة الحاكمة
" ، بمعني عصبة مغتصبة تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية .
ومن هنا فلئن كانت مصر الطبيعية حديقة لا
غابة ، فقد كانت بشريا غابة لا حديقة ، وإن كانت زراعيا مزرعة لا مرعي ، فقد كانت
سياسيا مرعي لا مزرعة للأسف ، بالتالي فكثيرا ما كانت مصر إلي حد بعيد حكومة بلا
شعب سياسيا ، وشعبا بلا حكومة اقتصاديا .
وهذا ما يصل بنا في النهاية إلي ذروة النظام
وذروة المأساة أيضا ، لقد كانت مصر أبدا هي حاكمها ، وحاكمها عادة هو أكبر أعدائها
، وأحيانا شر أبنائها ، وهو علي أية حال يتصرف علي أنه " صاحب مصر " ،
" ولي النعم " ، أو الوصي علي الشعب القاصر الذي هو عبيد إحساناته ،
وظيفته أن يحكم ، ووظيفة الشعب أن يُحكم ، وأن الشعب الأمين هو شعب آمين ، والمصري
الوطني الطيب هو وحده المصري التابع الخاضع ، إن لم يعتقد حقا أن المصري لا يكون
مصريا إلا إذا كان عبدا أو كاد .
والحقيقة أن حاكم مصر طوال تاريخها الماضي إن
لم يكن ينظر غالبا إلي الوطن كضيعته الخاصة ، وإلي الشعب كقطيع ، فقد كان علي أحسن
تقدير يتبني فكرة الراعي الصالح والرعية التوابع ، أي فكرة الأبوة والأبوة العتيقة
الطيبة أو القاسية بحسب الأحوال ، وبحيث كان الحكم المطلق أشبه عمليا بالحكم
الرومانتيكي ، والدولة الفردية في الواقع إلي الدولة الشخصية .
بالمقابل وفي الاتجاه المضاد ، لكن للمزيد من
الأسف والأسى أيضا ، فإن مصر المحافظة أبدا المفرطة الاعتدال جدا ، والتي لا تؤمن
بالطفرة ولكن بالتدريج الوئيد أساسا ، لم تعرف الثورة الشعبية بالكاد ، لكن
الانقلاب العسكري فقط وبالتحديد ، وذلك منذ الفراعنة وحتي المماليك حتي اليوم بلا
استثناء ولا اختلاف ، بما يعني استمرارية في الانقلابات وغياب الثورات .
فخلال أكثر من 5000 سنة لم تحدث أو تنجح في
مصر ثورة شعبية حقيقية واحدة بصفة محققة مؤكدة ، مقابل بضع هبات أو فورات قصيرة
متواضعة أو فاشلة غالبا ، مقابل عشرات بل مئات من الانقلابات العسكرية ، يمارسها
الجند والعسكر دوريا كأمر يومي تقريبا منذ الفراعنة ، وعبر المملوكية ، وحتي العصر
الحديث ومصر المعاصرة .
وهكذا وبقدر ما كانت مصر تقليديا ومن البداية
إلي النهاية شعبا غير محارب جدا ، أو إلي حد بعيد في الخارج ، كانت مجتمعا مدنيا
يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل ، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من
الحرب ، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم ، وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب
كثيرا ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي مع
الغزاة والأعداء في الخارج ، والحل العسكري مع الشعب في الداخل ، فكانت دولة
الطغيان كقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة بوليسية علي الشعب ".
من هذا وذاك – كيف لا ؟ - جاءت لعنة خضوع
الحكم العسكري الاغتصابي الاستسلامي للاستعمار الأجنبي علي المستوي الخارجي ،
ولعنة خضوع الشعب السلبي المسالم للحكم البوليسي في الداخل ، وهي جميعا سلسلة
متناقضات ساخرة بقدر ما هي قطعة من الاستمرارية المأساوية المحزنة المخجلة .
وتحدث
الدكتور / جمال حمدان عن " إعادة بناء الإنسان المصري ، فجعل هدم
الديكتاتورية المصرية الممثلة في حكم العسكر هي البداية والأساس حين قال :
" قضية إعادة بناء الإنسان المصري هي ببساطة ، تعنى ، قضية هدم
الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول ودك صرحها الإجرامي العاتي المتهرئ وتصفية
الطغيان الفرعوني المخضرم ، المتقيح ، البغيض ، تصفية جسدية وأبدية ، وهد قلعة
الاستبداد المصري الشوهاء المشئومة ، ومن هنا فحين يأتي الحديث عن إعادة بناء الإنسان
المصري والشخصية المصرية من أعلى وكر السلطة الغاصبة ، فلكم يبدو حديث إفك حقا ، ولكم
يبدو ذا منتهى السخرية ، وقمة الاستخفاف بالعقل والحق والعلم .
على أن هذا التناقض المعيب إنما يصل إلى مداه حين يتخذ المنتفعون
بالسلبيات الكامنة والمكتسبة في الشخصية المصرية مسوح المدافعين ( وبالتبجح والقحة
) عن صورة الشعب وكرامته ويرمون من موقع قوتهم الإرهابية المغتصبة غير المستحقة ،
يرمون الوطنيين الشرفاء المنتقدين للسلبيات بتشويه تلك الصورة وبتحقير الشعب والإساءة
إليه ، بل وقد ينتهون بوضعهم في مصاف أعداء الوطن والخارجين عليه والخونة له ،
لعبة مخيفة بقدر ما هي قذرة مبتذلة ولكنها واردة وشائعة وعلى كل مصري أن يفطن
إليها دائما ويحذر فخها أبدا " .
كما يقول العالم الأسطورة :
- " لا غرابة إذن أن تكون السلطة والحكم والنظام في مصر دائماً وأبداً
هي أكبر دعاة الاعتدال المصري المزعوم وأشد المهللين المحبذين المزينين له ومحترفي
التغني المخادع الماكر به ، ذلك لأن هذا الاعتدال المرضي ليس فقط ضمان البقاء
المطلق لهم , ولكن أيضاً ضمان التسلط والسيطرة المطلقة.
فمجتمع هذا النوع من الاعتدال العاجز هو مجتمع بلا صراع , ومجتمع بلا
صراع هو مجتمع من العبيد أو قطيع من الأقنان .
و إذا كان النظام الحاكم يباهي دائماً بما يسميه " الاستقرار"
في المجتمع المصري , لا سيما في مقابل عدم الاستقرار الذي يميز معظم الدول العربية
الشقيقة , فإن الحقيقة والواقع أن ذلك إنما هو استقرار الجسد الميت والجثة الهامدة
وإذا كان صحيحاً أن بعض الدول العربية وغير العربية في المنطقة تعاني من عدم
الاستقرار ، فإن ما تعاني منه مصر حقيقة إنما هو فرط الاستقرار .
في الوقت نفسه ، فبقدر ما كان النظام الحاكم يزين ويمجد فضيلة
الاعتدال المقول هذا ، كان ولا يزال يشوه و يندد و يدين أدني علامة أو بادرة من
اليقظة و الوعي و الفهم أو أوهي اختلاجة من التحرك والعنف الثوري من جانب الشعب
المخدوع المقهور، و كان أبداً يرفع شعار محاربة العنف ويصمه زوراً وبهتاناً
بالإرهاب البشع والفوضى والتمرد …..إلخ . وعلي سبيل المثال ، فكل انتفاضة شعبية هي
" انتفاضة حرامية " ، هل تذكر؟.
ولا غرابة في هذا كله بالطبع ، فإنما هو الوجه الآخر المكمل لفضيلة - رذيلة الاعتدال . غير أن الحقيقة أن ما تصمه السلطة بخطر التطرف و
العنف ليس إلا دفاع الشعب الطبيعي عن نفسه ضد ديكتاتوريتها الباطشة الكابتة ،
مثلما هو رد فعل المجتمع الصحي ضد تطرفها هي في الاعتدال السلبي والاستسلامي
العاجز المريض .
علي أن أغرب في الأمر حقاً أن الذي يمارس العنف فعلاً بأبشع صوره من
دموية و تعذيب و إرهاب إنما هو الحكم نفسه و الحاكم وحده ، و ذلك علي الشعب
تحديداً ـ و ذلك أيضاً كأمر يومي وكروتين عادي طوال التاريخ ، فالشكل الوحيد للعنف
"الشرعي" في مصر كان تبر التاريخ وحتي اللحظة هو الاستبداد والطغيان و
البطش الحاكم .
فإن من هذا جميعاً ـ من الاعتدال المريض العاجز ومن غياب العنف الثوري
الصحي - كانت أزمة الديموقراطية المتوطئة في مصر ، بل كان إزمان ( مرض مزمن )
الديكتاتورية بها ، بل و أسوأ أنواع الديكتاتورية لأنها أشدها عجزاً و فشلاً و
تفاهة بقدر ما هي أشدها ضراوة و استماتة و أنانية و استكباراً ، و كما رأينا ، لم
يحدث أن قامت أو نجحت ثورة شعبية في مصر ، و لا حدث أن أسقط الشعب النظام الحاكم
أو فرض الحاكم قط ".
وفي كتابه " إستراتيجية الاستعمار
والتحرير " يصف حكم العسكر لمصر وسائر دول العالم الثالث " بالاحتلال
الداخلي " حيث يقول :
" فالعالم الثالث هو أكبر متحف عالمي للحفريات السياسية ومخلفات الطغيان
والاستبداد الشرقي القديم والرجعيات البدوية البدائية العتيقة المتحجرة ، فضلا عن
أنه غدا أبشع معقل للديكتاتوريات العسكرية والفاشية اللاشرعية الاغتصابية الفاسدة
نصف المتعلمة أو نصف الجاهلة ، وكأنما قد حكم عليه بأن يستبدل بالاحتلال العسكري
الأجنبي القديم أيام الاستعمار ، الاحتلال العسكري الداخلي الجديد تحت الاستقلال ،
هذا استعمار خارجي وهذا استعمار داخلي .
والواقع موضوعيا أن العالم الثالث كما هو
اليوم إنما ينتمي سياسيا إلي الماضي السحيق ، يعيش في القرن العشرين الميلادي
بالهيكل السياسي للقرن 20 قبل الميلادي .
المؤسف بعد أن أغلب هذه الديكتاتوريات
العسكرية أو الرجعية يتم أو يقع تحت إدعاء ولافتة الديمقراطية ، بل ويباهي بها
أعرق الديمقراطيات الغربية بلا حياء ولا خجل ، ولا عجب أن صك البعض لهذا كله تعبير
" ديمقراطية العالم الثالث " ، " الديموكتاتورية " كنوع من
السخرية السياسية .
وعلي الجملة ، فلا نقاش في أن العالم الثالث
هو أكبر سجن دولي ومعتقل مفتوح للمواطن النامي ، ومن نافلة القول كذلك أنه لا أمل
البتة في تحرير هذا المواطن من التخلف السياسي والحضاري إلا بتحريره من هذه
العبودية السياسية .
وكتفصيلة علي الهامش ، فلقد أصبح العالم
الثالث منذ تصفية الاستعمار مهد الحكم العسكري الفاشي الباطش والانقلابات العسكرية
الدورية ، ولا يكاد يمضي شهر تقريبا إلا ويقع انقلاب عسكري في دولة ما من الدول ،
كأنما قد سري في جسمه السياسي الميكروب اللاتيني والنمط اللاتيني حيث سجلت دول
أمريكا اللاتينية وحدها أكثر من 200 انقلاب عسكري منذ الاستقلال في أوائل القرن
الماضي ، أو كما عبر البعض ، لقد أصبح الحكم العسكري وباء العالم الثالث ولعنة
المدريات وجذام الجنوب ، وأصبح العالم الثالث دستوريا عالم الانقلابات العسكرية
بالتفضيل والامتياز .
ومن المحزن أو المضحك أن كثيرا من أصحاب
وصانعي هذه الانقلابات العسكرية الطفيلية أو الطفولية يصر " إصرارا واستكبارا
" أو " غفلة واستهتارا "
علي أن ينعتها بالثورة ، الثورة الشعبية وإلا فلا .
كل انقلاب عند أصحابه هو ثورة ، إما وطنية أو
اجتماعية أو ثورة تحرير ... ، بينما هو عند الشعب من الغاصبين ، وفي النتيجة ،
وعلي هامش الهامش ، بل في الصميم ، فإن معظم العالم الثالث لا يحكمه خيرة أبنائه ،
إن لم يحكمه أحيانا شرهم حقا ، الأمر الذي يضاعف من أزمته العالمية ، ويزيده تخلفا
علي تخلف ووهنا علي وهن ".
ومن أقوال الدكتور / جمال حمدان أيضا عن حكم
العسكر :
- " وسواء كانت مصر أم الدنيا أو أم
الديكتاتورية ، أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها فلا شبهة في أن الديكتاتورية هي
النقطة السوداء والشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء ، وهي منبع كل السلبيات
والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتى اللحظة ، وليس على مستوى المجتمع فحسب
ولكن الفرد أيضاً ، لا في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك.
- " ولقد تغيرت
مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة ، إلا نظام
الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد والفرعونية السياسية وحدها ، فهي ما تزال تعيش
بين ( أو فوق ) ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هي
" الديمقراطية الشرقية " أو بالأحرى " الديموكتاتورية ".
والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذرياً ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر إلا
حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة ".
- " هل تغيرت مصر المعاصرة عن مصر الحديثة ؟ والحديثة عن القديمة ؟ في
قضية التركيب الاجتماعي - السياسي ونظام الحكم والسلطة ، وإلى أي حد ؟ ويجيب :
التغير الجوهري في الشكل ، أما الجوهر فلم يتغير ، وهذا الجوهر هو الطغيان
الفرعوني ، بكل أعمدته التقليدية ، فهو الخط المستمر والقاسم المشترك الأعظم الذي
يجري خلال تاريخ مصر كله من مينا حتى اليوم المتغير الوحيد هو الشكل : ملكية أو
جمهورية ، وراثية أو انتخابية ، مدنية أو عسكرية ، وذلك بحسب الظرف أو العصر
".
- " فقديماً كان
الفلاحون "عبيد فرعون" ثم "عبيد السلطان" ، وحديثاً فإذا لم
نكن قد صرنا حقاً أو نوعاً "عبيد الرئيس" فنحن يقينا مازلنا بين فراعنة
وفلاحين ، ورعايا لا مواطنين ، ومازال الاستقطاب الطبقي الجوهري هو بين الحاكم
والمحكوم ، وتلك في كلمة واحدة ، هي "الفرعونية" الجديدة أو المحدثة ،
أو " الفرعونية " الخبيثة أو السرية.
فإذا كان محمد علي قد عُد آخر المماليك
العظام وأول الفراعنة الجدد ، فقد عد عبد الناصر من بعده أول المماليك الجدد وآخر
الفراعنة العظام ، ( والاثنان - بالمناسبة أو على الهامش - نموذج مثالي للأشباه
المتضادة أو الأضداد المتشابهة ) ، هذا بينما كان العالم يطلق على آخر وأدنى حكام
مصر السابقين علناً وبصفة عادية " فرعون مصر الأسود " ، في حين يطلق
العدو الإسرائيلي حتى الآن على ما نسميه "ديموقراطيتنا" حالياً اسم
" الديموقراطية الفرعونية " ليس فقط سخرية وتهكماً ولكن أساساً :
إسقاطاً وكتابة.
- " فنحن في مصر الحديثة قد بدأنا حياتنا النيابية العصرية
بالأخذ بالنموذج الغربي الديموقراطي البرجوازي الليبرالي البرلماني المتعدد
الأحزاب ، بل وذلك منذ وقت مبكر نسبياً تحت حكم إسماعيل وقبل كثير من الدول الأخرى
، غير أن ذلك لم يكن للأسف إلا كقشرة وطلاء ، وواجهة ديموقراطية شكلية بحتة لخلفية
اجتماعية محض إقطاعية رجعية ، ولأرضية استبدادية غاشمة من الحكم المطلق والطغيان
المعهود".
- " فبعد عصر الملكية انتقلت مصر المعاصرة بدرجة أو بأخرى
إلى النموذج الشرقي الاشتراكي الشمولي بنظام حزبه الواحد الديكتاتوري المطلق ،
وسواء كنا اشتراكيين بالفعل كما جادل البعض ، أو انتقلنا من الإقطاع عبر مرحلة شبه
اشتراكية إلى الرأسمالية كما نظر البعض الآخر ، فالواضح أن مصر المعاصرة ، بينما
استبقت جوهر النظام الاقتصادي والاجتماعي الطبقي بعد تطويره مع روح العصر نفسه ،
قد أخذت من الاشتراكية الاسم والواجهة أولاً وشكلاً ، ثم مبرر الطغيان والحكم
المطلق والشمولية ثانياً وأساساً ".
- " تلخص التحول الجديد في معادلة محددة ولكنها محزنة وهي :
من دولة بوليسية " وسطية " تحكمها الشرطة إلى دولة بوليسية " عصرية
" يحكمها الجيش ، أو من ملكية بوليسية إلى جمهورية عسكرية ، أو أخيراً من
إقطاع مدني إلى إقطاع عسكري ، وبعبارة أخرى - كما شخص بعض منظري العهد فيما يعد -
انتقلت مصر من " أوتوقراطية " الملكية إلى " مونوقراطية "
الجمهورية ، في حين اختزل البعض الآخر الوضع كله في أنه مزيج من الفرعونية الجديدة
والمملوكية الجديدة.
بل سرعان ما ظهرت أعراض عريضة وميول جامحة
جانحة من مظاهر الملكية بل والإمبراطورية ، كأنما هي ملكية مؤقتة غير وراثية غير
مدنية ، أي باختصار ملكية مقنعة ، فهذا ، مثلاً ، تكاد تقول أول " إمبراطور
جمهوري " وهذا أول " ملك جمهوري "، وهذا وهذا إلى آخره ، وتلك
جميعاً هي بكل وضوح أعراض وأمراض الحكم المطلق وحكم الفرد ".
- " بل إن سياستنا الخارجية ترتبط بسياستنا الداخلية أشد
الارتباط وبدرجة قل أن تعرفها أي دولة أخرى في العالم ، وأزمة مصر الخارجية هي
دائماً أزمتها الداخلية في الأصل والمصدر والأساس ، وحل الأولى هو حل الأخيرة
أولاً وقبل كل شيء ، وما زال صحيحاً أن حل مشكلة مصر الخارجية وتحريرها لابد أولاً
أن يمر بالعاصمة داخلياً .
وكما في دول الشرق الأوسط والعالم المتخلف ،
ليس ثمة شيء في سياسة مصر الخارجية اسمه الشعب - من الوجهة العملية - ولا أوهام في
هذا أو انفعال ، فصناعة السياسة الخارجية وتشكيلها وتوجيهها هي عملياً وواقعياً -
وبغض النظر عن الشكليات السطحية المموهة - حكر لرجل واحد هو الحاكم وحده لا شريك
له ، إنه حاكم مطلق خارجياً كما هو داخلياً ، ولا يكاد يوجد حاكم في العالم القديم
أو الحديث ينفرد بوضع سياسة بلده الخارجية كحاكم مصر ".
- " في النهاية أن الحديث عن
الديموقراطية أصلاً - قبل هذا وبعده - غير وارد أو جائز على الإطلاق ، فإنما
الديموقراطية بالتعريف هي حكم الشعب للشعب بالشعب - لا بالجيش - وليس ثمة شيء في
القاموس السياسي أو الفقه القانوني " كديمقراطية
عسكرية " أو " كديمقراطية مسلحة " مثلاً ، إلا أن تكون من قبيل
التناقض اللفظي أو التورية الساخرة أو الكناية المستترة عن " الديكتاتورية
العسكرية " أو " الديكتاتورية المسلحة " باختصار ، مجرد الحديث عن
الديموقراطية في ظل " العسكرقراطية " إنما هو امتهان للعقل البشري
وإهانة للإنسان المصري ".
ثم تأتي نصائح الدكتور / جمال حمدان في كتابه
" شخصية مصر " فيما يلي :
- " إن مصر تجتاز اليوم أخطر عنق زجاجة ،
وتدلف أو تساق إلى أحرج اختناق في تاريخها الحديث ، وربما القديم كله ، إن هناك
انقلاباً تاريخياً في مكان مصر ومكانتها ، ولكن من أسف إلى أسف وإلى وراء ، نراه
جميعاً رأي العين ، ولكنا - فيما يبدو - متفاهمون في صمت على أن نتعامى عنه
ونتحاشى أن نواجهه " في عينه " ووجها لوجه ، ونفضل أن ندفن رؤوسنا دونه
في الرمال ، لقد تغيرت ظروف العالم المعاصر والعالم العربي من حولنا ، فلم يعد بعد
الأول بعداً نائياً ، ولا عاد الثاني مجرد " أصفار على الشمال ".
- " لقد أفسدت
الاستمرارية السياسية ، استمرارية الفرعونية ، ما أصلح انقطاع الحضارة الحديثة ،
ذلك أن مرض مصر المزمن في الحاضر والموروث من الماضي هو حاكمها ونظامها ، نظام الحكم
باختصار، فلقد تغيرت مصر في كل شيء تقريباً إلا شيئاً واحداً هو النظام السياسي ،
وهو وحده الذي يقاوم بضراوة ودموية كل تغير ويجمد الشخصية المصرية ويحنطها
فرعونياً ".
- " إن شخصية مصر قد تغيرت ، ولكن لم
تتغير الشخصية المصرية بالكاد ، ولم يبق إلا تغيير ذلك النظام لتلحق الشخصية
المصرية بشخصية مصر الجديدة . لقد تحرر الإنسان المصري أخيراً - أو يوشك أن يتحرر
من التخلف - ولكنه لم يتحرر قط أو بعد من الأسر ، ظفر بالتنمية نسبياً ولكنه لم
يظفر بالحرية إطلاقاً ، أصبح إنساناً متقدماً نوعاً ولكن ليس إنساناً حراً حقاً
" .
- " المأساة الحقيقية في ذلك أن مصر لا تأخذ في وجه هذه الأزمات
الحل الجذري الراديكالي قط ، و إنما الحل الوسط المعتدل ، أي المهدئات والمسكنات
المؤقتة ، و النتيجة أن الأزمة تتفاقم وتتراكم أكثر، و لكن مرة أخرى تهرب مصر من
الحل الجذري إلي حل وسط جديد ، و هكذا.
بعبارة أخرى ، مأساة مصر في هذه النظرية هي الاعتدال ، فلا تنهار قط ،
و لا هي تثور أبداً ، و لا هي تموت أبداً ، و لا هي تعيش تماماً ، إنما هي في وجه
الأزمات و الضربات المتلاحقة تظل فقط تنحدر و تتدهور ، تطفو و تتعثر ، دون حسم أو
مواجهة حاسمة تقطع الموت بالحياة أو حتي الحياة بالموت ، منزلقة أثناء هذا كله من
القوة إلي الضعف ومن الصحة إلي المرض و من الكيف إلي الكم و أخيراً من لا قمة إلي
القاع.
غير أن النتيجة النهائية لهذا الانحسار المستمر المساوم أبداً و صفقات
التراجع إلي ما لا نهاية هي أننا سنصل يوماً ما إلي نقطة الانكسار بعد الالتواء ،
و بدل المرونة سيحدث التصادم ، و محل المهدئات ستحل الجراحة ـ أي سنصل إلي نقطة
اللاعودة إلي الحل الوسط ، و عندئذ سيفرض الحل الجذري الراديكالي نفسه فرضاً ، و
لكن بعد أن يكون المستوي العام قد تدني إلي الحضيض ، و الكيف قد تدهور إلي مجرد كم
، و المجد إلي محض تاريخ ، و ذلك هو الثمن الفادح للاعتدال .
من هنا فإن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية ، بمعني ثورة علي
نفسها أولا ، وعلي نفسيتها ثانيا ، أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية
الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها ، فهذا لا يسبق ذلك , و لكنه
يترتب عليه ، ثورة في الشخصية المصرية وعلي الشخصية المصرية.. ذلك هو الشرط المسبق
لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر ".
- " إن التغيير المصري
الحضاري تغيير تدريجي تراكمي ، تصاعدي ، فإنه في المحصلة النهائية أقرب في طبيعته
إلى ما يعرف في قوانين التطور الانفجاري ففي التاريخ كما في الجيولوجيا ، أن مسار
التطور يظل عادة رتيبا تقليديا ، ثم إذا به ينفجر فجأة في ثوران بركاني قصير لكنه
عنيف بمعنى التغيير الثوري الراديكالي الكامل الشامل من الجلد حتى النخاع ، إلا
وفى حالتنا فمن تراكم وتمدد ثم تصاعد وتكثف ، حينئذ يكتسح التغيير أمامه آخر معاقل
الديكتاتورية ومعوقات التقدم والتنمية ، ومن معجلات هذه المرحلة النهائية الضغوط
الرهيبة التي تجمعت علينا في وقت واحد وعلى رأسها التحدي الإسرائيلي والضغوط
البترولية ومتغيرات المناخ العالمي ".
انتهي ما اقتبسناه من درر الدكتور / جمال حمدان .
مات العالم الأسطورة شهيدا مقتولا علي أيدي مجهولين ، بدلا من أن
تُفتح له شاشات إعلام العسكر حتي يُعلم الناس مما علمه الله عز وجل ، لكي يأخذ
بأيدي مصر والعالم الإسلامي لنهضة شاملة ، لكن للأسف ، إعلام العسكر لا يُفتح إلا للراقصات العاريات
أو الملحدين أو البلطجية أو الأفاقين أو المنافقين من المتسلقين النفعيين
الانتهازيين .
مات بعد أن حذر صحفي برئاسة الجمهورية في عهد مبارك شقيقه اللواء /
عبد العظيم رمضان بأن يحذر الدكتور / جمال حمدان بألا يتحدث عن إسرائيل ، وبالتأكيد
شمل التحذير عدم الحديث عن دولة العسكر ، لكن اللواء شقيقه سوف يضطر لحذفه ، ليقتل
بعد التحذير بعام ، وبعد أن أعلن أنه بصدد نشر كتب جديدة منها كتاب عن "
الصهيونية وإسرائيل " والتي هي مصدر رزق العسكر من المساعدات العسكرية
الأمريكية .
إنها دولة العسكر التي لا تحتفي إلا بالجهل والجهلاء ، بل وتسعي لنشر
الجهل وتغييب الشعب عن دينه وقيمه وأخلاقه ، دولة العسكر تري في العلم والعلماء
عدوها الأول ، وهذا ما عبر عنه الدكتور / جمال حمدان نفسه بقوله :
- " واحد من أخطر عيوب مصر هي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط ،
بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق ، الأمر الذى يؤدى
إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط ، ففي حين يتسع صدر مصر برحابة
للرجل الصغير إلى القميء ، فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز ،
فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون اتّباعيًّا لا ابتداعيًّا ، تابعًا لا رائدًا ،
محافظًا لا ثوريًّا ، تقليديًّا لا مخالفًا ، ومواليًا لا معارضًا ، وهكذا بينما
تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامها في العمالقة وقد تطؤهم
وطئًا .
إن ما عرضناه من أبحاث الدكتور / جمال حمدان بمثابة خريطة للثورة
الدائرة ضد حكم العسكر منذ سنوات طويلة وحتي الآن ، خريطة كشفت خصائص حكم العسكر
ووسائله للبقاء حتي قيام الساعة ، ومخاطره علي مصر والعالم الإسلامي كله ، كما
تنبأت بقيام الثورة في وقت قريب لوصول التدهور لاسيما الاقتصادي أقصاه ، وكشف أن
الخلاص من حكم العسكر الديكتاتوري هو الخطوة الأولي للتقدم ، بل كشف أنه بدون
تنحية حكم العسكر لن يتمكن أحد من إعادة بناء الشخصية المصرية علي نحو يؤتي ثمارا
للفرد والمجتمع ، وأوضح كيفية الخلاص فيما قال .
رحم الله عز وجل الدكتور / جمال حمدان رحمة واسعة الذي قضي سنوات من
البحث لكي يشخص الداء الذي أصاب مصر ، ويصف الدواء العاجل له ، وجعل جهده في ميزان
حسناته ، وكلل هذه الجهود بمن يعقلها من المصريين لكي ينزلوها إلي حيز التطبيق .
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق