السبت، 24 سبتمبر 2016

الأسطورة جمال حمدان وفلسفة الثورة المصرية.





في كتابه العظيم " شخصية مصر " وكتب أخري له تحدث المفكر المصري العظيم الدكتور / جمال حمدان عن حكم العسكر كما تحدث عن الثورة حديثا لا يصدق أحد أنه مضي عليه أربعون عام تقريبا ، الذين عتموا عليه وعلي مؤلفاته ، ذلك المفكر الذي مات عام 1993م شابا فقيرا قتيلا شهيدا في جريمة قُيدت أوراقها ضد مجهول ، وجرت تحقيقاتها في سرية ، ولم تُمنح أسرته صورة رسمية ولا ضوئية من تقرير الطب الشرعي الذي أفاد أنه قُتل بضربة آلة حادة في الرأس ، وليس كما أراد أن يوهم قاتله الآخرين بأنه مات في حريق بسبب أسطوانة البوتاجاز في شقته .

الطبعة الأخيرة المكتملة من كتابه صدرت عام 1983م ، ومع ذلك يتحدث عن ديكتاتورية عصابة العسكر وكأنه معنا ، يتحدث عنا ، ويتحدث إلينا ، ويتحدث عن ثورتنا مقدما لنا النصائح المطلوبة لنجاح الثورة ، وموضحا لنا مخاطر استمرار حكم العسكر علي مصر والعالم الإسلامي كله  .

يقول الدكتور / جمال حمدان :

- " ولا شئ يقينا ككلمة " الفرعونية " يلخص ويشخص مأساة مصر السياسية المستمرة بلا انقطاع طوال التاريخ ، والمجسدة بلا حياء ، وما تزال في صميم حياتنا المعاصرة ، فلقد صارت هذه الكلمة التعسة " سيئة السمعة " علما علي الطغيان المصري البشع البغيض في كل مراحله ، وإن اختلفت التسميات والمسميات ، أو تطورت الأشكال والشكليات .

فالسلاطين والمماليك في العصور الوسطي هم كما أوشك المقريزي أن يضعها فراعنة ولكن مسلمون ، مثلما كان الفراعنة أنفسهم أباطرة وقياصرة وأكاسرة ، ولكن مصريون ، هذا بينما عد محمد علي بعد ذلك آخر المماليك العظام وأول الفراعنة الجدد .

إن الفرعونية بوضوح مطلق الآن ، هي لاشك أبرز ، مثلما هي أسوأ مظاهر الاستمرارية في كيان مصر جميعا .
أما العلاقة بين الحاكم والمحكوم فهي تقليديا علاقة قهر ومقت ، إكراه وكره ، استبداد وحقد ، بينما العلاقة بين الحكومة والشعب هي الريبة والعداوة المتبادلة بكل التفاهم الصامت ، إن لم تعد الأولي ، فإنها - لسوء الحظ أكثر – عرفت غالبا العصابة ، ولا نقول أحيانا " الحثالة الحاكمة " ، بمعني عصبة مغتصبة تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية .

ومن هنا فلئن كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة ، فقد كانت بشريا غابة لا حديقة ، وإن كانت زراعيا مزرعة لا مرعي ، فقد كانت سياسيا مرعي لا مزرعة للأسف ، بالتالي فكثيرا ما كانت مصر إلي حد بعيد حكومة بلا شعب سياسيا ، وشعبا بلا حكومة اقتصاديا .

وهذا ما يصل بنا في النهاية إلي ذروة النظام وذروة المأساة أيضا ، لقد كانت مصر أبدا هي حاكمها ، وحاكمها عادة هو أكبر أعدائها ، وأحيانا شر أبنائها ، وهو علي أية حال يتصرف علي أنه " صاحب مصر " ، " ولي النعم " ، أو الوصي علي الشعب القاصر الذي هو عبيد إحساناته ، وظيفته أن يحكم ، ووظيفة الشعب أن يُحكم ، وأن الشعب الأمين هو شعب آمين ، والمصري الوطني الطيب هو وحده المصري التابع الخاضع ، إن لم يعتقد حقا أن المصري لا يكون مصريا إلا إذا كان عبدا أو كاد .

والحقيقة أن حاكم مصر طوال تاريخها الماضي إن لم يكن ينظر غالبا إلي الوطن كضيعته الخاصة ، وإلي الشعب كقطيع ، فقد كان علي أحسن تقدير يتبني فكرة الراعي الصالح والرعية التوابع ، أي فكرة الأبوة والأبوة العتيقة الطيبة أو القاسية بحسب الأحوال ، وبحيث كان الحكم المطلق أشبه عمليا بالحكم الرومانتيكي ، والدولة الفردية في الواقع إلي الدولة الشخصية .
بالمقابل وفي الاتجاه المضاد ، لكن للمزيد من الأسف والأسى أيضا ، فإن مصر المحافظة أبدا المفرطة الاعتدال جدا ، والتي لا تؤمن بالطفرة ولكن بالتدريج الوئيد أساسا ، لم تعرف الثورة الشعبية بالكاد ، لكن الانقلاب العسكري فقط وبالتحديد ، وذلك منذ الفراعنة وحتي المماليك حتي اليوم بلا استثناء ولا اختلاف ، بما يعني استمرارية في الانقلابات وغياب الثورات .

فخلال أكثر من 5000 سنة لم تحدث أو تنجح في مصر ثورة شعبية حقيقية واحدة بصفة محققة مؤكدة ، مقابل بضع هبات أو فورات قصيرة متواضعة أو فاشلة غالبا ، مقابل عشرات بل مئات من الانقلابات العسكرية ، يمارسها الجند والعسكر دوريا كأمر يومي تقريبا منذ الفراعنة ، وعبر المملوكية ، وحتي العصر الحديث ومصر المعاصرة .

وهكذا وبقدر ما كانت مصر تقليديا ومن البداية إلي النهاية شعبا غير محارب جدا ، أو إلي حد بعيد في الخارج ، كانت مجتمعا مدنيا يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل ، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب ، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم ، وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب كثيرا ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي مع الغزاة والأعداء في الخارج ، والحل العسكري مع الشعب في الداخل ، فكانت دولة الطغيان كقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة بوليسية علي الشعب ".

من هذا وذاك – كيف لا ؟ - جاءت لعنة خضوع الحكم العسكري الاغتصابي الاستسلامي للاستعمار الأجنبي علي المستوي الخارجي ، ولعنة خضوع الشعب السلبي المسالم للحكم البوليسي في الداخل ، وهي جميعا سلسلة متناقضات ساخرة بقدر ما هي قطعة من الاستمرارية المأساوية المحزنة المخجلة .
  
وتحدث الدكتور / جمال حمدان عن " إعادة بناء الإنسان المصري ، فجعل هدم الديكتاتورية المصرية الممثلة في حكم العسكر هي البداية والأساس حين قال :

" قضية إعادة بناء الإنسان المصري هي ببساطة ، تعنى ، قضية هدم الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول ودك صرحها الإجرامي العاتي المتهرئ وتصفية الطغيان الفرعوني المخضرم ، المتقيح ، البغيض ، تصفية جسدية وأبدية ، وهد قلعة الاستبداد المصري الشوهاء المشئومة ، ومن هنا فحين يأتي الحديث عن إعادة بناء الإنسان المصري والشخصية المصرية من أعلى وكر السلطة الغاصبة ، فلكم يبدو حديث إفك حقا ، ولكم يبدو ذا منتهى السخرية ، وقمة الاستخفاف بالعقل والحق والعلم .

على أن هذا التناقض المعيب إنما يصل إلى مداه حين يتخذ المنتفعون بالسلبيات الكامنة والمكتسبة في الشخصية المصرية مسوح المدافعين ( وبالتبجح والقحة ) عن صورة الشعب وكرامته ويرمون من موقع قوتهم الإرهابية المغتصبة غير المستحقة ، يرمون الوطنيين الشرفاء المنتقدين للسلبيات بتشويه تلك الصورة وبتحقير الشعب والإساءة إليه ، بل وقد ينتهون بوضعهم في مصاف أعداء الوطن والخارجين عليه والخونة له ، لعبة مخيفة بقدر ما هي قذرة مبتذلة ولكنها واردة وشائعة وعلى كل مصري أن يفطن إليها دائما ويحذر فخها أبدا " .

كما يقول العالم الأسطورة :

- " لا غرابة إذن أن تكون السلطة والحكم والنظام في مصر دائماً وأبداً هي أكبر دعاة الاعتدال المصري المزعوم وأشد المهللين المحبذين المزينين له ومحترفي التغني المخادع الماكر به ، ذلك لأن هذا الاعتدال المرضي ليس فقط ضمان البقاء المطلق لهم , ولكن أيضاً ضمان التسلط والسيطرة المطلقة.  
فمجتمع هذا النوع من الاعتدال العاجز هو مجتمع بلا صراع , ومجتمع بلا صراع هو مجتمع من العبيد أو قطيع من الأقنان .
و إذا كان النظام الحاكم يباهي دائماً بما يسميه " الاستقرار" في المجتمع المصري , لا سيما في مقابل عدم الاستقرار الذي يميز معظم الدول العربية الشقيقة , فإن الحقيقة والواقع أن ذلك إنما هو استقرار الجسد الميت والجثة الهامدة وإذا كان صحيحاً أن بعض الدول العربية وغير العربية في المنطقة تعاني من عدم الاستقرار ، فإن ما تعاني منه مصر حقيقة إنما هو فرط الاستقرار .
في الوقت نفسه ، فبقدر ما كان النظام الحاكم يزين ويمجد فضيلة الاعتدال المقول هذا ، كان ولا يزال يشوه و يندد و يدين أدني علامة أو بادرة من اليقظة و الوعي و الفهم أو أوهي اختلاجة من التحرك والعنف الثوري من جانب الشعب المخدوع المقهور، و كان أبداً يرفع شعار محاربة العنف ويصمه زوراً وبهتاناً بالإرهاب البشع والفوضى والتمرد …..إلخ . وعلي سبيل المثال ، فكل انتفاضة شعبية هي " انتفاضة حرامية " ، هل تذكر؟.
ولا غرابة في هذا كله بالطبع ، فإنما هو الوجه الآخر المكمل لفضيلة - رذيلة الاعتدال . غير أن الحقيقة أن ما تصمه السلطة بخطر التطرف و العنف ليس إلا دفاع الشعب الطبيعي عن نفسه ضد ديكتاتوريتها الباطشة الكابتة ، مثلما هو رد فعل المجتمع الصحي ضد تطرفها هي في الاعتدال السلبي والاستسلامي العاجز المريض .
علي أن أغرب في الأمر حقاً أن الذي يمارس العنف فعلاً بأبشع صوره من دموية و تعذيب و إرهاب إنما هو الحكم نفسه و الحاكم وحده ، و ذلك علي الشعب تحديداً ـ و ذلك أيضاً كأمر يومي وكروتين عادي طوال التاريخ ، فالشكل الوحيد للعنف "الشرعي" في مصر كان تبر التاريخ وحتي اللحظة هو الاستبداد والطغيان و البطش الحاكم .
فإن من هذا جميعاً ـ من الاعتدال المريض العاجز ومن غياب العنف الثوري الصحي - كانت أزمة الديموقراطية المتوطئة في مصر ، بل كان إزمان ( مرض مزمن ) الديكتاتورية بها ، بل و أسوأ أنواع الديكتاتورية لأنها أشدها عجزاً و فشلاً و تفاهة بقدر ما هي أشدها ضراوة و استماتة و أنانية و استكباراً ، و كما رأينا ، لم يحدث أن قامت أو نجحت ثورة شعبية في مصر ، و لا حدث أن أسقط الشعب النظام الحاكم أو فرض الحاكم قط ".

وفي كتابه " إستراتيجية الاستعمار والتحرير " يصف حكم العسكر لمصر وسائر دول العالم الثالث " بالاحتلال الداخلي " حيث يقول :
   
" فالعالم الثالث هو أكبر متحف عالمي للحفريات السياسية ومخلفات الطغيان والاستبداد الشرقي القديم والرجعيات البدوية البدائية العتيقة المتحجرة ، فضلا عن أنه غدا أبشع معقل للديكتاتوريات العسكرية والفاشية اللاشرعية الاغتصابية الفاسدة نصف المتعلمة أو نصف الجاهلة ، وكأنما قد حكم عليه بأن يستبدل بالاحتلال العسكري الأجنبي القديم أيام الاستعمار ، الاحتلال العسكري الداخلي الجديد تحت الاستقلال ، هذا استعمار خارجي وهذا استعمار داخلي .
والواقع موضوعيا أن العالم الثالث كما هو اليوم إنما ينتمي سياسيا إلي الماضي السحيق ، يعيش في القرن العشرين الميلادي بالهيكل السياسي للقرن 20 قبل الميلادي .
المؤسف بعد أن أغلب هذه الديكتاتوريات العسكرية أو الرجعية يتم أو يقع تحت إدعاء ولافتة الديمقراطية ، بل ويباهي بها أعرق الديمقراطيات الغربية بلا حياء ولا خجل ، ولا عجب أن صك البعض لهذا كله تعبير " ديمقراطية العالم الثالث " ، " الديموكتاتورية " كنوع من السخرية السياسية .
وعلي الجملة ، فلا نقاش في أن العالم الثالث هو أكبر سجن دولي ومعتقل مفتوح للمواطن النامي ، ومن نافلة القول كذلك أنه لا أمل البتة في تحرير هذا المواطن من التخلف السياسي والحضاري إلا بتحريره من هذه العبودية السياسية .
وكتفصيلة علي الهامش ، فلقد أصبح العالم الثالث منذ تصفية الاستعمار مهد الحكم العسكري الفاشي الباطش والانقلابات العسكرية الدورية ، ولا يكاد يمضي شهر تقريبا إلا ويقع انقلاب عسكري في دولة ما من الدول ، كأنما قد سري في جسمه السياسي الميكروب اللاتيني والنمط اللاتيني حيث سجلت دول أمريكا اللاتينية وحدها أكثر من 200 انقلاب عسكري منذ الاستقلال في أوائل القرن الماضي ، أو كما عبر البعض ، لقد أصبح الحكم العسكري وباء العالم الثالث ولعنة المدريات وجذام الجنوب ، وأصبح العالم الثالث دستوريا عالم الانقلابات العسكرية بالتفضيل والامتياز .
ومن المحزن أو المضحك أن كثيرا من أصحاب وصانعي هذه الانقلابات العسكرية الطفيلية أو الطفولية يصر " إصرارا واستكبارا " أو " غفلة واستهتارا "  علي أن ينعتها بالثورة ، الثورة الشعبية وإلا فلا .
كل انقلاب عند أصحابه هو ثورة ، إما وطنية أو اجتماعية أو ثورة تحرير ... ، بينما هو عند الشعب من الغاصبين ، وفي النتيجة ، وعلي هامش الهامش ، بل في الصميم ، فإن معظم العالم الثالث لا يحكمه خيرة أبنائه ، إن لم يحكمه أحيانا شرهم حقا ، الأمر الذي يضاعف من أزمته العالمية ، ويزيده تخلفا علي تخلف ووهنا علي وهن ".

ومن أقوال الدكتور / جمال حمدان أيضا عن حكم العسكر :

- " وسواء كانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية ، أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها فلا شبهة في أن الديكتاتورية هي النقطة السوداء والشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء ، وهي منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتى اللحظة ، وليس على مستوى المجتمع فحسب ولكن الفرد أيضاً ، لا في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك.

- " ولقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة ، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد والفرعونية السياسية وحدها ، فهي ما تزال تعيش بين ( أو فوق ) ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هي " الديمقراطية الشرقية " أو بالأحرى " الديموكتاتورية ". والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذرياً ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة ".

- " هل تغيرت مصر المعاصرة عن مصر الحديثة ؟ والحديثة عن القديمة ؟ في قضية التركيب الاجتماعي - السياسي ونظام الحكم والسلطة ، وإلى أي حد ؟ ويجيب : التغير الجوهري في الشكل ، أما الجوهر فلم يتغير ، وهذا الجوهر هو الطغيان الفرعوني ، بكل أعمدته التقليدية ، فهو الخط المستمر والقاسم المشترك الأعظم الذي يجري خلال تاريخ مصر كله من مينا حتى اليوم المتغير الوحيد هو الشكل : ملكية أو جمهورية ، وراثية أو انتخابية ، مدنية أو عسكرية ، وذلك بحسب الظرف أو العصر ".

- " فقديماً كان الفلاحون "عبيد فرعون" ثم "عبيد السلطان" ، وحديثاً فإذا لم نكن قد صرنا حقاً أو نوعاً "عبيد الرئيس" فنحن يقينا مازلنا بين فراعنة وفلاحين ، ورعايا لا مواطنين ، ومازال الاستقطاب الطبقي الجوهري هو بين الحاكم والمحكوم ، وتلك في كلمة واحدة ، هي "الفرعونية" الجديدة أو المحدثة ، أو " الفرعونية " الخبيثة أو السرية.

فإذا كان محمد علي قد عُد آخر المماليك العظام وأول الفراعنة الجدد ، فقد عد عبد الناصر من بعده أول المماليك الجدد وآخر الفراعنة العظام ، ( والاثنان - بالمناسبة أو على الهامش - نموذج مثالي للأشباه المتضادة أو الأضداد المتشابهة ) ، هذا بينما كان العالم يطلق على آخر وأدنى حكام مصر السابقين علناً وبصفة عادية " فرعون مصر الأسود " ، في حين يطلق العدو الإسرائيلي حتى الآن على ما نسميه "ديموقراطيتنا" حالياً اسم " الديموقراطية الفرعونية " ليس فقط سخرية وتهكماً ولكن أساساً : إسقاطاً وكتابة.

- " فنحن في مصر الحديثة قد بدأنا حياتنا النيابية العصرية بالأخذ بالنموذج الغربي الديموقراطي البرجوازي الليبرالي البرلماني المتعدد الأحزاب ، بل وذلك منذ وقت مبكر نسبياً تحت حكم إسماعيل وقبل كثير من الدول الأخرى ، غير أن ذلك لم يكن للأسف إلا كقشرة وطلاء ، وواجهة ديموقراطية شكلية بحتة لخلفية اجتماعية محض إقطاعية رجعية ، ولأرضية استبدادية غاشمة من الحكم المطلق والطغيان المعهود".

- " فبعد عصر الملكية انتقلت مصر المعاصرة بدرجة أو بأخرى إلى النموذج الشرقي الاشتراكي الشمولي بنظام حزبه الواحد الديكتاتوري المطلق ، وسواء كنا اشتراكيين بالفعل كما جادل البعض ، أو انتقلنا من الإقطاع عبر مرحلة شبه اشتراكية إلى الرأسمالية كما نظر البعض الآخر ، فالواضح أن مصر المعاصرة ، بينما استبقت جوهر النظام الاقتصادي والاجتماعي الطبقي بعد تطويره مع روح العصر نفسه ، قد أخذت من الاشتراكية الاسم والواجهة أولاً وشكلاً ، ثم مبرر الطغيان والحكم المطلق والشمولية ثانياً وأساساً ".

- " تلخص التحول الجديد في معادلة محددة ولكنها محزنة وهي : من دولة بوليسية " وسطية " تحكمها الشرطة إلى دولة بوليسية " عصرية " يحكمها الجيش ، أو من ملكية بوليسية إلى جمهورية عسكرية ، أو أخيراً من إقطاع مدني إلى إقطاع عسكري ، وبعبارة أخرى - كما شخص بعض منظري العهد فيما يعد - انتقلت مصر من " أوتوقراطية " الملكية إلى " مونوقراطية " الجمهورية ، في حين اختزل البعض الآخر الوضع كله في أنه مزيج من الفرعونية الجديدة والمملوكية الجديدة.

بل سرعان ما ظهرت أعراض عريضة وميول جامحة جانحة من مظاهر الملكية بل والإمبراطورية ، كأنما هي ملكية مؤقتة غير وراثية غير مدنية ، أي باختصار ملكية مقنعة ، فهذا ، مثلاً ، تكاد تقول أول " إمبراطور جمهوري " وهذا أول " ملك جمهوري "، وهذا وهذا إلى آخره ، وتلك جميعاً هي بكل وضوح أعراض وأمراض الحكم المطلق وحكم الفرد ".

- " بل إن سياستنا الخارجية ترتبط بسياستنا الداخلية أشد الارتباط وبدرجة قل أن تعرفها أي دولة أخرى في العالم ، وأزمة مصر الخارجية هي دائماً أزمتها الداخلية في الأصل والمصدر والأساس ، وحل الأولى هو حل الأخيرة أولاً وقبل كل شيء ، وما زال صحيحاً أن حل مشكلة مصر الخارجية وتحريرها لابد أولاً أن يمر بالعاصمة داخلياً .

وكما في دول الشرق الأوسط والعالم المتخلف ، ليس ثمة شيء في سياسة مصر الخارجية اسمه الشعب - من الوجهة العملية - ولا أوهام في هذا أو انفعال ، فصناعة السياسة الخارجية وتشكيلها وتوجيهها هي عملياً وواقعياً - وبغض النظر عن الشكليات السطحية المموهة - حكر لرجل واحد هو الحاكم وحده لا شريك له ، إنه حاكم مطلق خارجياً كما هو داخلياً ، ولا يكاد يوجد حاكم في العالم القديم أو الحديث ينفرد بوضع سياسة بلده الخارجية كحاكم مصر ".

- " في النهاية أن الحديث عن الديموقراطية أصلاً - قبل هذا وبعده - غير وارد أو جائز على الإطلاق ، فإنما الديموقراطية بالتعريف هي حكم الشعب للشعب بالشعب -  لا بالجيش - وليس ثمة شيء في القاموس السياسي أو الفقه القانوني " كديمقراطية عسكرية " أو " كديمقراطية مسلحة " مثلاً ، إلا أن تكون من قبيل التناقض اللفظي أو التورية الساخرة أو الكناية المستترة عن " الديكتاتورية العسكرية " أو " الديكتاتورية المسلحة " باختصار ، مجرد الحديث عن الديموقراطية في ظل " العسكرقراطية " إنما هو امتهان للعقل البشري وإهانة للإنسان المصري ".

ثم تأتي نصائح الدكتور / جمال حمدان في كتابه " شخصية مصر " فيما يلي :

- " إن مصر تجتاز اليوم أخطر عنق زجاجة ، وتدلف أو تساق إلى أحرج اختناق في تاريخها الحديث ، وربما القديم كله ، إن هناك انقلاباً تاريخياً في مكان مصر ومكانتها ، ولكن من أسف إلى أسف وإلى وراء ، نراه جميعاً رأي العين ، ولكنا - فيما يبدو - متفاهمون في صمت على أن نتعامى عنه ونتحاشى أن نواجهه " في عينه " ووجها لوجه ، ونفضل أن ندفن رؤوسنا دونه في الرمال ، لقد تغيرت ظروف العالم المعاصر والعالم العربي من حولنا ، فلم يعد بعد الأول بعداً نائياً ، ولا عاد الثاني مجرد " أصفار على الشمال ".

- " لقد أفسدت الاستمرارية السياسية ، استمرارية الفرعونية ، ما أصلح انقطاع الحضارة الحديثة ، ذلك أن مرض مصر المزمن في الحاضر والموروث من الماضي هو حاكمها ونظامها ، نظام الحكم باختصار، فلقد تغيرت مصر في كل شيء تقريباً إلا شيئاً واحداً هو النظام السياسي ، وهو وحده الذي يقاوم بضراوة ودموية كل تغير ويجمد الشخصية المصرية ويحنطها فرعونياً ".

- " إن شخصية مصر قد تغيرت ، ولكن لم تتغير الشخصية المصرية بالكاد ، ولم يبق إلا تغيير ذلك النظام لتلحق الشخصية المصرية بشخصية مصر الجديدة . لقد تحرر الإنسان المصري أخيراً - أو يوشك أن يتحرر من التخلف - ولكنه لم يتحرر قط أو بعد من الأسر ، ظفر بالتنمية نسبياً ولكنه لم يظفر بالحرية إطلاقاً ، أصبح إنساناً متقدماً نوعاً ولكن ليس إنساناً حراً حقاً " .

- " المأساة الحقيقية في ذلك أن مصر لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الجذري الراديكالي قط ، و إنما الحل الوسط المعتدل ، أي المهدئات والمسكنات المؤقتة ، و النتيجة أن الأزمة تتفاقم وتتراكم أكثر، و لكن مرة أخرى تهرب مصر من الحل الجذري إلي حل وسط جديد ، و هكذا.

بعبارة أخرى ، مأساة مصر في هذه النظرية هي الاعتدال ، فلا تنهار قط ، و لا هي تثور أبداً ، و لا هي تموت أبداً ، و لا هي تعيش تماماً ، إنما هي في وجه الأزمات و الضربات المتلاحقة تظل فقط تنحدر و تتدهور ، تطفو و تتعثر ، دون حسم أو مواجهة حاسمة تقطع الموت بالحياة أو حتي الحياة بالموت ، منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلي الضعف ومن الصحة إلي المرض و من الكيف إلي الكم و أخيراً من لا قمة إلي القاع.

غير أن النتيجة النهائية لهذا الانحسار المستمر المساوم أبداً و صفقات التراجع إلي ما لا نهاية هي أننا سنصل يوماً ما إلي نقطة الانكسار بعد الالتواء ، و بدل المرونة سيحدث التصادم ، و محل المهدئات ستحل الجراحة ـ أي سنصل إلي نقطة اللاعودة إلي الحل الوسط ، و عندئذ سيفرض الحل الجذري الراديكالي نفسه فرضاً ، و لكن بعد أن يكون المستوي العام قد تدني إلي الحضيض ، و الكيف قد تدهور إلي مجرد كم ، و المجد إلي محض تاريخ ، و ذلك هو الثمن الفادح للاعتدال .

من هنا فإن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية ، بمعني ثورة علي نفسها أولا ، وعلي نفسيتها ثانيا ، أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها ، فهذا لا يسبق ذلك , و لكنه يترتب عليه ، ثورة في الشخصية المصرية وعلي الشخصية المصرية.. ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر ".

- " إن التغيير المصري الحضاري تغيير تدريجي تراكمي ، تصاعدي ، فإنه في المحصلة النهائية أقرب في طبيعته إلى ما يعرف في قوانين التطور الانفجاري ففي التاريخ كما في الجيولوجيا ، أن مسار التطور يظل عادة رتيبا تقليديا ، ثم إذا به ينفجر فجأة في ثوران بركاني قصير لكنه عنيف بمعنى التغيير الثوري الراديكالي الكامل الشامل من الجلد حتى النخاع ، إلا وفى حالتنا فمن تراكم وتمدد ثم تصاعد وتكثف ، حينئذ يكتسح التغيير أمامه آخر معاقل الديكتاتورية ومعوقات التقدم والتنمية ، ومن معجلات هذه المرحلة النهائية الضغوط الرهيبة التي تجمعت علينا في وقت واحد وعلى رأسها التحدي الإسرائيلي والضغوط البترولية ومتغيرات المناخ العالمي ".
انتهي ما اقتبسناه من درر الدكتور / جمال حمدان .

مات العالم الأسطورة شهيدا مقتولا علي أيدي مجهولين ، بدلا من أن تُفتح له شاشات إعلام العسكر حتي يُعلم الناس مما علمه الله عز وجل ، لكي يأخذ بأيدي مصر والعالم الإسلامي لنهضة شاملة ، لكن للأسف  ، إعلام العسكر لا يُفتح إلا للراقصات العاريات أو الملحدين أو البلطجية أو الأفاقين أو المنافقين من المتسلقين النفعيين الانتهازيين .
مات بعد أن حذر صحفي برئاسة الجمهورية في عهد مبارك شقيقه اللواء / عبد العظيم رمضان بأن يحذر الدكتور / جمال حمدان بألا يتحدث عن إسرائيل ، وبالتأكيد شمل التحذير عدم الحديث عن دولة العسكر ، لكن اللواء شقيقه سوف يضطر لحذفه ، ليقتل بعد التحذير بعام ، وبعد أن أعلن أنه بصدد نشر كتب جديدة منها كتاب عن " الصهيونية وإسرائيل " والتي هي مصدر رزق العسكر من المساعدات العسكرية الأمريكية .
إنها دولة العسكر التي لا تحتفي إلا بالجهل والجهلاء ، بل وتسعي لنشر الجهل وتغييب الشعب عن دينه وقيمه وأخلاقه ، دولة العسكر تري في العلم والعلماء عدوها الأول ، وهذا ما عبر عنه الدكتور / جمال حمدان نفسه بقوله :

- " واحد من أخطر عيوب مصر هي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط ، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق ، الأمر الذى يؤدى إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط ، ففي حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القميء ، فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز ، فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون اتّباعيًّا لا ابتداعيًّا ، تابعًا لا رائدًا ، محافظًا لا ثوريًّا ، تقليديًّا لا مخالفًا ، ومواليًا لا معارضًا ، وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامها في العمالقة وقد تطؤهم وطئًا  .

إن ما عرضناه من أبحاث الدكتور / جمال حمدان بمثابة خريطة للثورة الدائرة ضد حكم العسكر منذ سنوات طويلة وحتي الآن ، خريطة كشفت خصائص حكم العسكر ووسائله للبقاء حتي قيام الساعة ، ومخاطره علي مصر والعالم الإسلامي كله ، كما تنبأت بقيام الثورة في وقت قريب لوصول التدهور لاسيما الاقتصادي أقصاه ، وكشف أن الخلاص من حكم العسكر الديكتاتوري هو الخطوة الأولي للتقدم ، بل كشف أنه بدون تنحية حكم العسكر لن يتمكن أحد من إعادة بناء الشخصية المصرية علي نحو يؤتي ثمارا للفرد والمجتمع ، وأوضح كيفية الخلاص فيما قال .
رحم الله عز وجل الدكتور / جمال حمدان رحمة واسعة الذي قضي سنوات من البحث لكي يشخص الداء الذي أصاب مصر ، ويصف الدواء العاجل له ، وجعل جهده في ميزان حسناته ، وكلل هذه الجهود بمن يعقلها من المصريين لكي ينزلوها إلي حيز التطبيق .

وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق