قال الله
عز وجل في كتابه الكريم :
( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي
عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ
وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) المائدة - الآية 110
كما قال جل شأنه :
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ
تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ
فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً
لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) النساء - الآية 171
وقال جل وعلا :
( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ
إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ
عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )
المائدة - الآية - 116
وسبحان الله عز وجل عالم الغيب والشهادة ، عندما يكشف لنا في
كتابه الكريم عن خلافات وصراعات حدثت حول طبيعة المسيح عليه
السلام قبل نزول القرآن الكريم بنحو
285 سنة ، فالقرآن الكريم نزل عام 610م ، ومن بين ما جاء فيه قول المولي عز وجل :
( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً )
النساء - الآية 157
وتشير الآية الكريمة إلي حدوث خلافات بشأن طبيعة السيد المسيح عليه السلام وما حدث له ، وأن المختلفين بشأنه يعتمدون علي إتباع الظن
أكثر من اعتمادهم علي حقائق ثابتة ، لنكتشف بعد ذلك
أن خلافات وصراعات مريرة حدثت بشأن طبيعة المسيح عليه السلام بين إخواننا المسيحيين حول طبيعة المسيح ، هل هو رسول أم إله ؟ وطبيعة الروح القدس ،
وطبيعة السيدة مريم العذراء ، وأن هذه الصراعات استمرت سنوات طويلة وترتب عليها اضطهاد
وقتل متبادل بين المتصارعين .
وجدير بالذكر أن هذه الصراعات كانت تدور في مدينة الإسكندرية وامتدت
إلي الكنيسة الغربية ، وتم عقد مجمعات
مسكونية عديدة من أجل حسمها ، كما أنها
كانت تدور باللغة اليونانية ، وهو ما يؤكد أن النبي صلي الله عليه وسلم كان بعيدا
عن هذه الصراعات من حيث الزمان ، وأن إقامته في شبه الجزيرة العربية فضلا عن أنه
أمي لا يعرف إلا اللغة العربية نطقا ولا يجيد كتابتها أو قراءتها ، كل هذا يؤكد
لنا إعجاز القرآن الكريم فيما يتعلق
بإلمامه بكافة قصص الأنبياء السابقين لسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
في كتاب " المجامع المسكونية والهرطقات " من تأليف الأنبا
بيشوي نتعرف علي الصراع الطويل والمرير الذي خاضته كنيسة الإسكندرية من أجل فرض ألوهية المسيح عليه السلام ، الكتاب
يكشف لنا تفاصيل الصراع الذي دار حول طبيعة المسيح عليه السلام ، ويؤكد أن عقيدة التوحيد كانت هي السائدة في العالم المسيحي كله بقيادة
" آريوس " لولا ثبوت كنيسة الإسكندرية وتمسكها بألوهية المسيح ، ما سنعرضه
من الكتاب قليل ، وأري أنه لا غني لأي قارئ حريص علي المعرفة عن قراءة الكتاب
كاملا .
يقول الأنبا / بيشوي في كتابه
" المجامع المسكونية والهرطقات " :
انعقد مجمع نيقية سنة 325 م لسببين :
1-
لمقاومة البدعة الأريوسية.
2- وضع قانون الإيمان النيقاوي الذي انتهى بعبارة "نعم
نؤمن بالروح القدس". واكتفى بهذه العبارة عن الروح القدس لأن التركيز في هذا
المجمع كان على الدفاع عن ألوهية المسيح.
ويتابع الأنبا / بيشوي قائلا :
بعض الهرطقات عاشت في الكنيسة فترة ولكن الظروف لم تتهيأ
لعقد مجمع مسكوني لإدانتها رسميًا . فالآباء من هنا وهناك كانوا يردّون على تلك
الهرطقات ويدينونها ، لكن لم يكن يعقد مجمع إلا إذا بدأت بدعة ما تؤدى إلى انقسام في
الكنيسة .
فعلى سبيل المثال انعقد المجمع المسكوني الأول ليس لأن
بدعة أريوس هي أول هرطقة ظهرت في الكنيسة ولكن لأن الإمبراطور قسطنطين ، وقد بدأ
يؤمن بالمسيحية ( ولكنه لم يكن قد تم عماده بعد ) ، شعر أن أريوس بعد أن حُكم عليه
وعلى تعليمه بالحرم بواسطة مجمع الإسكندرية عام 318 م برئاسة البابا ألكسندروس ( يرجِّح
المؤرخ هيفيلي أن مجمع الإسكندرية انعقد عام 320 م.)(1) ، قد يتسبب في
انقسام في الإمبراطورية ، إذ أنه بعد حرمه ترك الإسكندرية وذهب إلى نيقوميدية ( والبلاد
الواقعة على الساحل الغربي من البحر المتوسط أي شرق مصر ) وهناك بدأ في نشر أفكاره
واستطاع أن يؤثر على أسقفين هما يوسابيوس النيقوميدي ويوسابيوس القيصري.
كان الصراع الأريوسي محتدم في الإسكندرية بين أريوس
وأتباعه وبين البابا ألكسندروس ومن معه ، أما بخروج تأثيره خارج نطاق
الإسكندرية فقد كاد أن يتسبب في انقسام الإمبراطورية الرومانية وهذا ما أدى إلى
عقد المجمع المسكوني الأول في نيقية. لكن هذه لم تكن أول هرطقة تظهر في الكنيسة.
هناك هرطقات كثيرة لم تعقد بسببها مجامع مسكونية ،
واكتفت الكنيسة بإدانتها أو أخذ موقف من مبتدعها ، ربما في مجمع مكاني أو بصورة
أخرى ، وقد تنوعت الصور على مر السنين.
كما أنه حدث في بعض الأحيان أن حرمت الكنيسة البدعة بعد
أن يكون صاحبها نفسه قد مات. فربما لم تكن البدعة في أثناء حياته قد بلغت ذروتها ،
أما بعد أن روَّج لها تلاميذه بعد مماته أكثر مما كان الحال أثناء حياته ، صارت
تمثل خطورة اضطرت الكنيسة للتصدي لها.
(انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).
ولذلك أدين مقدونيوس في مجمع القسطنطينية وعزل من كرسيه
كبطريرك للقسطنطينية ، كما أدينت بدعتين قديمتين سابقتين لزمان انعقاد المجمع وهما
هرطقتي سابيليوس وأبوليناريوس . أي أن المجمع قد عُقد أساسًا من أجل هرطقة
مقدونيوس لكن الآباء انتهزوا الفرصة لتطهير الأذهان من هرطقات أخرى لم تعقد بسببها
مجامع . لذلك تم الحكم على سابيليوس وأبوليناريوس وهرطقتيهما.
أما عن ظروف انعقاد مجمع " نيقية " فيقول الأنبا بيشوي ":
هدأت أمواج الاضطهادات التي لاقتها الكنيسة لمدة ثلاثة قرون بصدور
مرسوم التسامح الديني في عصر الملك قسطنطين 313 م ، وهو المسمى "منشور
ميلانو" الذي اعترفت فيه الإمبراطورية الرومانية بالمسيحية ديانة مسموح بها
رسميًا. ثم جاءت الحاجة ملحة لعقد مجمع مسكوني بسبب:
أ- حل مشكلات تنظيمية خاصة بالإيبارشيات، ولتحديد موعد موحد لعيد
الفصح (عيد القيامة المجيد).
ب-
أما السبب المباشر لعقد المجمع فقد كان بدعة أريوس ، لأن الإمبراطورية كادت تنقسم
بسبب تلك البدعة.
انعقد المجمع المسكوني بأمر الملك قسطنطين
خوفًا من الانقسام الحاد الحادث في الإمبراطورية بسبب بدعة أريوس . وكان انعقاده
سنة 325م في نيقية بعدد 318 أسقفًا ، كما ذكر القديس أثناسيوس الذي كان شاهد عيان
وأحد أعضاء المجمع في خطاب له. في البداية كان 16 أسقفًا مؤيدين لأريوس ، و22
أسقفًا مؤيدين للبابا ألكسندروس ، والباقي لم يكن موقفهم قد تحدد بعد . أما بنهاية
المجمع فقد ظل أسقفين فقط مؤيدين لأريوس وهما سيكوندوس وثيئوناس اللذين رفضا
التوقيع على إيمان المجمع مع الكهنة الملتصقين بهم ، وفى أيام القديس
أبيفانيوس كانت توقيعات الـ318 الحاضرين في نيقية لازالت موجودة. هذا كان بفضل شرح
القديس أثناسيوس للإيمان ورده على افتراءات أريوس ، وفي هذا نرى مدى عظمة
الدفاع السكندري في المجمع . ولم يكن الوصول لقرار المجمع بالأمر الهين بل استدعى
الأمر مجهودًا رهيبًا.
كان البابا ألكسندروس، كما ذكرنا ، قد
عقد مجمعًا محليًا عام 318 م. حرم فيه أريوس وتعاليمه ، وجرده من رتبته الكهنوتية.
(انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).
فغادر أريوس مصر إلى فلسطين وآسيا الصغرى إلى
صديقه أوسابيوس أسقف نيقوميديا ، حيث بدأ في نشر تعاليمه في صورة مقطوعات شعرية في
كتابه المسمى "ثاليا" أي الوليمة Banquet، ولحّن هذه المقطوعات ولقّنها
لأتباعه ليعلموها للناس في صورة تراتيل .
انخدع أوسابيوس بضلال أريوس وعقد مجمعين مكانيين سنة 322 م ، 323 م
تقرر فيهما : إلغاء الحرم الصادر من البابا ألكسندروس (19) ضد أريوس ، وكان ذلك
سببًا في رجوع أريوس إلى الإسكندرية لينفث سمومه هناك ثانيةً ، فطرده البابا
ألكسندروس مرة أخرى فعاد إلى حيث كان.
لكن بمساعدة يوسابيوس بلغ الأمر إلى الإمبراطور، الذي قام بإرسال
هوسيوس أسقف أسبانيا إلى البابا ألكسندروس ، وما أن وقف هوسيوس على حقيقة الأمر
حتى أبلغ الإمبراطور واقترح عقد مجمع مسكوني للنظر في هذه الضلالة.
بدأ أريوس يعلِّم هرطقته وهو بعد شماس في عهد البابا بطرس
خاتم الشهداء البابا السابع عشر من عداد بطاركة الإسكندرية. وقد حاول البابا بطرس
إرجاع أريوس عن معتقده الخاطئ ، ولما لم يقبل حرمه البابا وحرم تعاليمه الخاطئة ،
وبالتالي مُنع من ممارسة الشماسية والتعليم.
كان البابا بطرس قد رأى رؤية في أثناء
سجنه وإذ السيد المسيح واقف بثوب ممزق فقال له :
"من الذي مزّق ثوبك يا سيدي"،
قال السيد المسيح : "أريوس".
ففهم البابا بطرس أنه ، بناء على إعلان سماوي ، حتى لو تظاهر أريوس
بالتوبة سوف يكون مخادعًا ، وأنه سوف يشق الكنيسة . فاستدعى تلميذيه أرشلاوس (أو
أخيلاس) وألكسندروس وحذّرهما من أريوس ومن محاللته مهما تظاهر بالتوبة. وبعد أن
نال البابا بطرس إكليل الشهادة وتولى تلميذه أرشلاوس الكرسي حاول أريوس أن يتظاهر
بالرجوع عن معتقده الخاطئ بأسلوب ملتوي فخالت على البابا أرشيلاوس حيلة أريوس
فحاللـه ورقاه إلى درجة القسيسية بعد أن كان شماسًا مكرسًا، بعد أن كان محرومًا
بواسطة البابا بطرس خاتم الشهداء . مما جعل أحد الآباء في كنيستنا يقول أنه من
مراحم الله أن أرشلاوس لم يدم على الكرسي سوى ستة أشهر فقط وإلا انتشرت الأريوسية.
وبنياحة البابا أرشلاوس تبوأ زميله البابا ألكسندروس الكرسي السكندري
فصار البطريرك التاسع عشر في عداد بطاركة الكرازة المرقسية. والبابا ألسكندروس هو
الذي بدأ باستخدام عبارة o`moou,sion
tou/ Patri, للتعبير عن مساواة الابن للآب في الجوهر، وهي العبارة التي دافع القديس
أثناسيوس الرسولي طوال حياته عنها وكتبها في قانون الإيمان.
القديس أثناسيوس لم يخترع شيئًا جديدًا بل استلم من معلمه وأستاذه
البابا ألكسندروس ، الذي استلم بدوره من البابا بطرس خاتم الشهداء " الإيمان
المسلم مرة للقديسين " (يه 3). وحينما وقف الشماس أثناسيوس في مجمع نيقية
يحاور أريوس كان في وقوفه يشعر بقوة الأبوة التي كان يشمله بها البابا ألكسندروس
وبمساندته له.
كانت
للبابا ألكسندروس كتابات ضد الأريوسية ، وهو أول من عقد مجمعًا بالإسكندرية حضره
مائة أسقف للحكم على أريوس وحرمه فيه ، وهو يعتبر من كبار اللاهوتيين في تاريخ
كنيستنا.
(انظر
المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).
لكن
في ذلك الحين أثناء الصراع مع أريوس والرد على الآيات التي كان يستخدمها ويسئ
تفسيرها كان الأمر يتطلب محاورًا قويًا مثل أثناسيوس . فكان المعلم والتلميذ معًا
في المجمع ، وكان التلميذ متفوقًا وبارعًا جدًا أمام كل المجمع بدرجة أثارت انتباه
العالم المسيحي كله بالرغم من الاضطهادات التي وقعت عليه حتى أنه أخذ لقب
"الرسولي" بعد أن صار بطريركًا.
أنكر أريوس ألوهية السيد المسيح
متأثرًا ببعض الفلسفات اليونانية القديمة مثل الأفلاطونية (Platonism).
فاعتبر أن اللوغوس إله ، ولكنه إله مخلوق وليس من جوهر الآب. وإنه كائن وسيط بين
الله الإله الحقيقي (الآب) وبين العالم المخلوق لأنه لا يليق أن يتصل الله
بالخليقة، وأنه أسمى من أن تكون له علاقة مباشرة بالخليقة. فكيف يخلق الله العالم
أو المادة وهو منزه عن هذا ؟ لذلك استخدم اللوغوس – وهو كائن أقل وأدنى من الله -
كأداة لخلق العالم . وبهذا فلسف عبارة "كل شيء به كان" (يو1: 3). وقال
أن هذا الكائن الوسيط والأدنى لا يمكن أن يكون مساو لله في الجوهر والأزلية.
كما فلسف أريوس عبارة " الذي هو قبل كل شيء " (كو1: 17)
فقال أن عبارة "كل شيء" لا تشمل اللوغوس ولكن المقصود بها كل الأشياء
الأخرى ، لأن الزمن في اعتقاده بدأ مع الخليقة. وللرد نقول إنه في نفس الرسالة
يقول معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح أنه "بكر كل خليقة" (كو1: 15) ، وبالرجوع إلى أقوى المراجع اللغوية للغة اليونانية اتضح ما
يلي :
إن ترجمة كلمة prwtotokoV التي
ترجمت في الترجمة العربية البيروتية "بكر" في عبارة
"بكر كل خليقة =prwtotokoV pashV ktisewV" هي ترجمة غير دقيقة.
لأن كلمة prwtotokoV كلمة مركبة من كلمتين هما: الفعل ti,ktw بمعنى "يلد" و prwtoV. وأما
prwtoV فهي صيغة مبالغة التفضيل(1) من pro التي تعنى "قبل- سابق-
متفوق" من حيث الزمان والمكان والمنزلة والترتيب والأهمية(2).
وبالتالي يصير معنى العبارة المعنية:
existing before all creation - superior to all creation - preeminent over
all creation
بمعنى(3) "كائن قبل كل
الخليقة" أو "متفوق على (أعلى/ أسمى من) كل الخليقة" أو
"متميز بتفوق على كل الخليقة". وهذا المعنى هو المعنى الذي أجمعت عليه
الكنيسة الجامعة والكتب المقدسة وأقوال الآباء.
وفى سفر الرؤيا وردت في الترجمة البيروتية عبارة
"بداءة خليقة الله" (رؤ3: 14) وصحتها أول مسبب للخليقة أو مصدر الخليقة
أو الذي يسود على كل الخليقة . لأن كلمة آرشي arch تعنى "أصل- رأس – مسبب - الذي به يبدأ
شيء في الوجود" ولها معاني أخرى: "سيادة - سلطة - سطوة - ملكية
تامة".
(انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).
أما في الكناية عن أشخاص فلا تدل على زمن بل على أسبقية
وسيادة وتفوق وهو المعنى الوارد في هذه الآية ، بذلك تكون الترجمة الصحيحة لها
"أصل أو مسبب كل خليقة". وبالنظر إلى (كو1: 15) و(كو1: 17) فإن المعنى
المناسب هو "أصل خليقة الله". أحيانًا يكون الأصل هو بداية
الشيء مثل منابع النيل مثلًا ، فإنه يمكننا أن نقول أن منابع النيل هي أصله.
واعتبر أريوس أن الابن هو أول المخلوقات ، وأنه
قابل للتغيير وقابل للخطية كسائر المخلوقات. وقال طالما أن الابن مولود (باليوناني
genhtoV جينيتوس) ،
والآب هو الوحيد الغير المولود (باليوناني agenhtoV آجينيتوس) ؛
فيكون الآب وحده هو الإله لأنه يتفوق على الابن بسبب أن الابن مولود والآب غير
مولود . وحيث إن الابن مولود ، إذن هناك بداية لوجوده ، وبالتالي كان
هناك وقت لم يكن فيه موجودًا. ويتبع ذلك أن الابن بدايته من لا شيء.
ونادى أريوس بأن الله لم
يكن دائمًا آب ، بل مر وقت لم يكن فيه أبًا . وأن اللوغوس غريب عن الجوهر الإلهي
وليس منه . وهو لا يعرف الله تمامًا بل لا يعرف طبيعته تمام المعرفة. وأنه خُلق
لأجلنا لكي يخلقنا الله بواسطته كأداة . ولم يكن له وجود إلا بدعوة الله له للوجود
من أجل محبته لنا.
كما أنكر ألوهية الروح القدس ، وبذلك يكون قد أنكر
الثالوث القدوس . وفي ذلك تبع نظرية التدني subordination
التي نادى بها أوريجانوس.
استخدم أريوس تفسيرات خاطئة لكثير من آيات
الكتاب المقدس التي وردت أغلبها لكي تشير إلى حقيقة إنسانية السيد المسيح وعمله
الفدائي لخلاص البشرية. وقد أراد السيد المسيح في بعضها أن يثبت أنه لا يعمل
مستقلًا عن الآب.
وقول السيد المسيح عن نفسه "الحي وكنت
ميتًا" (رؤ1: 18)، يقول أريوس إنه من غير الممكن أن يقول الله ذلك عن نفسه. ويستشهد بقول معلمنا بولس الرسول إلى تلميذه
تيموثاوس عن الآب "المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده
له عدم الموت ساكنًا في نور لا يدنى منه" (1تى6: 15-16). فالآب هو الوحيد
وحده الذي له عدم الموت. فكيف يقول المسيح عن نفسه "الحي وكنت ميتًا" ويكون
هو الله؟
وللرد على ذلك نقول إنه عندما مات
السيد المسيح ، مات بحسب الجسد ، وحتى روحه الإنساني لم يمت. فيقول معلمنا بطرس في
رسالته الأولى عن السيد المسيح "مماتًا في الجسد ولكن محييً في الروح ، الذي
فيه أيضًا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن" (1بط3: 18-19). "الذي
ذهب" هو اللوغوس ، وطالما ذهب اللوغوس فهو لم يمت بحسب لاهوته وحتى الروح
الإنساني أيضًا لم يمت ، لأنه وهو متحد باللاهوت ذهب إلى الجحيم من قِبل الصليب.
استخدم أريوس الآيات التي تشير إلى
إنسانية السيد المسيح وطبقها على ألوهيته ، هنا تكمن الخطورة ! وبنفس الطريقة
استخدم أريوس آية "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ، ولا
ملائكة السموات إلا أبى وحده " (مت24: 36) وغيرها ، وطبقها على لاهوت السيد
المسيح.
وقد قام القديس أثناسيوس بالرد على
الآيات التي استخدمها الأريوسيون في رسائله الأربعة Contra Arianos ضد الأريوسيينFour Discourses Against the Arians المنشورة في مجموعة نيقية وما بعد نيقية Nicene & Post Nicene Fathers، إلى جوار كتاب "تجسد الكلمة" الذي كتبه أثناسيوس
وهو شماس قبل أن يدخل في الصراع ضد الأريوسية.
لم يكن أريوس وحده هو الذي نادى بهذه
الأفكار بل إن إفنوميوس الأريوسي أيضًا تبناها ، وقد رد عليه القديس أغريغوريوس النيزينزى
الثيؤلوغوس الناطق بالإلهيات في العظات الخمس التي تسمى Five Theological Orations التى دافع فيها عن الثالوث القدوس . وهى من أجمل
وأقوى كتابات القديس غريغوريوس الثيئولوغوس ، بل من أقوى ما قاله الآباء القديسون
في شرح عقيدة الثالوث. وهي تبدو صعبة لأول وهلة ، ولكن السبب في ذلك هو صعوبة
الصراع ضد الهراطقة ، ومنهم أريوس ، الذين يستخدمون أدلة فلسفية ماكرة تحتاج رد
قوى يفحم هذا الدليل المبتدع.
فالصراع
كان أحيانًا في الإسكندرية بين البابا ألكسندروس وأريوس ، وأحيانا في القسطنطينية
بين القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات وتلاميذ أريوس مثل إفنوميوس.
جمع القديس أثناسيوس بين أمرين الأول هو أنه استلم الإيمان ، والثاني
أنه كان محاورًا قويًا قوى الحجة ، وقدَّم إيمان أسلافه من البطاركة خاصة البابا
ألكسندروس بصورة قوية جدًا ، بل ومقنعة جدًا . فوقعت كلمات أثناسيوس القوية وحجته
الدامغة وقع المطرقة على أريوس ومؤيديه . وسجد الجميع شاكرين لله على استخدام هذا
الشاب الصغير ، كما حيّاه الإمبراطور قائلًا : أنت بطل كنيسة الله.
ليتكم
تقرأون كتابات البابا ألسكندروس فسوف تجدون أنه نفس التعليم الذي علّم به القديس
أثناسيوس لكن مع توسع كبير عند القديس أثناسيوس لأنه رد باستفاضة على الفهم الخاطئ
للآيات التي استخدمها أريوس.
ويضاف
إلى ذلك أن القديس أثناسيوس احتمل آلامًا كثيرة جدًا من تشرد ونفى . وفي أثناء
نفيه كان يبشر بالمسيحية في أوروبا واجتذب إلى الإيمان المسيحي العديد من القبائل
الوثنية ، ولكنه لم يحاول أن يضمهم إلى إيبارشيته أي إلى كنيسة الإسكندرية .
بشر البابا أثناسيوس في أوروبا ولم يطلب من كل من ولدوا في الإيمان على يديه أن
يتبعوا كرسي الإسكندرية ، ولم يعمل لنفسه إيبارشية داخل الكرسي الروماني.
كان
كرسي روما والإسكندرية في ذلك الوقت متحدان في الإيمان إلى حد كبير على الرغم من
مرور فترات ضعف على الكنيسة في العالم كله ، في مرحلة محدودة ، ظل فيها أثناسيوس
وحده متمسكًا بالإيمان الصحيح . مر وقت كاد فيه العالم كله تقريبًا أن يصير
أريوسيًا لولا أثناسيوس . ففي وقت من الأوقات عزل الإمبراطور البابا الروماني وعين
آخر مكانه ليوقع على قانون الإيمان الأريوسي ، ولما عاد البابا من سجنه إلى كرسيه
وقّع على قانون الإيمان الأريوسي الذي كان قد رفض التوقيع عليه من قبل . هذه هي
المرحلة التي لم يبقى فيها سوى أثناسيوس وأساقفته في مصر وحدهم هم المتمسكون
بالإيمان الصحيح . لذلك ليس غريبًا أن يقول إشعياء النبي : "مبارك شعبي
مصر" (أش19: 25). لكن في أوقات أخرى كثيرة ساند كرسي روما البابا السكندري،
مثل الباباوات معاصري البابا أثناسيوس الذين ساندوه.
انهارت المسيحية في العالم كله وخضعت أمام
الطغيان الأريوسي ولم يبقى سوى كرسي الإسكندرية ممثلًا في البابا السكندري المنفى
وأساقفته المصريين . ونحن علينا أن نقتفى آثار خطوات آبائنا.
هكذا استطاعت كنيسة الإسكندرية
القضاء علي عقيدة آريوس التي نحسبها الأقرب لما ذكره القرآن الكريم عن المسيح عليه
السلام ، وحسبنا أن نقتطف بعض عبارات آريوس من الحوار الذي دار بينه وبين أثناسيوس :
- "
أن سليمان الملك تكلم بلسان المسيح قائلاً
: " خلقني
أول طرقه "
(أم8 : 22)
- "
أن الابن قال
: لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنّى ( يوحنا
14: 28 ) فعلى هذا يكون الابن أصغر من الآب ولا يساويه فى الجوهر .
- أن المسيح قال [«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ
سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْض ( مت 28 : 18 ] فذكر هنا أنه نال
السلطان من أبيه لأنه أعظم منه وغير مساو له .
- أن المسيح نسب إلى ذاته عدم معرفة ساعة
الدينونة بقولة لتلاميذه " وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ
فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ ،
وَلاَ الابْنُ ، إِلاَّ الآبُ . اُنْظُرُوا ! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا ، لأَنَّكُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْت (مرقس 13 (
فإذا كان الابن لا يعرف الدينونة فكيف يكون
إلهاً .
- أن المسيح قال [ لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ
السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي ، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي (
يوحنا 6 : 38 ) ] ، فإذاً هو عبد للأب ودونه .
وعلي خلاف تعاليم آريوس الموحد تمكنت كنيسة الإسكندرية من التوصل إلي ما أسمته قانون الإيمان المقدس الأرثوذكسي أو ( قانون الإيمان المسيحي أو القانون النيقاوي القسطنطيني | دستور الإيمان | الأمانة ) ونصه الآتي :
" بالحقيقة نؤمن بإله واحد ، الله الآب ، ضابط الكل ، خالق السماء و الأرض ، ما يرى و ما لا يرى . نؤمن برب واحد يسوع المسيح ، ابن الله الوحيد ، المولود من الآب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للآب في الجوهر ، الذي به كان كل شيء . هذا الذي من أجلنا نحن البشر ، و من أجل خلاصنا ، نزل من السماء و تجسد من الروح القدس و من مريم العذراء . تأنس و صلب عنا على عهد بيلاطس البنطي . تألم و قبر و قام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب ، و صعد إلى السموات ، و جلس عن يمين أبيه ، وأيضًا يأتي في مجده ليدين الأحياء و الأموات ، الذي ليس لملكه انقضاء.
نعم نؤمن بالروح القدس ، الرب المحيي المنبثق من الآب .
نسجد له و نمجده مع الآب والابن ، الناطق في الأنبياء . و بكنيسة واحدة مقدسة
جامعة رسولية . و نعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. و ننتظر قيامة الأموات و
حياة الدهر الآتي. آمين ".
يمكنك أخي القارئ الرجوع لكتاب " المجامع المسكونية
والهرطقات " للأنبا / بيشوي لتعرف حجم القضايا الخلافية حول طبيعة المسيح ،
وكم المجامع التي تم عقدها للوصول إلي
قانون الإيمان سالف الذكر .
سوف تكتشف عناد الكنيسة الأرثوذكسية وإصرارها علي فرض إرادتها علي
العالم أجمع .
وما نريد أن نختم به هو القول بأن الكنيسة المصرية (
كنيسة الإسكندرية ) كما فرضت ألوهية المسيح علي العالم ، استطاعت أن تفرض
ألوهية السيسي ورئاسته لمصر من
خلال إجراءات مشابهة ، وكما وصفت الكنيسة
كل من عارضها في طبيعة المسيح بأنه هرطوقي
وشردته ، كذلك جعلت كل من يخالفها حول
ألوهية السيسي ( المخلص ) أو يعارض
انقلابه ورئاسته لمصر بأنه إرهابي وحرضت عليه .
بين فرض ألوهية المسيح وفرض
ألوهية السيسي ورئاسته لمصر التاريخ يعيد نفسه .
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق