الأربعاء، 8 يونيو 2016

حريق القاهرة 1952غضبا علي شهداء الشرطة بالإسماعيلية.





لم تكن ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952 ثورة رائدة كما يتصور أغلب المصريين ، بل كانت ثورة تابعة تسعي للالتحاق بثورة الشعب والشرطة ، والتي سبقت ثورة يوليو 1952 بقرابة العام .

يقول الأستاذ/ عبد الرحمن الرافعي المؤرخ المعروف والملقب لدي البعض بجيرتي العصر الحديث والذي قال عنه الرئيس / محمد نجيب : إن كتبه كانت سببا للثورة ، يقول الرافعي في كتابه ( مقدمات ثورة يوليو 1952 ) :

في يوم الاثنين 8 أكتوبر سنة 1951 وقع حادث هام في تاريخ مصر القومي ، كان بداية مرحلة جديدة من مراحل جديدة من مراحل كفاح الشعب في سبيل تحقيق أهدافه ، ذلك هو إعلان إلغاء معاهدة 26 أغسطس سنة 1963 .
اجتمع البرلمان بمجلسيه ( النواب والشيوخ ) مساء ذلك اليوم ، وألقى مصطفى النحاس رئيس الوزارة وقتئذ بيان مستفيضا عن سياسة الحكومة نحو معاهدة سنة  1936، أعلن فيه قطع المفاوضات السياسية التي كانت قائمة في عهد وزارة الوفد بين الحكومتين المصرية والبريطانية "بعد أن تبين بجلاء عدم جدواها " كما أعلن إلغاء معاهدة 26 أغسطس سنة 1936 واتفاقيتي 19 يناير و10 يوليه سنة 1889  بشأن إدارة السودان ، وقدم إلى البرلمان المراسيم بمشروعات القوانين المتضمنة هذا الإلغاء.
وأولها مرسوم بمشروع قانون يقضي بإلغاء القانون رقم 80 لسنة  1936 الذي سبق صدوره بالموافقة على تلك المعاهدة ، وانتهاء العمل بأحكامها ، وإلغاء القانونين الخاصين بالإعفاءات والميزات التي كانت تتمتع بها القوات البريطانية في مصر تنفيذاً لهذه المعاهدة ،انتهاء العمل بأحكام اتفاقتي 19 يوليه سنة  1899 بشأن إدارة السودان.
والثاني مرسوم بدعوة البرلمان لتعديل الدستور لتقرير الوضع الدستوري تعيين لقب الملك والثالث مرسوم بمشروع قانون بتعديل الدستور وجعل لقب الملك " ملك مصر والسودان " بعد أن كان " ملك مصر ".
والرابع مرسوم بمشروع قانون يقضي بأن يكون للسودان دستور تضعه جمعية تأسيسية تمثل أهالي السودان.
وقد قابل البرلمان بمجلسيه هذه المرسوم بالتأييد والموافقة والحماسة البالغة ، وقف ممثلو المعارضة في كلا المجلسين ، وأعلنوا تأييدهم للحكومة في موقفها ، وأقر البرلمان هذه المراسيم بالإجماع ، وصدرت بها القوانين رقم 175 و 176 و 177 لسنة 1951 ونشرت بالجريدة الرسمية عدد 16 و 17 أكتوبر سنة 1951  .
استقلت البلاد إلغاء معاهدة سنة  1936 بالغبطة والحماسة ، وأبدت استعدادها للبذل والتضحية ، شأنها في الأوقات العصيبة ، واستعدت الأمة بمختلف هيئاتها وطوائفها للكفاح ، وتجاوبت مع الحكومة في مجاهدة الإنجليز في القنال ، وتجلت في الشعب الروح الوطنية الثائرة التي ظهرت في ثورة سنة 1919  .

ويقول الرافعي في موضع آخر من كتابه :

وسرت الحماسة إلى نفوس المواطنين ، وأخذوا يستعدون للكفاح ضد الإنجليز في القنال ويعدون له عدته من تلقاء أنفسهم ، وكان في الحق كفاحًا مجيدًا ، كفاح شعب أعزل من السلاح أمام قوات غاصبة مسلحة بأحدث معدات الفتك والقتال.
وتجلت بطولة الفدائيين في مهاجمة المعسكرات والمخافر والمنشآت البريطانية في منطقة القنال ، مما تردد صداه في صحف العالم ، وكان من أقوى الدعايات لمصر ضد الاحتلال البريطاني.

استعرض الرافعي مراحل كفاح ونضال الشعب المصري ضد الانجليز في مدن القنال ، حيث تحدث عن انسحاب العمال المصريين من المعسكرات البريطانية ، وتحدث عن إضراب المتعهدين والموردين عن توريد التموين لمعسكرات الانجليز ، وتحدث عن العديد من المعارك التي دارت بين الانجليز وطوائف من الشعب المصري من المتظاهرين ضد الاحتلال منها معركة الإسماعيلية الأولي في 16/10/1951 ومعركة بورسعيد الأولي في ذات التاريخ ، كما تحدث عن جرائم الانجليز واحتلالهم لكوبري الفردان وجمرك السويس وعزلهم لمنطقة القنال وإقامتهم لحكم عسكري بريطاني بها ، تحدث عن كتائب الفدائيين ، وعن معركة الإسماعيلية الثانية في 17 ، 18 نوفمبر 1951م ، وتحدث عن جلاء العائلات الانجليزية ، وعن معركة السويس الأولي في 3/12/1951 .

تاريخ مشرف من نضال وكفاح الشعب المصري عرضه الرافعي عن الفترة من إعلان إلغاء معاهدة 1936 حتي وصل إلي مجزرة الإسماعيلية التي ارتكبها الجيش البريطاني ضد رجال الشرطة في 25 يناير 1952 والتي يقول عنها الرافعي :

وقعت في مدينة الإسماعيلية يوم الجمعة 25 يناير سنة  1952 مجزرة بشرية دمغت الإنجليز بالوحشية وسجلها التاريخ في الصحائف السود من جرائم الاستعمار . ففي ليلة الجمعة ، وفي جنح الظلام ، احتشدت قوات ضخمة من الجيش البريطاني تشد أزرها قوات كبيرة من الدبابات والمصفحات ومدافع الميدان ، وحاصرت مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات بلوكات النظام ، فكان هذا الحصار إيذانًا بأن حادثًا رهيبًا على وشك الوقوع.
وفي الصباح الباكر من هذا اليوم ، في منتصف الساعة السادسة صباحًا ، قصد ضابطان بريطانيان إلى منزل ضابط الاتصال المصري البكباشي شريف العبد ، وطلبا منه مقابلة البريجادير أكسهام قائد القوات البريطانية بمنطقة الإسماعيلية ، فلما قابله سلمه أكسهام إنذارًا طلب فيه تسليم أسلحة جميع قوات رجال البوليس من بلوكات النظام وغيرهم الموجودين بالإسماعيلية ، وجلاء تلك القوات عن دار المحافظة وعن الثكنات مجردة من أسلحتها في الساعة السادسة والربع من صباح ذلك اليوم ، ورحيلها عن منطقة القنال جميعها.
فأبلغ ضابط الاتصال هذا الإنذار إلى قائد بلوكات النظام اللواء أحمد رائف وإلى وكيل المحافظة علي حلمي فرفضاه ، ثم اتصلا على الفور بوزير الداخلية / فؤاد سراج الدين حوالي الساعة السادسة والربع صباحًا وأبلغاه الأمر ، فأقرهما على موقفهما ، وطلب إليهما عدم التسليم ، ومقاومة أي اعتداء يقع على دار المحافظة أو على ثكنات بلوكات النظام أو على رجال البوليس أو الآهلين ، ودفع القوة بالقوة ، والصمود في الدفاع حتى آخر طلقة مع القوات ، كما طلب إليهما تبليغ ذلك إلى القيادة البريطانية.
وبعد دقائق عاد القائد البريطاني وأبلغ قائد البوليس المصري بأنه إذا لم تسلم القوات المصرية أسلحتها فورًا فستهدم دار المحافظة والثكنات على من فيها.
فأصر القائد المصري على رفض التسليم ، وأصدر أمره إلى القوات التي تحت إمرته بالمقاومة إلى النهاية إذا بدأ العدوان الإنجليزي.
وبعد دقائق نفذ البريطانيون إنذارهم ، وأخذوا يضربون دار المحافظة والثكنات بالمدافع ، ويطلقون عليها القنابل ، وانهال الرصاص من الدبابات والسيارات المصفحة على جنود البوليس.
فردّ جنود البوليس البواسل على هذا العدوان بالدفاع المشرف ، وقابلوا الضرب بضرب مثله ، مع هذا الفارق بين القوتين في العدد والمعدات الحربية والأسلحة ، فإن قوة البوليس لم تكن تزيد على ثمانمائة جندي بثكنات بلوكات النظام ، وثمانين بالمحافظة ، وليس لديهم من السلاح سوى البنادق ، أما قوات الإنجليز فكانت تبلغ سبعة آلاف جندي مسلحين بالدبابات الثقيلة والمصفحات والسيارات والمدافع.
ونشبت بين الطرفين معركة دموية رهيبة ، أبدى فيها جنود البوليس الذين كانوا مرابطين في الثكنات وضباطهم شجاعة جعلتهم مضرب الأمثال في البطولة والتضحية ، ولم يتوقفوا عن إطلاق النار حتى نفذت آخر طلقة لديهم ، بعد أن استمرت المعركة ساعتين ، وعندئذ اقتحمت الدبابات البريطانية الثكنات وأسرت من بقي حيًّا من رجال البوليس.
أما القوة المصرية الأخرى التي حوصرت في دار المحافظة فقد تحصنت بها وأبلت أيضًا بلاء عظيمًا ، وقاومت العدوان البريطاني بروح عالية وشجاعة نادرة.
وإذا رأى الإنجليز شدة مقاومتهم أنذرتهم بأنهم سينسفون مبنى المحافظة على رؤوس من فيها إذا لم تسلم القوة سلاحها ، ولكن رجال القوة وقائدهم رفضوا الإنذار، وقال الضابط اليوزباشي مصطفى رفعت عندما طلب منهم التسليم : " لن يستلم البريطانيون منا إلا جثثًا هامدة " ، وظلوا يقاومون ببسالة إلى النهاية ، ولم يتراجعوا أمام العدوان المسلح ، ولم يضعف من استبسالهم تهدم الدار من ضرب المدافع واشتعال النيران فيها ، واستمروا في مقاومتهم حتى نفدت ذخيرتهم ، ومن ثم استسلموا للأمر الواقع.
وأحنى قائد القوة البريطانية رأسه احترامًا لهم ، وقال لضابط الاتصال بأن رجال القوات المصرية جميعًا قد دافعوا بشرف واستسلموا بشرف ، فحق عليه احترامهم جميعًا ضباطًا وجنودًا.
وقد سقط في ميدان الشرف في هذه المعركة من جنود البوليس خمسون شهيدًا وأصيب منهم نحو ثمانين جريحًا.
وأسر الإنجليز من بقي على قيد الحياة من رجال البوليس وضباطهم وعلى رأسهم اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام واليوزباشي مصطفى رفعت ولم يفرج عنهم إلا في شهر فبراير سنة 1952 .
ودمرت دار المحافظة وثكنات البوليس ، وقدرت البريطانية خسائر الإنجليز بثلاثة عشر من القتلى و12 جريحًا ، والراجح أنهم حوالي العشرين قتيلاً وثلاثين جريحًا.
وقد كان قائد قوات البوليس ووكيل المحافظة وسائر رجال القوة على حق في رفض الإنذار البريطاني ، لأن تسليم الجندي سلاحه هو عمل ينطوي على المذلة والهوان ، كما كان وزير الداخلية على حق أيضًا في إقرارهم على الرفض ، لأن استبسال هذه القوة المجيدة في الدفاع حتى آخر طلقة في أيديهم ، هو عمل مشرف لمصر مهما كانت التضحيات فيه أليمة ، والأمم تستفيد من صفحات التضحية أكثر مما تظن أنها تفيد من إيثار السلامة والتسليم.

في ذات اليوم الذي وقعت فيه مجزرة الإسماعيلية ضد رجال الشرطة اندلعت المظاهرات الشعبية في القاهرة والتي أعقبها في اليوم التالي حريق القاهرة الذي نسبه الرافعي للشعب ويفسره بأنه غضبا علي هذه المجزرة ، يقول الرافعي :

في يوم السبت 26 يناير سنة  1952، وقع حادث مشئوم في تاريخ مصر ، لم يسبق له مثيل في نوعه ، وهو حريق القاهرة ، كانت هذه أول مرة أضرم فيها النار فريق من أبنائها ، تحت سمع الحكومة وبصرها ، وبإهمالها وتهاونها ، وكان هذا الحريق المدمر ختام الكفاح المجيد في القنال سنة  1952، لأنه جاء نذيرًا بالانتكاس وخيبة الأمل ، بحيث قضى على صفحة هذا الكفاح حتى حين.
في مساء يوم الجمعة 25 يناير سنة  1952 نشرت وزارة الداخلية عن طريق دار الإذاعة أنباء مجزرة الإسماعيلية التي حدثت في ذلك اليوم ، وسبق الكلام عنها  ، وما وقع فيها من عدوان الإنجليز ووحشيتهم ، وما أسفرت عنه من قتل خمسين من رجال البوليس ، وإصابة نحو ثمانين منهم ، وهدم دار المحافظة ومبنى هؤلاء الجنود البواسل.
قرعت هذه الأنباء أسماع أهل العاصمة والأقاليم ، فوجموا لها ، وازداد سخط المواطنين على فظائع السياسة البريطانية ، وباتوا يتوقعون ردّ الحكومة على هذا العدوان الأثيم.
على أن أحدًا لم يكن يتوقع أن يكون رد الفعل لهذه الفظائع أن يتحول السخط إلى حرائق تشتعل في شتى نواحي العاصمة، وتكاد تقضي على عمرانها وعظمتها وجمالها.
توالت النذر منذ استفاضة أنباء مجزرة الإسماعيلية بأن يوم السبت سيكون يومًا عبوسًا قمطريرًا ، ومع ذلك لم تتخذ الحكومة ، وعلى الأخص وزارة الداخلية ، أي احتياط للمحافظة على الأمن والنظام ، بل بدا منها الإهمال والتراخي في القيام بواجبها ، مما كان السبب الجوهري لشبوب الحرائق.
ففي الساعة الثانية بعد منتصف الليل (صبيحة يوم السبت 26 يناير سنة  1952 ) تجمع في مطار القاهرة الدولي عمال المطار وجنوده وموظفوه المدنيون ، وكلهم مصريون ، حول أربع طائرات كبيرة لشركة الخطوط الجوية البريطانية ، تتملكهم روح السخط والاحتجاج على ما وقع في مجزرة الإسماعيلية ، ومنعوا نزول الركاب من الطائرات ، وكان عددهم يزيد على المائة ، كلهم من الأجانب من مختلف الأقطار ، كما امتنعوا عن تزويد الطائرات بالوقود ، وحالوا دون استئنافها السفر، وحاول بعضهم إضرام النار فيها ، وقد أبلغ هذا الحادث في حينه إلى المسئولين بوزارة الداخلية ، فأوفدوا إلى المطار ضابطًا كبيرًا ، فأقنع المتجمهرين في المطار بالإقلاع عن موقفهم ، لما يترتب عليه من عواقب دولية وخيمة ، فاقتنعوا وعادوا إلى عملهم ، وأمكن قيام الطائرات من المطار مستأنفة رحلتها ، ومع ذلك لم تتعظ الوزارة بهذا الحادث ، ولم تأخذ للأمر عُدته.
وفي الساعة السادسة من صبح ذلك اليوم تمر جنود بلوكات نظام الأقاليم في ثكنتهم بالعباسية ، وامتنعوا عن القيام بما كلفوا به من الذهاب إلى الجهات المخصصة لهم لحفظ الأمن بالعاصمة ، وخرجوا يحملون أسلحتهم ، في مظاهرة شبه عسكرية.
وكانت حجتهم التي تذرعوا بها للقيام بهذه المظاهرة سخطهم على ما أصاب زملاءهم بالإسماعيلية.
وثم سبب آخر لم يعلنوه دعاهم إلى هذا التمرد ، وهو أنه كانت لهم شكوى سابقة من وقف صرف بدل الطوارئ إليهم ، وقد أبلغت هذه الشكوى من رؤسائهم إلى وزير الداخلية  فؤاد سراج الدين فأشار بحفظها ، وظل هذا البدل محبوسًا عنهم زهاء ثلاثة أشهر ، ولم يصرف إليهم إلا بعد حريق العاصمة.
وكان الأحكم أن لا تهمل شكوى هؤلاء الجنود الذين وقعت عليهم أعباء حفظ لأمن في ظروف عصيبة ، ولقد أثار إهمال شكواهم حفيظة في نفوسهم ، كتموها إلى أن حانت الفرصة ، فأعلنوها يوم 26 يناير سنة 1952  .
خرج إذن جنود بلوكات النظام من ثكناتهم حاملين أسلحتهم في مظاهرة صاخبة ، يتصايحون بالسخط على ما أصاب زملاءهم في الإسماعيلية ، طالبين السلاح للقتال ، وساروا بجموعهم من العباسية إلى الأزهر ، ثم إلى ميدان العتبة الخضراء ومنه إلى ميدان الإسماعيلية التحرير ، فالجيزة ، واتجهوا إلى جامعة فؤاد جامعة القاهرة ، وكانت الساعة قد بلغت التاسعة صباحًا ، وهناك اختلطوا بالطلبة ، وتبادلوا وإياهم شعور السخط والهياج ، وسار الجميع في موكب المظاهرة متجهين إلى العاصمة ، يطوفون الشوارع ، صائحين صاخبين.
ومنذ الساعة التاسعة صباحًا أخذت مظاهرات عدة تتدفق على ميدان عابدين ( الجمهورية الآن ) ، ومنه إلى رياسة مجلس الوزراء ، وقد التقت هذه المظاهرات بمظاهرة جنود بلوكات النظام وطلبة جامعة فؤاد ، ووصل الجميع تباعًا إلى دار رياسة مجلس الوزراء ، وكان ذلك حوالي الساعة الحادية عشر والنصف.
وفي فناء هذه الدار أطل على المتظاهرين وزير الشؤون الاجتماعية /عبد الفتاح حسن ، وألقى فيهم خطبة حماسية ، جارى فيها شعورهم.
ثم تركت هذه الجموع دار الرياسة ، وانسابت في قلب العاصمة ، صائحة منادية بحمل السلاح والسفر إلى القنال لمحاربة الإنجليز.
وكانت أنباء هذه المظاهرات وتحركاتها تبلغ في حينها إلى وزارة الداخلية ، ولكنها لم تحرك ساكنًا ، وتركت الفوضى تنطلق من عقالها ، وترمي الوطن بشرورها.
ولم تصغ حتى إلى ما نبهها إليه رجال الأمن من خطورة الموقف ، وبدا منها الجمود في هذا اليوم العصيب.
ففي مساء اليوم السابق 25 يناير عقب استفاضة أنباء مجزرة الإسماعيلية توجه مدير الأمن العام وقتئذ ( حسين صبحي ) إلى وزير الداخلية / فؤاد سراج الدين حيث كان في اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء ، وقد إليه مذكرة مكتوبة اقترح فيها منذ فترة تعطيل الدراسة التي كان مقررًا استئنافها صباح يوم السبت 26 يناير، تجنبًا لحصول المظاهرات من الطلبة في ذلك اليوم ، ولكن وزير الداخلية أجابه بأنه لم يؤخذ باقتراحه استنادًا إلى ما أفضى به وزير المعارف / طه حسين من اطمئنانه إلى الحالة بعد النصح الذي أبداه عن طريق الإذاعة (الراديو ( إلى الطلبة وإلى أولياء أمورهم وإلى نظار المدارس بالإخلاد إلى الهدوء والسكينة.
وكان الأحكم لو قررت الوزارة منذ فترة تعطيل الدراسة وعدم استئنافها يوم 26 يناير ، لأن مظاهرة جنود بلوكات النظام قد لقيت في هذا اليوم تشجيعًا وتعضيدًا من طلبة جامعة فؤاد الأول ، وازدادت تفاقمًا بانضمامهم إليها.
ويدخل في هذا السياق أنه حين احتشد جنود بلوكات النظام في فناء جامعة فؤاد والتفوا بطلبتها ، اقترح أحد رجال الأمن المسئولين فتح الكباري بين الجيزة والقاهرة ، لمنع المتظاهرين من الذهاب إلى العاصمة ، وحصرهم في بر الجيزة ، فلم يؤخذ بهذا الاقتراح ، واقترح أيضًا الاستعانة بفرقة من جنود الجيش للمحافظة على النظام والأمن في هذا اليوم ، فلم يؤبه لهذا الرأي ، ولم يطلب وزير الداخلية نزول الجيش إلا بعد أن اشتعلت الحرائق في المدينة.
ومع أن الوزارة في مساء اليوم السابق 25 يناير منعت وصول مظاهرة إلى دار الرياسة حيث كان مجلس الوزراء مجتمعًا عقب ورود أنباء مجزرة الإسماعيلية ، فإنها تركت المظاهرات في يوم 26 يناير تجوب أنحاء العاصمة ، وتقتحم دار الرياسة كما تقدم بيانه ، دون أن تحرك ساكنًا ، وقد كان يوم 26 يناير أولى بالاحتياط والتشدد في منع المظاهرات من يوم 25.
بدأت حوادث الحريق في ميدان الأوبرا ، حوالي الظهر ، إذ هاجم فريق من المتظاهرين كازينو أوبرا ، وانهالوا عليه بالإتلاف ، وأشعلوا فيه النار ، ولما جاء رجال المطافئ لإخماد الحريق منعهم المتظاهرون من أداء واجبهم ، وأتلفوا خراطيم المياه.
وكان إضرام النار في هذا الكازينو نذيرًا بمحاكاته في جوانب أخرى من المدينة ، ذلك أن روح الجماعة ، وخاصة في أوقات الفتن ، تتأثر من أية بادرة تبدو من الرهط البارز من المتجمهرين ، فلم تكد النار تشتعل في كازينو أوبرا ، حتى سرت عدوى الحريق بين المتظاهرين ، فراحوا يشعلون النيران في الأماكن والأحياء المجاورة ، ثم امتدت إلى الأماكن الأخرى ، وكان المتظاهرون يستعملون في إضرام النار البترول والبنزين والكحول وما إلى ذلك من مواد الحريق ، وتخلل الحرائق نهب وسلب لمعظم المحلات المحترقة.
وتوالت حوادث إشعال النار والإتلاف والنهب فيما بين الظهر والغروب ، فاجتاحت شوارع وميادين بأكملها ، وهي :
ميدان إبراهيم باشا (الأوبرا) ، شارع فؤاد (26 يوليه ( ، شارع إبراهيم باشا (الجمهورية) شارع عدلي باشا ، شارع قصر النيل ، شارع سليمان باشا ، شارع عبد الخالق ثروت ، ميدان مصطفى كامل ، شارع شريف ، شارع رشدي باشا ، شارع جامع شركس ، شارع البستان ، شارع محمد فريد ، شارع عماد الدين ، شارع نجيب الريحاني ، شارع محمود بسيوني ، شارع البورصة الجديدة ، شارع توفيق ( أحمد عرابي ) ، ميدان التوفيقية (أحمد عرابي) ، شارع جلال ، شارع الملكة (رمسيس) ، ميدان الإسماعيلية ) التحرير) ، شارع الخديوي إسماعيل (التحرير) ، شارع الشواربي ، شارع الفلكي ، شارع محمد صدقي ، سكة المغربي ، شارع الأنتكخانة ، شارع شامبليون ، شارع الألفي ، ميدان حليم باشا ، شارع حليم باشا ، شارع قنطرة الدكة ، ميدان قنطرة الدكة ، شارع كلوت بك ، شارع دوبريه ، شارع كامل صدقي (الفجالة) ، شارع الظاهر ، شارع محمود فهمي المعماري ، ميدان باب الحديد ، شارع المهراني ، شارع المهدي ، شارع خليج الحور ، شارع محمد علي (القلعة) شارع الأهرام ، (حيث أحرق أوبرج الأهرام ، وكازينو صوفر ، وكازينو كوفن جاردن ).
وبلغ عدد المحلات والمنشآت التي أصابها الحريق والدمار نيفًا وسبعمائة ، معظمها مملوك للأجانب ، وبعضها مملوك لمصريين ، وكلها تقع في أجمل وأكبر أحياء العاصمة ، واستمرت النيران مشتعلة فيها بقية النار، وهزيعًا من الليل ، وظلت تتقد في بعض الأماكن إلى اليوم التالي.
وفيما يلي إحصاء للمحال التي احترقت في هذا اليوم المشئوم :
 300ثلاثمائة من المتاجر، ومنها كبرى المحلات التجارية بالعاصمة.
 30 إدارة ومكاتب لشركات كبرى.
 117 مكاتب أعمال وشقق للسكن.
 13 فندقًا من الفنادق الكبرى ، منها فندق شبرد ذو الشهرة العالمية ، وفندق متروبوليتان ، وفندق فيكتوريا إلخ...
 40 دار للسينما أي معظم دور السينما في القاهرة ، منها سينما ريفولي وأصحابها مصريون ، وسينما راديو ، وسينما مترو ، وسينما ديانا ، وسينما متروبول ، وسينما ميامي ، وسينما هونولولو بحدائق القبة إلخ.
 8 محلات ومعارض كبرى للسيارات.
 10 متاجر للسلاح.
 73مقهى ومطعم وصالة ، منها محلات جروبي ، ومحل على الدلة ، والأمريكين ، وجميع المطاعم الممتازة في القاهرة.
 16 ناديًا ، منها نادي التورف كلوب بشارع عدلي باشا ، وقد قتل فيه تسعة من رواده البريطانيين ، ماتوا من الحريق ، ونادي رمسيس ، ونادي دار العلوم ، والنادي اليوناني ، ونادي محمد علي إلخ.
 بنك واحد وهو بنك باركليز، وقد احترق فيه ثلاثة عشر شخصًا من موظفيه وعماله منهم بريطانيون ومنهم مصريون.
وهذه المحلات تقع في أهم شوارع العاصمة وميادينها ، بحيث غدت هذه الشوارع والميادين بعد الحريق أطلالاً وخرائب يبعث منظرها الحزن والأسى في النفوس.
وبلغ عدد القتلى في هذا اليوم 26 شخصًا ، منهم 13 في بنك باركليز ، وتسعة في التورف كلوب ، وواحد أمام بنك باركليز ، واثنان أمام محل عمر أفندي ، وواحد توفي أثناء حريق أجد المتاجر بشارع شريف ، وبلغ عدد من أصيبوا بحروق أو كسور أو جروح 552 شخصًا.
وترتب على حوادث الحريق أن شرد الموظفون والعمال المصريون في المحلات والمتاجر والمنشآت التي نكبت بالحريق ويبلغ عددهم بضعة آلاف ، يعولون نحو عشرين ألف نسمة.
وبالجملة فإن القاهرة نكبت هذا اليوم في عمرانها ، بما لم تنكب بمثله في تاريخها الزاهر.
ويضيف الرافعي :

من الواجب أن نتقصى المسئولة في حريق العاصمة ، وأن نتحرى الحقائق ولو كانت لا ترضينا ، لأننا نستفيد من حقائق التاريخ أكثر مما يفيدنا تجاهلها أو الانسياق في تفسير الحوادث وراء الميول والأهواء والعواطف النفسية.
لا شك أن أول مسئول عن طريق القاهرة هو الاحتلال البريطاني ، إذ أن مجرد وجوده يدعو إلى إثارة السخط في النفوس ، هذا إلى أن فظائع الإنجليز في القنال ، وخاصة مجزرة الإسماعيلية التي وقعت يوم 25 يناير ، قد هاجت الشعور العدائي ضد البريطانيين ، وأوصله إلى درجة الغليان ، وفقدان الوعي والاتزان ، فانصرف إلى الحريق كمظهر للحنق والغضب واللاشعوري ، وتفاقم الشعور العدائي فشمل الأجانب عامة ، فاستهدفت محالهم للحرق والنهب والتدمير.
وإلى هنا تقف مسئولية الاحتلال ........ إلخ
انتهي حديث الرافعي ، ونشير إلي أن دولة العسكر منذ بدأت عام 1952 وهي تخفي الحقائق عن الشعب ، أغلب المصريين لا يعرفون أن ثورة يوليو 1952 كانت عملا متأخرا أدرك به الضباط الأحرار الثورة الشعبية المشتعلة لمدة عام كامل قبل ثورتهم ، عام لا تسمع فيه عن دور لضباط الجيش في هذه الأحداث بما فيها مجزرة الجيش البريطاني ضد رجال الشرطة المصرية الذين خاضوا معركة ضحوا فيها بأرواحهم ، ولم ينسحبوا من معركة لم تكن متكافئة بأي حال من الأحوال .
وفي الوقت الذي غاب فيه دور الجيش المصري فيما وقع علي الشرطة من اعتداء نجد الشعب المصري وطلاب مصر يحرقون القاهرة غضبا علي ما لحق بإخوتهم من رجال الشرطة البواسل .
أعتقد لو أن رجال الشرطة المصرية يعرفون هذه الحقائق التاريخية لما أعلن وزيرهم محمد إبراهيم الانضمام إلي انقلاب السيسي ليدخل في مواجهة مع شعب له مع الشرطة سوابق بطولية ، لو كان رجال الشرطة يعرفون التاريخ لما راحوا يقتلون المصريين لاسيما الشباب منهم في المظاهرات وفي الأماكن التي يختبئون فيها هربا من القضايا التي يتم تلفيقها لهم .
لقد انحازت الشرطة للعسكر الذين تركوهم في معركة بطولية من أجل تحرير مصر ضد الشعب الذي حرق ممتلكاته غضبا علي شهدائهم .
هل يمكن أن تسترجع الشرطة صفحات التاريخ وتعود للانحياز إلي الشعب ، وتعرض عمن لا يتحركون إلا من أجل مصالحهم التي لم تعد خافية علي أحد من المصريين .
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ببرلمان الثورة .





















ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق