تحدث الأستاذ الدكتور / محمد صبري في كتابه ( تاريخ مصر من محمد علي
حتي العصر الحديث ) عن الديون التي اقترضها الخديوي إسماعيل والآثار التي ترتبت
عليها في حينها وللأجيال المصرية اللاحقة فقال :
أنفق إسماعيل الأموال الطائلة في سفرياته للأستانة للحصول علي
امتيازات توسع استقلاله وتكسر قيود معاهدة لندره ، وكان يرشو السلطان نفسه ووزراءه
وكبار رجال الدولة والسياسيين والصحفيين ، ويقدر ما أنفقه فيها بنحو عشرين مليون
جنيه علي الأقل ، يضاف إليها زيادة الجزية السنوية نحو 400,000 أربعمائة ألف جنيه
علي الأقل .
وقد حصل الوالي في مقابل ذلك علي ثلاثة فرامانات ( 1866 , 1867 , 1873
) ، كان آخرها يشتمل علي الامتيازات الممنوحة في الأول والثاني ، وهو أهم وثيقة
بعد معاهدة لندره تحدد مركز مصر إزاء الدولة ، وأهم أركان هذا الفرمان تنظيم
الوراثة وجعلها تنتقل من الأب للابن مباشرة ، ونيل لقب خديوي ، وزيادة الجيش ،
وعقد القروض والمعاهدات مع الدول من غير قيد .
ولا ريب أن هذه الامتيازات قد وسعت الاستقلال
المصري ووطدته من الناحية النظرية ولكن الباب العالي أوجد فيه ثغرة لأنه وإن كان
قد امتنع لغاية سنة 1872 عن تخويل حكومة مصر الحق في عقد قروض إلا أنه بقبوله من
الوالي عطاياه العظيمة صار في عداد المسئولين عن الأزمة التي وقعت فيها ولايته .
وكانت أوربا نفسها تشجع إسماعيل علي سياسة
الاقتراض لأن ثروة مصر كان يضرب بها المثل ، وكانت الدول الكبري في ذلك الوقت بدأت
تدخل في عصر الصناعة الكبري ، فتكاثرت رؤوس الأموال ، وقامت المضاربات ، وتكونت
المالية الدولية والبيوتات الكبيرة التي صارت لها الكلمة الأولي في سياسة الحكومات
.
وكان الماليون وعملاؤهم يبحثون عن الأرض
البكر التي يستثمرون فيها رؤوس أموالهم فوفد الكثيرون منهم إلي الإسكندرية في
أوائل حكم إسماعيل وأسسوا فيها الشركات المختلفة واتصلوا بالوالي .
ونزح الأجانب في الوقت نفسه إلي مصر بكثرة
طلبا للرزق وكانوا من أحط الأوساط ومختلف الملل والنحل ، وساعدهم علي ذلك ظهور
وسائل النقل الحديثة من قاطرات ومراكب بخارية اختصرت المسافة في البر والبحر ، وقد
أخذت تنتشر منذ ذلك الوقت المصالح الأوربية في مصر ، وكانت الديون من أخطرها علي
سلامة الدولة .
ولا شك أن رجال السياسة الذين كانوا علي
اتصال برجال المال أمثال "روتشلد" و "أوبنهايم" و "فريهلينج"
في فرنسا وانجلترا كانوا يدفعونهم إلي إرسال أصول أموال في مصر ، وكان الوالي في
إصلاحاته كما يقول البارون دي ملورسي : " كالباني الذي أراد أن يبني بيتا
يكلفه ما لا طاقة له به فرهن الأرض وتقدمت له الشركات الأوربية بالمال علما بأنها
ستضع يدها علي الملك يوم يعجز المدين عن سداد دينه ".
وقد كانت قناة السويس ( 1859 – 1869 ) هي أهم
الطرق بين الشرق والغرب باعثا علي إيقاظ المطامع الاستعمارية نحو مصر ، وكان في
انجلترا في منتصف القرن التاسع عشر حزب حر يخشي علي الإمبراطورية البريطانية من
تشتتها وتفككها ، ويحارب الفكرة الاستعمارية ، فلما تكونت في أوربا الجمعيات
الجغرافية وكثرت الاكتشافات في القارة الأفريقية ، وربطت قناة السويس أجزاء
الإمبراطورية بعضها ببعض عدل الحزب الحر عن آرائه وظهرت أهمية قناة السويس الحربية
والسياسية بالنسبة للهند ، وأهميتها التجارية والاستعمارية بالنسبة لأفريقيا .
منذ ذلك الوقت أخذت انجلترا وفرنسا تتنافسان
في استغلال مصر ووضع اليد عليها ، وكانت كل منهما تجد في خطة الأخرى نحو مصر مبررا
لسياستها ، وكانت الدولتان تجدان في إسراف إسماعيل
مبررا لسياستهما معا ويحملانه تبعية أعمالهما
في مصر حتي في الوقت الذي أصبحت فيه المالية والإدارة تحت الرقابة الأوربية
الفعلية ( 1876 – 1879 ) .
والواقع أن إسماعيل قد أسرف ودفعه حب الظهور
إلي إنفاق الأموال المقنطرة في إكرام ضيوف الأوربيين ، وهداياه ، وحفلاته الراقصة
وقصوره الباذخة ، وسار سيرة بعض الملوك الأوربيين ، وأنفق معظم الأموال التي
اقترضها في حين أن السياسة الأوربية كانت تنصب له الحبائل بطريقة غير شريفة وقد
أعارته المال بأفحش أنواع الربا .
كانت ديون إسماعيل ثابتة وسائرة أما الثابتة
وهي القروض المحدودة التي عقدها في بنوك باريس ولندره فقد بلغت من 1863 حتي 1868
نحو عشرين مليون جنيه ، وتراكمت عليه الديون السائرة الصغيرة المستحقة الدفع فكان
يجددها بفوائد كبيرة تزيدها في كل تجديد حتي بلغت ثلاثة أو أربعة أضعاف المبلغ
الأصلي الذي اقترضته الحكومة .
وأخذ مركز الحكومة المالي يتزعزع حوالي سنة
1867 فبدأت تتوقف عن دفع مرتبات الموظفين ، وكانت الضرائب تُجبي مقدما فساءت أحوال
الزراعة والأهالي ، واضطر الباب العالي في سنة 1868 إلي إصدار فرمان يحرم تقديم أي
قرض لمصر بدون إذن الحكومة التركية ، ولكن بعض المقربين من الوالي أقنعوه برهن
أملاكه الخاصة بدلا من إيرادات الحكومة فاستغني بذلك عن تصريح تركيا وعقد سلفة
جديدة مقدارها 7 ملايين لم يدفع منها إلا 5 ملايين بفائدة 13% مع مصرف " بتشو
فسهايم " فاحتج الباب العالي لدي الحكومة الانجليزية باعتبارها الممثلة لكبار
الدائنين علي كل اتفاق مالي لم يصدق عليه من السلطان ويكون من شأنه المساس القريب
أو البعيد بإيرادات مصر .
ورغما من ذلك فإن حكومة إسماعيل استمرت في
عملياتها المالية ولم يجد الوالي بجانبه من يعينه علي الخروج من الضائقة بطريقة
اقتصادية غير طريقة القروض وما إليها ، فاقترح إسماعيل صديق " المفتش "
وزير ماليته منذ سنة 1868 فكرة المقابلة التي أنشئ لها ديوان مخصوص في سنة 1871 ،
وكان الغرض منها سداد ديون مصر كلها وذلك بأن يدفع الأهالي مقدما ضرائب ستة أعوام
في مقابل إعفائهم من نصف الضريبة بصفة دائمة ، وقد تمكنت الحكومة في الحال من
الحصول علي 8 ملايين من الجنيهات في حين أن الدين الثابت وحده كان يبلغ 27 مليون
جنيه ، وكانت الحكومة بحاجة إلي المال الوفير لمتابعة سياستها وسداد بعض ديونها
الصارخة ، ولم يأت شهر إبريل حتي عقدت سلفة جديدة مع ( أوبنهايم وابن أخيه ) بلغ 4
ملايين من الجنيهات .
ويلاحظ أن الماليين كانوا يعلمون جيدا أنهم
يخاطرون بأموالهم لأن مركز مصر المالي كان في غاية الدقة ، وكان عقد هذه القروض من
جهة أخري بدون تصريح تركيا خرق للقوانين والمعاهدات لا يبرره إلا جشع الماليين
الذين كانوا يستندون إلي قوة خفية تكفل لهم مصالحهم .
وكان إسماعيل يفكر بعد السلفة الأخيرة في
الذهاب إلي الأستانة ، حيث روي السفير الانجليزي في الأستانة سير " هنري
إليوت " أن إسماعيل حصل من الباب العالي في سبتمبر 1872 علي فرمان يخول
الوالي حق عقد القروض بدون قيد ولا شرط ، وأن هذا الفرمان قد صدر من السلطان رأسا
بدون علم الديوان في مقابل تسعمائة ألف جنيه قُدمت للسلطان شخصيا وخمسة وعشرون ألف
جنيه للصدر الأعظم وخمسة عشر ألف جنيه لوزير الحربية وعشرين ألف جنيه لموظفي
السراي ، ولما سقطت وزارة محمود باشا فكرت الوزارة الجديدة في إلغاء هذا الفرمان الذي
لم يسجل كالعادة في الباب العالي ، واقترح مدحت باشا وقتئذ علي السفير الانجليزي
عدم الاعتراف حرصا علي مصلحة مصر بهذه الوثيقة باعتبارها غير قانونية ولا قيمة لها
، ولكن السفير رده قائلا ولكن كلمة السلطان أعطيت للوالي ولابد علي أية حال من
المحافظة عليها .
عاد الوالي إلي مصر بعد أن اكتسب حريته
المالية التي ساعده علي نيلها سفير انجلترا في الأستانة فوجد الحكومة في ضائقة
شديدة ، وكان ينوي وقتئذ إرسال حملة إلي الحبش فتفاوض في سنة 1873 مع بيت انجليزي
( أوبنهايم ) في عقد سلفة بشروط أرغم إسماعيل علي قبولها ، وقد بلغت السلفة
الجديدة اثنان وثلاثون مليون جنيه بفائدة 8% أي بنحو مليون ونصف جنيه في العام ،
ولكن إسماعيل لم يدخل في خزائنه من هذا المبلغ إلا أحد عشر مليون وسبعمائة وخمسون
ألف جنيه ، ولم يُرو في تاريخ القروض الحكومية صفقة رابحة كهذه للدائنين وأصدقائهم
.
وقد صارت بعد هذه السلفة فوائد الديون
الثابتة وحدها تبلغ الخمسة أو الستة ملايين من الجنيهات ، وكانت الحكومة تريد أن
تجد خلاصها في سلفة جديدة ، فتصدي " اللورد بيكو نزفيلد " وخرق خرقا في
السياسة بشرائه الأسهم التي كانت للحكومة في القناة منذ سعيد 176,602 من 400,000 .
ويري قنصل الولايات المتحدة سابقا في مصر
مستر " فارمان " أن هذه الصفقة كانت الضربة القاضية علي الخديوي وأكبر
غلطة مالية وسياسية في حياته ، مالية : لأن الوالي باع الأسهم بثمن بخس وتعهد فوق
ذلك بدفع فوائد 5% سنويا لهذا المبلغ لغاية أول يوليو سنة 1894 أو بعبارة أخري
كانت الحكومة الانجليزية دائنة تسترد مبلغها بالتقسيط بعد أن استولت علي أسهم
قيمتها أربعة وعشرون مليون جنيه في سنة 1896 و ثلاثون مليون جنيه في سنة 1915 ،
وغلطة سياسية لأن الحكومة الانجليزية أصبحت لها مصلحة مزدوجة مالية وسياسية تمهد
السبيل لتدخلها الفعلي في مصر ، في حين أن فرنسا كانت المصالح المالية ذريعتها
الوحيدة للتدخل في مصر ، وبذلك رجحت كفة السياسة الانجليزية .
ولم تمضي إلا أيام علي شراء الأسهم حتي تألفت
لجنة انجليزية برئاسة " كيف " لدرس الحالة في مصر ، وكان هذا العام 1876
هو بدء التدخل الفعلي في مصر وإرسال البعثات المختلفة التي كان الغرض منها إصلاح
الإدارة المعتلة بوضعها تدريجيا تحت المراقبة الأوربية ضمانا للدائنين .
فطن إسماعيل إلي مرامي السياسة الانجليزية
فصرح في حديث له مع " بيتي كنجستون " سنة 1876 قائلا : " إنني ما
كنت أعتقد قط أن انجلترا تبغي بشرائها أسهم قناة السويس وإرسالها موظفا كبيرا لفحص
حساباتي وضع يدها علي مصر " .
وقد اقترح " كيف " توحيد الديون
المصرية كلها علي أساس فائدة معتدلة تتفق مع حالة البلاد وتأجيل الاستحقاقات نظرا
لخطورة الحال ، وهذا الحل أجدي لحملة السندات من الخسارة الفادحة التي تصيبهم من
جراء التدهور المالي .
وكان "كيف" يقترح في الوقت نفسه
وضع الإدارة تحت رقابة " ريفرس ويلسون " أحد رؤساء المالية الانجليزية
الذي كان في طريقه إلي مصر ، ولكن إسماعيل عارض في هذا الشرط الذي يقيد سلطته
واجتهد في الاتفاق مع الماليين الفرنسيين فأرسلوا في 2 ، 7 مايو مرسومين بإنشاء
صندوق الدين العمومي وتحميل جميع الديون السائرة والثابتة إلي دين موحد بفائدة 7 %
.
وقد عُين في صندوق الدين مندوبون عن الحكومات
الفرنسية والنمساوية والايطالية مسيو "دي بلينيير" والهرفون "كريمر"
والمسيو "بارافلي" .
وقد امتنعت الحكومة الانجليزية عن تعيين
مندوب لها ، وعارضت المشروع زمنا ثم استقر الرأي علي إرسال بعثة جديدة مؤلفة من "جوشن"
و "جوبير" باعتبارهما ممثلين للدائنين الانجليز والفرنسيين لإجراء تصفية
عامة ، وأرسلت انجلترا وفرنسا في الوقت نفسه سياسيين من ذوي الخبرة اللورد "فيفيان"
والبارون "دي ميشيل" لتمثيلهما في مصر ووضع قواعد المراقبة الثنائية (
كوندومنيوم ) .
وكان الخديوي يفكر وقتئذ في الاقتداء بتركيا
وإعلان إفلاس الحكومة المصرية ، ولكن اتفاق الدولتين حال دون ذلك ، وقد هدده
البارون دي ميشيل في حديث له بطلب عزله من الولاية ، فقال إسماعيل : ولكن ما العمل
إذا كنت لا أستطيع الدفع ، وكانت مصر جلدا علي عظم ، أتظنون أنكم بوضع السكين علي
رقبتي تتمكنون من استنباط الموارد التي تنقصها .
وقد كانت أهم نتائج بعثة "جوشن وجوبير"
المالية إيجاد دين ممتاز مقداره 17 مليون جنيه بفائدة 5% وإنقاص الدين الثابت إلي
59 مليون جنيه بفائدة 7% ، فأصبح مجموع فوائد الدين التي تدفع سنويا لا تقل عن
6,565,000 ستة ملايين وخمسمائة وخمسة وستون ألف جنيه أي 66% من الإيرادات العامة ،
فلا يبقي لمصر بعد دفع الجزية إلا مليون ونصف تقريبا لا تكفي للإنفاق علي الإدارة
وتعهد أعمال الري وغيرها التي هي عماد الثروة في البلاد .
وكان إسماعيل ووزير ماليته " إسماعيل
المفتش " يقولان بأن أقصي فائدة في وسع مصر احتمالها 5% ، ويقال أن هذا كان
رأي " كيف " أيضا ، ولكن الدائنين لا يعنيهم مصلحة البلاد ما دامت
خزائنها في أيديهم وإدارتها الضامنة آيلة إلي مراقبة حكوماتهم الفعلية .
أما نتائج البعثة السياسية فهي تتلخص في نظام
( كوندومنيوم ) الذي يشرك انجلترا وفرنسا في إدارة مصر ، وقد قضي مرسوم 18 نوفمبر
سنة 1876 :
أولا: بتعيين مراقبين عامين للمالية المصرية
أحدهما بريطاني والآخر فرنساوي .
ثانيا: بتعيين مندوبية للدين العام مؤلفة من
أجانب تعرض حكوماتهم أسمائهم علي الحكومة المصرية ، وتنحصر مهمتهم في استلام إيرادات
الجهات المرهونة ضمانا لسداد أقساط الدين السنوي من يدي مراقب الإيرادات العام ،
وتسليمها لبنكي انجلترا وفرنسا واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستهلاك ذلك الدين .
ثالثا: بتعيين مندوبية أخري لإدارة مصلحتي
السكك الحديدية وميناء الإسكندرية مؤلفة من مصريين وفرنساوي وانجليزيين تحت رياسة
أحد العضوين الانجليزيين ، تنحصر مهمتها – علاوة علي الأشغال الإدارية – في تسليم
إيراد هاتين المصلحتين إلي مندوبي الدين العام .
فعملا بهذه النصوص عينت فرنسا بارون "دي
مالاريه" مراقبا عاما فرنساويا ، والمسيو "دي بلنيير" مندوبا
فرنساويا لصندوق الدين ، وأبقت النمسا وايطاليا مندوبيها السابق تعيينهما ، وعينت
انجلترا المستر دي رومين للمراقبة ، والجنرال مريوت الانجليزي مديرا للسكك
الحديدية وميناء الإسكندرية .
وقد اصطحب المستر "دي رومين"
المراقب البريطاني المستر "جرلد فتز جرلد" أحد موظفي حكومة الهند معه
لإدارة الحسابات المصرية التي كانت في حالة فوضي .
ولما تم ذلك بادر "جوشن" بتعيين
الميجور بيرنج ( اللورد كرومر ) فيما بعد مندوبا انجليزيا في صندوق الدين فوصل مصر
في 2 مارس سنة 1877 .
ولكن هذا النظام الثنائي من الوجهة المالية
علي الأقل قام علي قاعدة متداعية ، لأنه كان يجب إقناع الدائنين بقبول فائدة
معقولة أي 5% وتأجيل دفع الكوبون رحمة بالبلاد وإدارتها ، وقد كتب قنصل انجلترا
اللورد "فيفيان" إلي حكومته في 12 يوليه سنة 1877 ، بمناسبة دفع أول
قطعية كبري ، يقول : "إن الأموال المطلوبة 2،074,975 جنيه دفعت كلها أمس ،
ولكني أخشي أن يكون بلوغ هذه النتيجة قد كلف الفلاحين ثمنا جاء بقاصمة الظهر فبيعت
حاصلاتهم المقبلة قهرا ، وطلبت منهم الأموال مقدما ، وكل ذلك قد أنتزع من بلاد
أرهقتها الضرائب ، وأكبر ظني أن الإدارة الأوربية آخذة من حيث لا تشعر في القضاء
علي ثروة مصر الزراعية ، وجعلها أثرا بعد عين ، وإني أري أن الانجليز يأخذون بنصيب
من هذه التبعية الخطيرة" .
توالت الكوارث علي مصر فنقص النيل في سنة
1877 نقصا لم يسبق له مثيل نشر القحط والمجاعة ، أعقبه في السنة التالية فيضان أتي
علي الزرع والضرع ، وقد أرغمت مصر في أثناء ذك علي إرسال حملة والإنفاق عليها في
الحرب الروسية التركية 1877 .
كانت الخزينة خاوية ، وكان الشعب باعتراف
اللورد فيفيان في رسالة 30 نوفمبر سنة 1877 يتزمر من أن يدفع لأصحاب الديون كل ما
لهم بينما المستخدمون وعليهم المدار في تسيير سفينة الحكومة لا يتقاضون شيئا .
وكان الخديوي يلح علي المستر فيفيان في رفع
بعض الظلم الواقع علي البلاد من جراء الامتيازات بأن يُحصل من الأوربيين بعض
الضرائب التي تقع كلها علي كاهل الوطنيين الفقراء ، والكف عن استيراد البضائع المهربة
التي تملأ البلاد وتباع علنا علي أعين السلطات المصرية العاجزة عن التدخل .
ولكن كان لا يهم أوربا إلا دفع القطعيات
المستحقة والاستيلاء علي حكومة مصر ، وقد بلغ الإيراد في آخر سنة 1877 تسعة ملايين
وخمسمائة وثلاثة وأربعون ألف جنيه ، دفعت منها مصر سبعة ملايين جنيه وأربعمائة
وثلاثة وسبعون ألف وتسعمائة وتسعة جنيهات للدائنين ، ولم يبق لها بعد دفع الجزية
وفوائد أسهم القناة التي بيعت لانجلترا إلا مليون وسبعون ألف جنيه للقيام بنفقات
الإدارة .
وكان عدد الموظفين الذين يتقاضون المرتبات
الضخمة آخذة في الازدياد ، وكان النفوذ الأول للانجليز في الإدارة المصرية ، روي
البارون دي ميشيل في مذكراته أن الإدارة المصرية بعد بعثة جوشن قد ملئت فعلا بالموظفين
الانجليز في أسابيع قلائل .
ولا ريب أن انجلترا كانت لها الكفة الراجحة
في مصر ، فقضت فعلا علي النظام الثنائي من الوجهة السياسية باعتباره قائم علي
قاعدة المساواة بين الدولتين خصوصا بعد أن احتلت قبرص في أثناء الحرب الروسية
التركية فهيمنت علي قناة السويس ، وأصبحت بعد مؤتمر برلين 1878 صاحبة النفوذ في
الأستانة .
وقد أظهرت هذه الحرب القلق السياسي الذي كان
مستحوذا علي انجلترا من جهة مصر ، وكتب الكاتب الانجليزي الشهير "إدوارد ديسي"
مقالات في هذا الموضوع إحداها في مجلة القرن التاسع عشر في يونية سنة 1877 تحت
عنوان " طريقنا إلي الهند " وفيها يحض انجلترا علي انتهاز هذه الفرصة
التي لم تسنح منذ 75 سنة ، فرصة انشغال فرنسا بألمانيا وإمكان امتلاك مصر دون
التعرض لخطر الحرب مع فرنسا .
وكتب ديسي مقالة أخري في المجلة البريطانية
سنة 1877 عنوانها " الخديوي والحماية الانجليزية " يطلب فيها أن تضع
انجلترا يدها الفعلية علي حكومة مصر في مقابل تحمل مسئولية إنفاذ تعهدات مصر نحو
دائنيها وإصلاح الإدارة نفسها .
ولما كانت أحوال البلاد وإدارتها وماليتها في
ارتباك مستمر وعمت الشكوى أُقترح علي الخديوي أن يطلب إرسال بعثة جديدة ، فأصدر في
30 مارس 1878 مرسوما يقض بتعيين لجنة للتحقيق تحت رئاسة المسيو "دي لسبس"
لفحص الحالة المصرية فحصا دقيقا تاما ، وفوض لها السلطة المطلقة لإجراء كل تحقيق
تراه موصلا إلي الغرض الذي أنشئت من أجله .
وقد تشكلت هذه اللجنة ، وكان وكيلاها السير "ريفرس
ولسن" ورياض باشا ، وأعضائها مندوبي الدول الأربعة في صندوق الدين ، "دي
بلنيير" عن فرنسا و "بيرنج كرومر" عن انجلترا و "كريمر"
عن النمسا و "بارافلي" عن إيطاليا .
وكان الرئيس الفعلي السير "ريفرس ويلسون"
، وأول أعمال ويلسون الاستيلاء علي أملاك الخديوي الواسعة ، فصاح إسماعيل قائلا
أنهم يريدون القضاء علي بتجريدي من ثروتي الشخصية وطردي بعد ذلك من مصر بفرمان من
الباب العالي .
وقد أشفقت اللجنة في تقريرها التمهيدي الذي
رفعته إلي الخديوي في 11 مايو سنة 1878 علي موظفي الحكومة ، وطلبت أن تدفع لهم
مرتباتهم باعتبارهم فيما يتعلق بمرتباتهم دائنين ممتازين خصوصا وأن مصلحة الدائن
نفسها في حسن سير الإدارة العامة التي تضمن إيرادات الضرائب . وأشفقت أيضا علي
الفلاحين الذي يضطرون لأجل سداد ديون ضاعفتها الفوائد إلي بيع مواشيهم وحاصلاتهم
بل وأرضهم بثمن بخس .
والواقع أن اللجنة وسعت دائرة تحقيقها كما
سنفصله في فصل آخر ، فانتقلت من درس موارد مصر ومشروع التصفية المالية إلي أعمال
إسماعيل ، وختمت تقريرها بقولها أن الحاكم الأعلى يتمتع بسلطة لا حد لها ، وبناء
علي ذلك دعي إسماعيل إلي تكوين وزارة مسئولة فصدر مرسوم 28 أغسطس بتأليف وزارة
برئاسة نوبار ، وكان قد انحاز لانجلترا وعضوية "ريفرس ويلسون" في
المالية و"دي بلنيير" المراقب المالي الفرنساوي في الأشغال .
وألغيت المراقبة الثنائية التي قام عليها
الكوند مونيوم وضمنت انجلترا لنفسها النفوذ الأول في الوزارة الجديدة وتعيين
ويلسون في المالية وبذلك انتقل الحكم المطلق من إسماعيل إلي السير ويلسون وزير
المالية الانجليزي .
وقد سار ويلسون علي خطة إسماعيل التي كان
يندد بها فعقد فرضا جديدا مع "بيت روتسلد" مقداره الأسمى 8 مليون
وخمسمائة ألف جنيه بضمانة أملاك الخديوي واستعملت الوسائل القديمة في جباية
الضرائب فعم البؤس في البلاد ، وكان الفلاحون يسعون مواشيهم والنساء حليهم ، وكان
المراقبون يملأون المحاكم بطلبات الحجز .
وظلت الخزانة خاوية وبقي الموظفون الوطنيون
لا يتقاضون مرتباتهم بينما كان الدائنون تدفع قطعياتهم غلي آخر درهم ، وكان
الموظفون الأجانب يتقاضون المرتبات الضخمة بينما عددهم في ازدياد ، إذ ألحق
منهم بخدمة الحكومة المصرية في سنة 1876
وحدها ما لا يقل عن 119 موظف جديد ، و131في سنتي 1877 و 1878 و 208 في 1879 و 250
في سنة 188 ، و122 في سنة 1882 حتي بلغ عددهم 1300 يتقاضون ما يزيد عن 350,000
جنيه في العام .
ومن الثابت أن السير ريفرسون بدأ يفكر جديا
في تسوية الدين بطريقة نهائية بعد أن تحققت أغراضه السياسية واغتصب سلطة الحاكم
الشرعي ، وهذا ما حدا به إلي أن يقترح علي إسماعيل إعلان إفلاسه ، وتأجيل دفع بعض
الديون وإنقاص الفوائد الفادحة التي تثقل الخزانة إلي 5% .
ولكن مجيء هذا الحل بعد ما هلكت القرى
والبلاد وتدخل الأجانب في شئون المصريين تدخلا أثار حميتهم القومية دفع إسماعيل
إلي المقاومة وعزل الوزارة الأوربية 15 إبريل سنة 1879 ، وتعيين وزارة وطنية بحتة
برئاسة شريف باشا ، وقد وضع إسماعيل بالاشتراك مع نواب الأمة وممثليها خطة مالية جديدة
وكانوا هم الضامنين لها ، ولكن الدول لم تنم علي هذه الإهانة التي تقضي علي نفوذها
في مصر ، وكان ما يتوقعه إسماعيل من عزلة بواسطة الباب العالي بناء علي طلب
انجلترا وفرنسا يونيه 1879.
وقد ترك إسماعيل بعده تركة مثقلة بالديون
التي تبلغ مائة مليون من الجنيهات .
هكذا بدأ الخديوي إسماعيل حكمه بالحصول علي
قرض بقيمة 5,704,200ج خمسة ملايين جنيه وسبعمائة وأربعة ألف ومائتي جنيه ، وتم
عزله ومصر مدينة بمائة مليون جنيه من جراء الإفراط في القروض بفوائد باهظة .
يقول مركز البيان للتخطيط والدراسات
الإستراتيجية : " أول قرض
اقترضه الخديوي إسماعيل عام 1864 بحجة : حاجة الحكومة
إلي المال لمقاومة الطاعون البقرى الذي انتاب البلاد في ذلك العهد ، ولسداد أقساط
ديون سعيد باشا ويقول مؤلف ( تاريخ مصر المالي ) ص18 " إن مقاومة الطاعون البقرى كانت حجة واهية ، لأن الفلاحين
والملاك هم الذين احتملوا وحدهم الخسائر الناشئة عن هذا الطاعون ، ولم يرد
بميزانية سنة 1864 مما أنفقته الحكومة في هذا الصدد سوى 125,000 جنيه ، في حين أن السبب الحقيقي للقرض : أن الخديوي إسماعيل سار سيرة بذخ
وهوى وإسراف ، واستكثر من شراء الأطيان والأملاك لنفسه والإنفاق عليها ، استدان القرض الأول في 24 سبتمبر سنة 1864 من بيت " فرولينج وجوشن" الإنجليزي ، وقيمته 5.704.200 جنيه إنجليزي بفائدة 7% لمدة 15 سنة
وبلغت الفائدة الحقيقية مع الاستهلاك 12% ، وهي كما ترى فائدة فاحشة ، ولذلك لقي
القرض إقبالاً عظيماً من المكتتبين في سنداته ، وقد رهنت ضرائب الأطيان بمديريات
الدقهلية والشرقية والبحيرة لسداد أقساطه.
ونضيف من واقع ما فهمناه من الكتاب القيم أن
الخديوي إسماعيل تحالف مع المعارضة المصرية المناهضة لخضوع مصر للإدارة الأجنبية
حتي يتخلص من قيودها إلا أن العكس هو ما حدث ، حيث تمكنت انجلترا وفرنسا من حمل
السلطان العثماني علي عزله واستبداله بالخديوي توفيق وفقا لمقترحهم .
أما الخديوي توفيق فيقول عنه الدكتور/ محمد
صبري :
" أما الخديوي الجديد فإنه فوض أمره إلي
الدولتين صاغرا منذ ارتقي العرش لأنه كان يعلم أنهما هما اللتان أجلستاه علي العرش
، وكان مثال الضعف والاستسلام ، مجردا من الصراحة ، ميالا إلي الأثرة والاستبداد ،
وكان ألعوبة بالطبع في يد كل من يعرف كيف يملقه ويسليه ، وهو الآن طوع خادمه
فردريك ".
وفي موضع آخر من الكتاب يشير المؤلف إلي أن
الصدامات التي حدثت بالإسكندرية بين المصريين والأجانب والتي سقط جرائها العشرات
قتلي من الطرفين والتي ترتب عليها دخول الانجليز إلي مصر واحتلالها لمدة قاربت
الأربعة وسبعين عاما ، كانت بالاتفاق والتواطؤ بين الخديوي توفيق الخائن والانجليز
، وأن الهدف من هذا التحالف البغيض كان القضاء علي الثورة العرابية .
بذخ السيسي في حفل إفتتاح تفريعة قناة السويس التي لا قيمة اقتصادية لها |
ولاشك أننا نري ما يفعله السيسي تنفيذا
للأوامر الصهيونية العالمية بدءا من حصار غزة وتدمير سوريا والعراق وليبيا وتدمير
رفح وتهجير أهلها لخلق منطقة خالية بقصد تأمين إسرائيل وبيع جزيرتي تيران وصنافير
والموافقة علي بناء سد النهضة الأثيوبي .
وهنا نسأل هل يؤدي خضوع السيسي للغرب وعلي
رأسه أمريكا وإسرائيل باعتبارهم من خططوا للانقلاب وساندوه وأجلسوه علي عرش مصر
إلي نفس المصير ؟
هل تؤدي القروض الباهظة التي حصل عليها من
دول الخليج ومن فرنسا ومن روسيا ومن المواطنين المصريين في مناسبات متعددة نذكر
منها حفر تفريعة قناة السويس التي لا قيمة لها ولا مقصد منها إلا الصور التي
التقطها السيسي لنفسه من علي سطح الباخرة المحروسة ، هل تؤدي هذه القروض إلي عودة
مصر إلي الاحتلال المباشر كما أدت إلي تفجير مدينة رفح وتهجير أهلها وبيع جزيرتي
تيران وصنافير والموافقة علي سد النهضة الأثيوبي ومساندة بشار الأسد ضد الشعب
السوري وحفتر ضد الشعب الليبي ؟
هل تؤدي إلي قبول السيسي لتقسيم مصر ومنح
دولة أو حكم ذاتي لمن يحلمون بذلك ؟
بالتأكيد الأيام القليلة القادمة ستكشف لنا
ذلك لاسيما أن السيسي لا يمتنع عن تنفيذ أي طلب من طلبات الصهيونية العالمية
وينفذها علي الفور دون أن يعير أدني اهتمام للرأي العام المصري .
وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية
ببرلمان الثورة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق